المحتوى الرئيسى

الثورة فى مجتمع الصوت والضوء

06/08 08:13

ليس فى مصر حالة اضطراب أمنى، بل الأكثر منها هو ذلك الاضطراب الفكرى، والنرجسية التى لا ترى إلا تحت أقدامها، فلا نقاش جاداً حول المستقبل القريب ولو لثلاث سنوات مقبلة. فقط غارقون فى: ماذا أولا الانتخابات الرئاسية أم البرلمانية أم كتابة الدستور؟.. ومن سيكون الرئيس هل هو عمرو موسى أم محمد البرادعى أم مرشح الإخوان؟.. كنت بالأمس فى جلسة قاهرية مع بعض الأصدقاء، وطرحت أمامهم بعض السيناريوهات العادية التى يقوم بها أى طالب دراسات علوم سياسية لتقييم وضع أى دولة، فبرقت أعينهم وكأننى أتكلم عن أشياء جديدة. قلت لأصدقائى: هل تعلمون أن مصير الديمقراطية فى مصر مرهون بتصرفات بنيامين نتنياهو أو مصيرها فى يده؟ فشهقت سيدة كانت إلى جوارى وقالت: «يا نهار أبيض.. كيف؟». قلت: لو أن الجيش الإسرائيلى قام بأى تحرك يوحى بأنه حالة تأهب واستعداد تجاه الحدود مع مصر، فإن المشير طنطاوى سيصدر أوامر مماثلة للجيش المصرى ويعلن حالة الطوارئ، وبدلا من أن يدير المجلس العسكرى قضايا التحول نحو الديمقراطية من انتخابات برلمانية ورئاسية، ستنزل الستارة وتُظلم الدنيا ونعود إلى عهود الديكتاتورية باسم مواجهة إسرائيل، وسيكون أيضا «الجيش والشعب إيد واحدة» فى مواجهة العدو، وتدخل مصر عصر حكم العسكر مرة أخرى ومن أوسع أبوابه ويسلم الشعب حريته للجيش مرة أخرى، كل هذا يحدث بحركة واحدة من نتنياهو لو أراد. ولا ندرى كيف يفكر نتنياهو وجماعته. هذا هو السيناريو الأسوأ وربما الأقل حدوثا، ولكنه سيناريو لم يتناقش حوله المصريون من الثوار أو غير الثوار. فهل يعقل أن مجتمعا يدعى ملكيته عقولاً فذة لا يناقش بديهيات سيناريوهات المستقبل؟ فقط احتفاليات، ومحاضرة للدكتور فلان والأستاذ علان ودورهما فى الثورة وفى بناء المستقبل، ومين حياخد وظيفة إيه فين؟ سيناريو آخر لابد أن يتأهب له المصريون وهو سيناريو انفجار الإقليم فى وجه مصر الثورة. بمعنى أنه رغم الثورات فى دول الجوار فى ليبيا إلى الغرب واليمن إلى الجنوب الشرقى، ثم سوريا فى الشمال الشرقى، فإن هناك دولا قد لا يصيبها فيروس الثورة هذا العام وإنما بعد ثلاث سنوات مثلا، ومنها إسرائيل والخليج برمته إن لم يحسن إدارة مجتمعاته بالطريقة العقلانية، فماذا ستفعل مصر التى ستكون، بعد عام أو عامين، فى دور النقاهة كمريض يخرج من سريره لأول مرة، هل سيصيبها الفيروس مرة أخرى وتدخل فى انتكاسة أو نكسة؟.. ماذا ستفعل مصر إذا عاد إليها ملايين العمال من الخليج فى لحظة ثورة أو غضب، هل سترسل وفداً شعبياً إلى إيران كما تفعل بعض القوى غير المسؤولة فى مصر اليوم؟.. سيناريو انفجار الإقليم برمته وتأثيره على الثورة المصرية لم يتدارسه المصريون ولو للحظة حتى فى جلسات من يدعون أنهم أهل علم أو أهل خبرة.. المصريون مشغولون بظاهرة كتبت عنها أيام حكم المخلوع وهى ظاهرة «مجتمع الصوت والضوء».. رحل مبارك وبقيت الظاهرة. والصوت والضوء على الطريقة المصرية هو مجرد «شو» أو عرض كاذب مصمم للأجانب السائحين، كى يتعرفوا على تاريخ مصر الفرعونى عن طريق تسليط الأضواء على التماثيل، ويخرج صوت يحكى لهم قصة التمثال، طريقة بدائية جدا لمن يعرف آخر ما توصلت إليه التكنولوجيا فى موضوع الشو بيزنس. ولكن أصحاب الشو فى مصر يظنون أن ما يقدمونه هو أبدع ما اخترع الإنسان الحديث لإبهار الغربيين بتكنولوجيا بدائية وبقراءة ساذجة للتاريخ. هذا جزء مما كتبته قبل الثورة عن بعض خصائص المجتمع المصرى التى مازالت مستمرة، ولها تأثير كبير فى نقل مصر من حالة الصوت والضوء إلى حالة الجد التى تتعامل مع سيناريوهات المستقبل بشىء من النضج. كتبت منذ عام على صفحات هذه الصحيفة «منذ أكثر من ربع قرن، كان هذا الصيف هو أطول فترة قضيتها فى مصر، تحركت أسعى بين الناس من النخبة إلى عامة المواطنين فى القاهرة وفى أقاصى الصعيد، وما شاهدته كان أطول عرض للصوت والضوء رأيته فى حياتى. العرض الكاذب المستمر للصوت والضوء هو جوهر المجتمع المصرى الذى يبدو على حافة الانهيار اليوم، ومع ذلك فإن أصحاب الصوت والضوء «مجموعات الشو بيزنس» مستمرون فى العرض وقد أقنعوا المجتمع بنجاحه. عرض كاذب يحتاج إلى كثير من العمل والجد كى يكون عرضا مقنعا، دعك من كونه حقيقيا أو غير حقيقى، قابلا للتصديق أو غير قابل للتصديق. بعد الثورة مازالت مصر الثورة تقدم عرض الصوت والضوء البديل، فالذين لم يكونوا فى العرض أيام مبارك، ظهروا فى المشهد الآن، لكن عرض الصوت والضوء مستمر، فقط تغير الواقفون على خشبة المسرح أو تغيرت الأصوات الصادرة من التماثيل المحنطة ذاتها. ولهذا لا يتناقش المصريون فى سيناريوهات جادة لمستقبل بلدهم، هم مشغولون بالعرض المستمر، عرض لأتفه ما فى مصر لأن الذين قاموا بالثورة، عادوا إلى بيوتهم، بعد أن كفنوا شهداءهم، وتركوا العرض لجماعات تخصص فى الشو بيزنس، وفى التوك توك شو. لذا قد نغمض أعيننا وتروح ثورة مصر فى شربة ميه.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل