المحتوى الرئيسى

لحظات الموت في ميدان التحرير

06/06 18:30

بقلم: عبده مصطفى دسوقي رحم الله شهداءنا الذين ضحوا بأنفسهم في ثورة 25 يناير، والذين واراهم التراب، وكانوا يحلمون برحيق الحرية، لكن الشهادة قطفتهم قبل أن يستنشقوا هذا الرحيق، لينعموا برحيق الجنان عند رب كريم، نحسبهم كذلك.   وأكرم الله هذا الشعب بنصرٍ من عنده لصبره، وتضحياته وتقديمه الشهيد تلو الشهيد، حتى سقط الجبروت وانهار بنيان الظلم المتهاوي.   نجحت الثورة بتوحد الرفقاء، وكان الشعب على قلب رجلٍ واحدٍ، فما شعرنا ونحن في التحرير بفرق بين تيار وآخر، أو قوى سياسية وغيرها، لقد كان انصهار الشعب بحيث لا يستطيع أحد أن يفرق بينهم.   لكن بعد ذلك تشتت رفقاء الدرب بعد أن نصرهم الله، وأخذ كل واحد يصنع من نفسه بطلاً على حساب الآخر، وكأنه هو وحده الذي كان في الميدان، وكأنه هو الذي صنع النصر في هذه الثورة، وأخذ بعضهم يتهم الآخر أنه لم يشارك في الثورة، وأنه يريد أن يركب الموجة لينال من كعكة النصر، ووجدنا الاتهامات تنال جماعة الإخوان المسلمين خاصة والإسلاميين عامة بشكل خاص، وكأن الإخوان كانوا أثناء الثورة في برجٍ عالٍ، بعيدين عن الثورة ويهاجمونها، وكأنهم أصابهم الرعب والفزع فاستكانوا في منازلهم، ولم يغبروا وجوههم بتراب التحرير، أو تراب أية محافظة، ومن تهمة إلى تهمة ضدهم أخذت الصحف والأقلام تكتب وتستعدي عليهم كل كاره من أجل النيل من قوتهم أو تاريخهم.   فبعد أن كانوا يتهمونهم بأنهم لم يشاركوا في اندلاع الثورة إلا بعد جمعة الغضب، خرجت نغمة أخرى تتحدث عن كون مكتب الإرشاد أمر شباب ورجال ونساء الإخوان بالانسحاب من ميدان التحرير وقت معركة الجمل، وترك مَن فيه يواجه مصيره.   مفارقات توقفت كثيرًا حول هذه الاتهامات التي لا صحة لها، وتساءلت على من يكذب هؤلاء؟ هل يكذبون على أنفسهم حتى صدقوها؟ أم أنهم يكذبون على شعب صنع النصر بوحدته وتلاحمه؟ وتذكرت قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)﴾ (البقرة)، وتذكرت قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (الأنعام: من الآية33 )، هل نسي هؤلاء الصحفيون والإعلاميون والكتاب أن من حضر معركة الجمل كان يمثل بيتًا من بيوت المصريين؟ هل نسوا أن معظم هذه البيوت كانت بيوت إخوان مسلمين، وكانت هذه البيوت تعلم أن ابنها أو زوجها أو أباها كان في معركة الجمل؟ هل نسوا أن جيران هذه البيوت كانوا يعلمون بوجود هؤلاء في التحرير وقت معركة الجمل؟ هل نسي هؤلاء أن الأهالي بالحي والقرية لترابطهم كانوا على علم بوجود هؤلاء النفر في الميدان وقت معركة الجمل؟ هل نسوا أم أنهم يكذبون على أنفسهم؟   عطف مبارك في يوم الثلاثاء 1/2 وبعد أول مظاهرة مليونية احتشد فيها الشعب المصري لأول مرة في هذا الحشد الكبير في تحدٍّ كبير للظلم الذي ظلوا فيه سنين عددًا، وبعد انتهاء اليوم ونزول القوات المسلحة شاهدت الحشد الذي كان عاملاً قويًّا في تحجيم القوات المسلحة في التعامل بالشدة مع معتصمي التحرير؛ حفاظًا على دماء المصريين الشرفاء؛ لكن ما إن حل الليل تبادر الجميع للجلوس أمام شاشة العرض والتي وفرتها للجميع وحدة الإعلام في الميدان لمشاهدة (الجزيرة)، والكل ينتظر خطاب مبارك لعله يثلج صدورهم بالتنحي؛ لكنه خطب خطابًا دغدغ فيه العواطف والمشاعر، وانهمرت كثير من دموع بعض المعتصمين، وفجأة انتهى الخطاب وظهرت بوادر الشقاق في الميدان ما بين مطالب بالانصراف ليُعطى الرجل فرصة إنهاء فترة رياسته وآخر يطالب بتركه  يموت على أرض الوطن كما طلب، وغالبية مصممة على مواصلة الاعتصام، وكان هؤلاء هم الذين شاركوا من أول يوم في الثورة، وشاهدوا الشهداء يتساقطون الواحد تلو الآخر، واستقر الرأي على مواصلة الاعتصام، وانصرف البعض على أمل العودة في الصباح الباكر لكونه منذ الصباح واقفًا على قدميه، وفي صباح يوم الأربعاء 2/2 نظرت حولي فوجدت الميدان شبه خالٍ إلا من أبناء الأقاليم وبعض أبناء القاهرة والجيزة؛ لكني قلت لعل الناس انصرفوا بعد يوم شاقٍ وطويل في مظاهرة مليونية، وسيعودون على الظهر كعادتهم.   معركة الجمل ولحظات الموت في التاسعة صباحًا انصرفت لتسليم مواد تحديث الموقع على أمل الرجوع مباشرة قبل صلاة الظهر، وبالفعل سلمت ما معي، وبدلت ملابسي، واتصلت بالدكتور أيمن علي- المدرس بكلية العلوم جامعة القاهرة- بعدما شاهدنا بوادر الخيول تدخل ميدان التحرير، وأسرعنا إلى الميدان، واتصلت بالدكتور باسم عودة- المدرس بكلية الهندسة جامعة القاهرة- لأخبره بما يجري؛ فقال إنه في الطريق، وأثناء ركوبنا المترو أخذنا نتصل بكلِّ من نعرف من الإخوان، سواء داخل الميدان أو خارجه؛ لنطمئن على الأحداث ولمعرفة أفضل الطرق التي ندخل منها، ووصلنا الميدان بعد الظهر وشاهدنا الموت بعينه، والصراخ ينطلق من إذاعة الميدان.. احموا المداخل يا شباب.. احموا النساء يا شباب.. وهنا زاغت العيون والقلوب وتتواتر علينا الأخبار أن كثيرًا من البلطجية قادمون من شارع شامبيليون وآخرين من شارع طلعت حرب وآخرين من على كوبري قصر النيل والأغلبية من  ميدان عبد المنعم رياض جهة المتحف.   فوصلت والتحمت مع المجموعة التي كانت واقفة في مواجهة البلطجية ناحية كوبري قصر النيل، ووجدت الثوار يجهزون العدة والتراشق مستمر، ثم توقف التراشق وكل فريق يجمع نفسه، لكن شتان بين الفريقين، فريق يعمل من أجل هدف وغاية، وفريق لا يعرف له هدفًا ولا غايةً إلا المال الذي حصل عليه من نواب الحزب الوطني.   واعتلى البلطجية أعالي الدبابات الواقفة، وفجأةً بدأ التراشق بقوة بين الطرفين كأننا في معركة حربية مجموعة تأتي بالطوب، وأخرى تكسر وتجهز هذا الطوب، ومجموعة ثالثة تقذف هذا الطوب على العناصر المهاجمة من البلطجية، وفجأة بدأت الإصابات في صفوف الثوار، وكلما نظرت حولي وجدت كل من أعرف من الإخوان سواء في الجامعة أو الهرم وفيصل أو من أعرف من إخوان الجيزة، وغيرهم من الأقاليم، أضف إلى ذلك أن كثيرًا من العناصر الأخرى من أطياف الشعب المصري، واستمر الوضع حتى أذن للمغرب وقسمنا أنفسنا حتى صلينا المغرب والعشاء، وفي نفس التوقيت كنَّا على اتصال بالمداخل الأخرى للاطمئنان على ما يحدث، وحينما خف الضغط من جهة الكوبري وجدنا البلطجية أتوا من ناحية شارع القصر العيني من خلف مجمع التحرير، وسارعنا بسد هذه الجهة ثم سمعنا الإذاعة تطلب المدد في اتجاه المتحف الحربي لشدة الضغط عليه، وسارعنا نحو المتحف، وفعلاً وجدنا الضغط شديدًا، وتركنا البعض يؤمن المداخل الأخرى، وأسرعنا للوقوف بجوار الثوار عند المتحف المصري، ومكثنا نضغط على البلطجية حتى الساعات الأولى من الصباح، ولم نعرف الراحة إلا وقت صلاة الفجر.   منذ أن وصلنا إلى الميدان كان لا بدَّ أن نعرف طريقنا وخطط التحرك داخل الميدان فكان اتصالنا بالدكتور عصام الحشيش، نائب مسئول الإخوان بالجيزة؛ لمعرفة المزيد من الأخبار، وكان مع كل كلمة يقول :"لا سبيل سوى الموت في الميدان.. لا انسحاب ولا استسلام"، وبعدها بفترة جاء حديثه عبر الهاتف أن إخوانكم في مكتب الإرشاد يقولون موتوا مكانكم وسيصل لكم المدد من كلِّ مكان، وانشغلنا بحماية المداخل والتصدي للبلطجية واتصل أحد الإخوان بالمنصة ليعلمه موقف الإخوان مما يحدث، وأنهم لن يغادروا الميدان بأية حال من الأحوال، وبعدها بدأت المنصة توجه الثوار، حسب ما يصل إليها من معلومات عن أماكن الضغط من قِبَل البلطجية.   لا أنكر طبعًا بأية حال دور كلِّ الأطياف ولا أقول إن الإخوان المسلمين كانوا وحدهم في معركة الجمل؛ لكني لمعرفة الكثيرين منهم سواء في القاهرة أو المحافظات الإقليمية هم كانوا الأغلبية لكني وجدت شبابًا كثرًا وبناتٍ من صميم الشعب المصري يتلاحم ولا يعرف أحد من أي اتجاه أو قوى سياسية، هؤلاء المجاهدون مكثوا في الميدان في ساحة حرب من الساعة الحادية عشرة صباحًا من يوم الأربعاء حتى الساعات الأولى من صباح الخميس لم يعرف أحد طعم الراحة في هذا اليوم، ولم تنطلق الحناجر تعبر أن هذا إخوان أو ليبرالي أو يساري أو غيره؛ لكن الجميع كانوا على قلب رجلٍ واحدٍ، حتى إننا ونحن عند المتحف لم يستطع أحد الحركة بسبب الضغط الشديد، فوجدنا فتاة عادية غير محجبة تحمل الخبز ومعها شخص يحمل بعض الماء ليمد الثوار في الخطوط الأمامية بهذا الزاد حتى يستطيعوا الصمود، وما نطق أحد أن هذا الخبز مقدم من جهة معينة أو غيرها لأن الجميع انصهروا في نسيج واحد.   وأثناء وقوفنا فوق سيارات الجيش المحترقة نصد الهجوم، فوجئت بعدد من الأقباط يقفون بجواري وقد عقد كل واحد منهم بقميصه حول خصره وأخذ يرشق البلطجية، وما سمعت أحدهم يخبر بهويته.   وكنت واحدًا ممن يحملون ألواح الصاج ليحتمي وراءها الثوار ليقذفوا بالطوب، ومع الساعة الثالثة سمعنا طلقات الرصاص، وفجأة وجدنا من ينادي: إسعاف، كنا بفضل الله قد  دحرنا هؤلاء البلطجية لمكان بعيد عن تمثال عبد المنعم رياض، وبدأ الشهداء من ناحية المتحف يتساقطون، وأسرع لأعاون في حمل هؤلاء الشهداء، وكان ثالث مَن يدخل عربة الإسعاف شخصًا أعرفه من الزقازيق وهو عبد الكريم رجب- الطالب بجامعة الأزهر الفرقة الرابعة- فنظرت إليه فوجدت الرصاصة قد دخلت من جبهته لتخرج من أعلى رأسه، واستشهد فور دخوله سيارة الإسعاف، وكنَّا نسمع عن وصول مدد من الناس، وأن النائب الدكتور محمد البلتاجي قادم بعدد، ووجدنا الشيخ صفوت حجازي يصل ليشاركنا الوقوف على الجبهة عند المتحف، حتى سمعنا الرصاص يمر من جواره.   