المحتوى الرئيسى

مصطفى النحّاس....؟!بقلم: محمد هجرس

06/06 22:09

مصطفى النحّاس....؟! بقلم: محمد هجرس** لا أعرف كيف أرثيك يا صديقي؟ لا أعرف كيف أرثيك يا أخي الأكبر؟ لا أعرف كيف استجمع حروف الكلام، لتنعي مصطفى النحاس؟ زوج الأخت الذي لم أشعر يوماً أنه مجرد زوج لشقيقة، أو أنه حسب العرف الاجتماعي مجرد "نسيب".. في غرفة الضيوف في منزلنا القروي، لا تزال إلى اليوم، صورة معلقة على الجدار، كان والدي ـ يرحمه الله ـ يتباهى بأن فيها مصطفى النحاس، زعيم الوفد التاريخي، في لقطة مع خال الوالد، يتصافحان، وبينهما وزير الحربية الأسبق محمد حيدر باشا.. وبروح الطفولة عندما أتساءل: كيف لصورة أن تصمد طيلة هذه السنوات على جدار طالما تغيّر، وكأنها تعبر عن عصر تغير؟ فيجيب الأب بابتسامة هادئة وبسيطة موجهاً بضع كلمات لي، بعد أن يشعل سيجارته قائلاً: إنه التاريخ يا ولدي.. قد يتغير لكنه يبقى! لم أكن كطفل، أدرك معنى التاريخ، أو الجغرافيا، ولكن كان يكفيني حكايا جدتي ـ رحمها الله ـ وهي تتفاخر بسعد باشا زغلول، خال جدتها، أو كانت عندما أذاكر مادة التاريخ، وعندما تسمعني استرجع معلومات الحملة الفرنسية على مصر، وكيف تزوج الجنرال جاك فرانسوا مينو، بزبيدة ابنة الشيخ محمد البوّاب، إمام مسجد وأحد أعيان مدينة رشيد التي تبعد عن قريتي قرابة 10 كيلو مترات في أقصر شمال دلتا مصر، حتى تطلب مني التوقف، ثم تشير لي بإعادة القراءة مرة أخرى، ثم تقول بفخر، إنها قريبة للشيخ البواب، وتضيف لي معلومة، لم تذكرها كتب التاريخ التي ندرسها، وهي أن زبيدة أنجبت من الجنرال، طفلاً اصرت على تسميته سليمان، تيمنا باسم سليمان الحلبي، قاتل الجنرال كليبر الذي خلفه مينو. هذه المعلومة التي تبقت في ذاكرتي الآن، بعد أن تعيد لي تدريس تاريخها الخاص ببساطة، تاريخ لا يبتعد كثيراً عن سعد باشا، ومصطفى النحاس باشا، وثورة 1919، حتى في عز حرب أكتوبر 1973، كانت تفرح بالثأرن وتطلق زغاريدها منتشية، وداعية الله أن يحقق حلمها البسيط، وهو أن يعود سعر "تذكرة" الشاي كما كانت تطلق على الكيس وقتها إلى 10 مليمات، بعدما ارتفع إلى 15 مليماً. *** بين الصورة على الجدار، وبين الحقيقة التي كتبها قانون الحياة، جاء مصطفى النحاس، ليخطب شقيقتي، كنت بالصف الأول أو الثاني الثانوي لا أدري، كل ما أعرفه أني اعترضت بشدة، على الزواج، كان مصطفى تقدم لأختي، بعدما توفي خطيبها الأسبق المهندس، فجأة بأزمة قلبية، قبل موعد الزفاف بأسابيع، فأصر هو على أن يكمل مشوار شقيقه، وتصر أسرته على ذلك، بينما أنا كنت أفكر بعقلية مراهق، يشفق على أخته التي كانت تحب خطيبها، وكيف أنها ستتواءم نفسياً مع أخيه، أسرته، كانت تقول الكلام التقليدي :"إننا لن نجد أحسن منكم" ولا أنسى منظر والدته ووالده ـ يرحمهما الله ـ اللذين كانا يحملانها فوق رأسيهما، إجلالاً لذكرى الابن الراحل، وتقديراً لقبولها الابن الآخر. ولأنني لم أستطع استيعاب العلاقات الإنسانية بين البشر، فقد زدت إصراراً على الرفض، لدرجة أني قاطعت حفل الزفاف، وافتعلت خناقة مع أحد أشقائه، زعل مني والدي، لكن أختي لم تزعل، كانت تتفهمني عندما شرحت لها، وحتى وهي في الكوشة، كنت أرقبها من بعيد، وأنا أكثر إشفاقاً عليها، وأدرك ما يعتمل في صدرها، كان وجهها البريء يخلو من ابتسامة "العرايس" رغم ما تفتعله من مشاهد فرح، فأكبرتها أكثر وأحببتها أكثر. لكني بعدها، أقر وأعترف أني كنت مخطئاً بشدة، في كل زيارة كنت أراها تحتفل بي بشكل خاص، حتى عندما "نتخانق" سوياً، سرعان ما نعود كأصفى ما نكون، كان مصطفى النحاس، أو عثمان كما كانوا ينادونه، وادعاً كيمامة، ضاحكاً حتى في أقسى لحظات الحزن، مبتسماً حتى وهو يقاوم آلام المرض. وجهه الطفولي الضاحك، عندما كنت أمارس بعض مقالبي عليه، لا يغضب أبداً، كل ما كان يفعله، هو أن يشيح بوجهه عني ثم يقول "والها أنت راجل بايظ" ثم يضحك، ينسى المرض ويجلس معنا، لم يترك فرضاً حتى وهو على سرير الموت. في آخر زيارة لي قبل ثمانية أشهر، وجدته يضحك، حتى وهو في غيبوبة، ابتسامته تثير الاستغراب والدهشة، تحس أنك أمام ملاك وليس في حضرة بشر، داعبته وقلت له، يالله قوم أنت بس وأنا أجوزك أحسن من البت دي، أقصد أختي، فيشير لي دون أن ينطق، ما معناه انه لن يجد أفضل منها.! عندما كنت أحادثه، كان يوصيني بأن أهتم بنفسي، وكان يلومني على إفراطي في التدخين، للدرجة التي كان يخبئ علبة السجائر مني، أو يشير لابنته الصغيرة أماني بأن تلتقط بعضاً منها كي أقلل التدخين، كنت أحس أنه يخاف علي أكثر مما أخاف. كنا نعرف إنه سيموت، لأن الحالة تزداد سوءاً، لكني لم أتخيل أني سأنزل إلى مصر ولا أراه.. لم أستوعب بعد كيف سأدخل المنزل، ولا أجده كي أحكي له نكتة، أو أعمل فيه مقلباً.. بالتأكيد هو لم يختر موعد موته، الذي صادف السبت 5 يونيو ذكرى النكسة، قبل نزولي مصر بأيام قليلة، لم يمهله القدر أياماً لأراه النظرة الأخيرة، أو لأمشي في جنازته، أو لأتقبل فيه العزاء.. *** الآن يا مصطفى.. وبعد كل هذه السنوات، كنت أتمنى أن تعيش لأعترف لك بأنني أخطأت في حقك، عندما رفضتك سابقاً. الآن يا مصطفى.. وبعد أن متّ ونطقت الشهادتين مرّتين قبل أن تلفظ آخر أنفاسك، كنت أود أن تسمعني وأنا أعتذر لك للمرة الأولى أو الأخيرة عن طيشي، الذي لم تذكرني به قط، أو حتى تأخذ مني موقفاً لأجله. الآن يا مصطفى.. عرفتُ أنا درس التاريخ الذي لخّصه لي أبي في مجرّد صورةٍ على الجدار.. وعرفتُ درس الحياة التي تفرض أقدارها حتى بتشابه الأسماء.. وقبل هذا وذاك، عرفتُ كيف يكون الدمعُ عصيّاً في وداعك، لأنك لا تزال أمامي بصورتك، وصوتك، وضحكتك وابتسامتك.. رحمك الله يا أخي الأكبر، ويا شقيقي ويا صديقي.. ورحمنا الله من بعدك. ــــــــــــــــــــ ** كاتب وصحافي مصري [email protected]

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل