مجلس أعلي.. لحكماء الإعلام
محمود نافع الإعلام بعد ثورة يناير مثل قبلها "عنده مشكلة".. مشكلته بعد الثورة أنه في بعض الأحيان يفقد البوصلة والاتجاه فيتوه عن الهدف ويتوه الهدف عنه.. ومشكلته قبل الثورة هي العكس تماما. فالإعلام الرسمي والخاص والحزبي لم يفقد أبدا بوصلته بل ظل متمسكا بها ومحافظا عليها لأن فيها حياته وبقاءه. فلو نظرنا إلي الإعلام الرسمي قبل الثورة سنجد أن بوصلته أهم أدواته. وليس المطلوب سوي أن يضبطها علي "الرأس الكبيرة" وكل الرءوس التي حولها. وكذلك الرءوس التي تخطط وترتب في المواقع المختلفة لدوران الكون في فلك أفكار الرأس الكبيرة. من هنا كان يستيقظ بعض كبار الصحفيين والإعلاميين المسئولين في الصحافة والتليفزيون كل صباح وكل تركيزهم علي البوصلة التي هي عدة الشغل لتشميعها وتلميعها وضبطها في اتجاهات المصلحة العليا.. مصلحته ومصلحة النظام وأركانه.. بعدها ينشرون ويبثون لكي يقنعونا بأن تلك هي المصلحة العليا للوطن. ومن أبجديات المصلحة العليا للوطن أن يمتع القراء والمشاهدون والمستمعون آذانهم وعيونهم وعقولهم بتركيبة شربة الخروع الإجبارية علي غيار الريق وبعد القيلولة وقبل الخلود إلي النوم.. ولذلك لابد من أن يتجرع "الكورس" كاملا.. يبدأ بقراءة أو سماع ورؤية تصريحات الرئيس في مانشيت الصحيفة أو رأس موضوعات وأخبار التليفزيون والراديو.. يجئ بعد ذلك دور قرينة الرئيس في الخبر التالي.. ثم يميل بالبوصلة ويحرك الوجهة والاتجاه إلي أمانة السياسات حيث ابن الرئيس والذي كانوا يعتقدون أنه قد يكون الرئيس ما بين عشية وضحاها.. بعد ذلك يأتي الدور علي رئيس مجلس الشوري فهو الذي يكتب الورقة السحرية للتعيين والتجديد.. ثم بعد ذلك ينوب وزير الإعلام جانبا مهما من الليلة لأن الرجل له كلمة مسموعة ولابد من شراء خاطره. وأضعف الإيمان كسر سمه. وهكذا بات بقاء المسئول في الصحافة والتليفزيون والراديو مرهونا بانضباطه وانضباط بوصلته علي موجة النظام وأركانه. والإعلام المعارض كانت له بوصلته أيضا - وانتبهوا أنا أتحدث عن البعض وليس عن الكل - فمثلما كان الإعلام الرسمي يبحث عن سلطة يغازلها ويتمرغ علي أعتابها كان الإعلام الخاص والحزبي يبحث عن السلطة لكي يهاجمها لا لشيء إلا لمجرد الإثارة.. فمنذ أن عرفنا الإعلام الخاص وهذا الإعلام يريد أن يكون مسموعا ولافتا لانتباه القارئ والمشاهد والمستمع. لذلك كان عليه أن يكون في كثير من الأحيان ملونا باللون الأصفر الفاقع المثير فيعض الكلب ويجعل النملة تنزل الحلبة لمصارعة الفيل وتهزمه. البعض كان يفعل هذا دون غرض إلا أنه يريد أن يتميز ويحصل علي نصيب معقول من التوزيع والمشاهدة وكعكة الإعلان.. والبعض الآخر - وهم ليسوا كثرة - كان يعتمد علي نظرية الصوت العالي. والذي هو مثل العيار أضعف الإيمان "سيدوش".. ويدوش تلك شبكة رزق مضمونة المفعول.. إذا ألقوها في بحر الاقتصاد اصطادت حيتان رجال الأعمال. وإذا ألقوا بها علي المسئولين تصطاد الأموال والأراضي والفيللات والشقق "بالعبيط".. وتفنن البعض خصوصا رؤساء الأحزاب فألقوها علي الحكومة وعلي النظام فتم تحرير عقود زواج وشراكة ومصلحة. كل شروطها تتلخص في بند واحد وهو "التمثيلية".. المعارضة تمثل أنها تكره النظام وتريد أن تخنقه. والنظام بدوره يتمني لو أنه كان يملك استيكة بحجم البلد لكي يمحو تلك النوعية الفاسدة من المعارضة باستيكة ولذلك فإن ما جاء في لجنة النظام الانتخابي بمؤتمر الوفاق القومي من توصيات مقترحة يستحق وقفة طويلة.. التوصيات تقترح حرمان أعضاء وقيادات الحزب الوطني المنحل من ممارسة العمل السياسي لمدة خمس سنوات.. علاوة علي حرمان رؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير الصحف القومية والإعلام المرئي والمسموع خلال حكم النظام السابق من ممارسة كافة حقوقهم السياسية لتضليلهم الرأي العام طوال الثلاثين عاما الماضية وانحيازهم للنظام الفاسد وللحزب الذي ثبت زيفه. باختصار هناك بشر ضللوا الرأي العام وشوشوه وكانوا أشد ضررا من السحابة السوداء التي حجبت الرؤية وشفطت الأكسجين وأطلقت بكثافة ثاني أكسيد الكربون فخنقته وأمرضته وحولت الدنيا من حوله الي فساد وإفساد. هؤلاء البشر حلفاء الشيطان كانوا مزروعين في كل سنتيمتر حولنا.. في الحزب ومجلس الشعب والمجالس المحلية والأحزاب التي مثلت دور المعارضة وفي الصحافة والإعلام.. كانوا كذلك ممزوجين في مكونات الهواء الذي نستنشقه وجزيء الماء العكر الذي نشربه ورغيف الخبز المسموم الذي نتسمم به. باختصار كنا محاصرين بهم ومعهم.. فقد عاهدوا النظام وأقسموا معه القسم أن يضللونا بعد أن يعصبوا رؤوسنا وعيوننا لنبقي أبد الدهر في حظيرتهم مربوطين بحبالهم يسحبوننا الي حيث يريدون وقتما يشاءون. هكذا كان حال الإعلام قبل الثورة. وتشخيص هذا الحال من كل المراقبين والمتابعين وأيضا من المتضررين أنه كان اعلاما فاسدا والسبب أنه كان يملك بوصلة. وما كان عيبا في الإعلام قبل الثورة يختلف عما بعدها. فالبوصلة التي كان وجودها عيبا وسبة قبل الثورة. يكون غيابها بعد الثورة هو العيب الأكبر الذي يعاني منه الإعلام.. كيف؟ الإجابة أن النظام رحل واندثر وأصبح تراثا سيرته غير عطرة. لذلك لم يعد عندنا بعد الثورة اعلام رسمي واعلام خاص. أصبح فقط عندنا اعلام يدور في فلك القاريء والمستمع والمشاهد ونتفننن في ارضائهم. ونتفنن في ارضائهم هذا هو مربط الفرس.. بداية خلطنا بين مفهوم ارضاء الكل. وبين ارضاء البعض.. استجبنا للأقلية المتحدثة صاحبة الصوت العالي ولم نهتم بالأغلبية الصامتة التي ليس لها صوت.. كانت النتيجة أننا نطبخ في ديسك الجريدة وكنترول التليفزيون والراديو تلبية وترضية لرغبات الزبون الذي يصرخ وليس استجابة لمكنون نفس الأغلبية الصامتة التي تتمزق ألما وقلقا علي حال البلد الذي تجاوزت أزمته كل الخطوط الحمراء وباستجابتنا لأصوات الأقلية وصم آذاننا بعيدا عن أنات الأغلبية وأوجاع البلد ربما دخلنا - لا قدر الله - في غياهب نفق مظلم لا يعلم مداه إلا الله. أؤكد ان هذا يحدث من الإعلام الذي كان رسميا وخاصا وحزبيا دون قصد. فالمؤكد ان الجميع يحب البلد ولا أحد يزايد علي ذلك أو يجادل فيه والمؤكد ان كل وسائل الإعلام الآن بكل ألوانها وأطيافها مجتمعة علي محطة وصول واحدة وهي رسو السفينة علي بر الأمان. ولكن المشكلة ان كثيرين منا فقدوا البوصلة فغامت الرؤية وتاهت السبل التي تؤدي بنا إلي محطة الوصول التي يتفق عليها الجميع.. والنتيجة: نتفق علي أن تدور عجلة الإنتاج فنكتشف أننا نديرها إلي الخلف وليس إلي الأمام.. نتفق علي أن تعود الشرطة إلي الشارع حتي نقضي علي البلطجة والفوضي ليعود الأمن والأمان فنكتشف أننا بتناولنا الإعلامي وتغطياتنا المختلفة نقصي الشرطة ونضعفها ونضيء كل الأضواء الخضراء للجرأة عليها. ونتفق علي حب الجيش وعلي ضرورة أن الجيش والشعب يد واحدة. فنكتشف أننا من حيث لا نقصد ننشر ونبث ما يرسخ للفرقة والبعاد بين الشعب وقواته المسلحة. نتفق علي مليونية للقمح والقطن والإنتاج والاكتفاء الذاتي. فنكتشف أننا وبدون قصد فعلنا العكس وتسببنا في "مليارية" للقلع وليست للزرع. وللاستدانة ومد الأيادي بدلا من تشمير السواعد للعمل والجد والاجتهاد والحصاد . في النهاية وبسبب غياب البوصلة تغيم الرؤية وتضل السفينة طريقها وبدلاً من أن نرسو بها علي الشاطيء نكتشف أننا نتجه بها إلي مثلث النوات والأعاصير.. من هنا أقترح في تلك الظروف الصعبة أن يكون عندنا ما يمكن تسميته "المجلس الأعلي لحكماء الإعلام" يتم تشكيله من المفكرين والسياسيين والإعلاميين من كل ألوان الطيف ولا يزيد عددهم علي 50 شخصية. علي أن ينعقد كل فترة لكي يصوِّب المسار ويصححه تجاه محطة الهدف المتفق عليها. وهذا المجلس تكون سلطته معنوية. حتي لا يزايد أحد علي أحد أو تقيد جهة ما الإعلام بشتي أشكاله وألوانه. كل المطلوب أننا بين فترة وأخري نتفق علي الهدف ومحطة الوصول ونترك للإعلام أن يختار السبل ويدق الطرق.. وكل المطلوب بعد ذلك أن هذا المجلس إما أن يبارك سلامة الخُطي وصواب الطريق. وإما أن ينبه قائلاً: هذا الطريق لا يؤدي إلي المحطة صوبوا المسار قليلاً يرحمكم الله. باختصار أكثر الناس.. كل الناس من حقها أن تفرح بالثورة وأن تجني ثمارها وتبتعد عن حصاد أشواكها.. عاشت مصر وبارك الله في ثورتها. وفي إعلامها الطيب والذي يتحتم عليه في تلك الظروف ألا يقول إلا الكلم الطيب حتي نفوِّت الفرصة علي الخبثاء الذين يريدون بمصر وأهلها سوءًا. * نقلا عن "الجمهورية" المصرية
Comments