وأثناء وقوفي كنت أسأل عن إخوان الأقاليم فكان يقول لي من أعرف: إنهم متفرقون على المداخل ليحموها، ورأيت الكثيرين، أمثال الدكتور موسى زايد مرشح الإخوان بدسوق- كفر الشيخ، وعددًا كبيرًا من إخوان كفر الشيخ، وإخوان الجيزة والزقازيق وغيرهم من إخوان المحافظات الذين احتشدوا في المليونية الأولى، وانتظروا لليوم التالي ليشاركوا في معركة الجمل.   أنا أتحدث كشاهد عيان حضرت هذا اليوم وشاهدت مَن فيه من الإخوان، وكما قلت لقد كان الإخوان والقوى الأخرى والشعب كله متضافرًا في إنجاح هذه الثورة.   المزايدة بعد نجاح الثورة خرج مَن ينكر دور الإخوان في بداية الثورة، ومنذ أيام زادت الحملة لينكروا دورهم في معركة الجمل التي وقعت يوم الأربعاء 2/3، ولا أبرر دور الإخوان من وجهة نظري؛ لكن تحدث عن هذا الدور الكثيرون بعد الثورة؛ فتحدث بلال فضل في كلمة سطرها التاريخ شهد فيها بأن من حمى الثورة يوم معركة الجمل هم الإخوان المسلمون، وكذلك نجيب ساويرس، في مداخلة حتى إن المذيعة تعجبت من شهادة نجيب ساويرس بذلك، والشيخ أحمد النقيب، ومصطفى الفقي، والصحف في اليوم التالي والإعلام.   لكن بعد أن استقرت الأمور بدأت المزايدة للنيل من الإخوان لإضعافهم، خاصة أن الانتخابات على الأبواب، وحتى لا يتمكنوا من الحصول على مقاعد كثيرة في البرلمان، ولا أدري حتى متى ستظل الديمقراطية المبتورة هي المحرك الأساسي لهذه العناصر التي كانت لا تتكلم في عهد النظام السابق، بل بعضهم كان يخدِّم على مصالح هذا النظام، فإذا انقشعت الغمة أصبحوا هم الأبطال وغيرهم الجبناء، أصبحوا لا يريدون تطبيق مبادئ الديمقراطية التي كانوا يتغنون بها وقت النظام السابق؛ لأنها ليست في مصالحهم؛ لكن يريدون تطبيق الديمقراطية التي تأتي بمصالحهم وتقصي الآخر، وكل ذلك على حساب الوطن ودفع عجلة الإنتاج.   والسؤال الآن ماذا يريدون من الإخوان بالضبط؟ فليعلنوا رغبتهم صراحة حتى تسير البلاد إلى تقدم لا إلى الخلف، ولا نريدهم أن يكون هدفهم التجريح والتلاسن فحسب؛ لكن كما كان الجميع طيلة ثمانية عشر يومًا يدًا واحدة لا بدَّ أن نعود لأن نكون يد واحدة حتى نتقدم وتتقدم بنا البلاد، وإلا لن تقف للبلاد وقفة إذا ظل التناحر والبغضاء والفتن وتوقف الإنتاج والخراب يخيم على هذا الوطن.   ولينزل هؤلاء المزايدون إلى الشوارع فليعرضوا بضاعتهم ولينافسوا منافسة شريفة، وألا يلقوا بحجج هي أهون من بيت العنكبوت.   ------------------ * رئيس تحرير موقع إخوان ويكي (ويكيبيديا الإخوان المسلمين)[email protected]

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل