المحتوى الرئيسى

الطنطورية) .. ملحمة الشتات والصمود والألم)

06/03 09:05

بقلم: صبرى حافظ 3 يونيو 2011 08:56:16 ص بتوقيت القاهرة تعليقات: 0 var addthis_pub = "mohamedtanna"; الطنطورية) .. ملحمة الشتات والصمود والألم) قليلة هى الروايات التى تغنيك قراءتها عن قراءة عشرات الكتب فى التاريخ والمأثورات الشعبية والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية وعلم الإنسان، وعلم الاجتماع، وحتى الجغرافيا، حول شعب معين، أو مرحلة تاريخية محددة. ثلاثية نجيب محفوظ الرائعة (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) من هذه الروايات التى تعلّم قارئها الكثير عما دار فى مصر على مد فترة زمنية طويلة من تاريخنا الحديث تمتد من الحرب العالمية الأولى حتى قرب نهاية الحرب العالمية الثانية، أو بالتحديد من 1917 ــ 1944(2). ورواية رضوى عاشور الجميلة الجديدة (الطنطورية) هى الأخرى من هذا النوع من الروايات النادرة التى تغنيك قراءتها عن قراءة عدد من المراجع الكثيرة والمتنوعة عن فلسطين منذ قبيل النكبة، عام 1947 وحتى ما بعد عام 2000 وتحرير الجنوب اللبنانى بقليل: تاريخها، قراها، عذابات أهلها وصمودهم، مأثوراتها الشعبية، لغتها، أغانيها وأهازيجها، أشجارها وزرعها ومحاصيلها، ورموزها، وما جرى لأهلها الذين أجبروا على النزوح منها بالعسف والبطش والتطهير العرقى والتقتيل، ولم يسلم تاريخهم بعدها من هذا العنف الذى زرعه المشروع الصهيونى البغيض فى واقعنا العربى وما زال يرعاه ويعيش عليه حتى اليوم.صحيح أن الرواية تعود إلى أزمنة سابقة على 1947، وتتحدث عن دور الأب والعم فى مقاومة الانجليز وانتفاضات 1930 و1936 وغيرها من الأحداث الفلسطينية الكبرى، لكن زمن الرواية السردى ينطلق حقيقة من تلك اللحظة التى بدأت رضوى عاشور فيها روايتها، فى عام 1947. لحظة أن خفق قلب بطلتها «رقية» بالحب لأول مرة وهى فى شرخ المراهقة، لم تكمل بعد الثالثة عشرة من عمرها، حينما انشق البحر، وطلع عليها طرحه فى هيئة هذا الفتى الوسيم «يحيى» ابن «عين غزال» الذى لن يقدر لها أن تراه بعد تلك المرة الأولى، برغم أنه جاء مع أهله وخطبوها. فالرواية كما يقول عنوانها، والعنوان هو عتبة النص الأولى، هى رواية «الطنطورة» تلك القرية الساحلية الفلسطينية التى تتداخل فى البحر والواقعة إلى الجنوب قليلا من حيفا، والتى محتها العصابات الصهيونية من على الخريطة أو كادت عام 1948. أو بالأحرى هى رواية تلك المرأة «الطنطورية» الفريدة «رقية» التى ولدت عام 1935 أى أنها من جيل رضوى وإن كانت تكبرها بتسع سنوات، (إذ ولدت رقية فى نفس العام الذى ولد فيه عدد من أبناء جيلنا من محمد عفيفى مطر إلى بهاء طاهر وعبدالحكيم قاسم وأحمد حجازى) لكن هذه المجايلة مهمة لأنها زودتها بشىء أساسى، تحرص عليه رضوى عاشور فى جل كتاباتها منذ (حجر دافئ) وحتى (فرج)، ألا وهو الخبرة العميقة بالشخصية والمعرفة الدقيقة بالزمن التاريخى الذى تكتب عنه. فبطلة الرواية وإن كانت مختلفة كلية عن كاتبتها هى بنت زمنها، وبنت شىء من خبرتها بهذا الزمن وفهمها له.وللبنية الزمنية فى هذه الرواية حديث يحتاج إلى دراسة ضافية. تقدم لنا الرواية بعض مفاتيحها حينما تقول لنا: «استحلوا البلد وأطلعونا فشردنا إلى لبنان. تمضى الحكاية، ولا تمضى تماما، لأنها وهى تتقدم إلى الزمن التالى تظل ترجع وتسترجع» (ص 148). فالحكاية تبدو وأنها تمضى فى زمن خطى يبدأ كما قلت من عام 1947 ويتسمر إلى بدايات هذا القرن الحادى والعشرين، ولكنها برغم خطيتها البادية تلك «ترجع دائما وتسترجع»: ترجع لأننا كما تعلمنا الرواية نفسها لا نستطيع أن نفهم الحاضر إلا إذا ما وضعناه فى سياقه وماضيه، وتسترجع لأن الاسترجاع هو أداتها السردية لإعادة خلق ما يمحوه المشروع الاستيطانى البغيض من الذاكرة مرة، ومن أرض الواقع بالهدم والتجريف والدمار أخرى، وتثبيته فى وعى الرواية ووعى القارئ معا. فالرواية هى رواية تذكر واسترجاع. مروية من خلال منظور «رقية» التى طلب منها ابنها حسن (ابن النكبة بلا نزاع فقد كان رضيعا حينما وقع العدوان الثلاثى على مصر، وتأكدت بهزيمتنا العسكرية فيه النكبة وترسخت) أن تكتب حكايتها/ شهادتها: «إحك الحكاية! اكتبى ما رأيته وعشته وسمعته، وما تفكرين فيه وإن صعُبت الكتابة، إحكِ شفاهةً وسجلى الكلام، بعدها ننقله على الورق. هذا مهم يا أمى! أهم مما تتخيلين» (ص 204) نعم هو أهم مما تتخيل «رقية» التى عاشت المأساة برمتها، لأن حكايتها تتحول من خلال هذا السرد المؤتلق المستعاد إلى حكاية فلسطين، وإلى جزء من ذاكرة تاريخية قومية تكتب ملحمة الشتات، وتطرح الحقيقة الفلسطينية وتفاصيلها الغنية بالصمود والحياة فى مواجهة الأكاذيب والأساطير الصهيونية التى لا تزال تسعى لتخليق شرعية زائفة لدولة الاستيطان الصهيونى فى فلسطين.وتبدو الرواية بسبب غناها السردى والفنى الفادح وكأنها مفتوحة على قراءات متعددة، وتأويلات مختلفة ولكنها فى الوقت نفسه مؤتلفة. ففى مستوى من مستويات التأويل تبدو وكأنها رواية امرأة عربية ورحلتها مع الإخفاقات والتحقق، رواية امرأة ورحلتها مع التكوين Bildunsroman والتحرر النسوى Feminist إن شئنا استخدام المصطلحات الشائعة. حيث تحكى قصة «رقية»، هذه الصبية «الطنطورية» الرقيقة التى فرض عليها المشروع الصهيونى البغيض تجربة الشتات والنفى. طردها من قريتها الساحلية الوادعة، وحرمها من حبها الأول، وجعل حياتها سلسلة من الارتحالات والمنافى. قصة تسترجع فيها «رقية» ما فعلته بها تصاريف الحياة، وما عاشته فيها من أفراح وأتراح، وتلخص لنا فى الوقت نفسه تجربة المرأة الفلسطينية التى فُرِض عليها أن تُحرم من أرضها، ومع ذلك حافظت على هويتها وصلابتها، ورعت ثقافتها الشفهية والاجتماعية، وساهمت بقدر ما تستطيع فى الحفاظ على نفسها وكرامتها كامرأة وكأم، وعلى قضيتها حية ومستمرة ومتقدة، دون طنطنة أو زعيق. وأهم من هذا كله نقلت هذا الوعى بهويتها وكرامتها وعدالة قضيتها إلى أبنائها وأحفادها من بعدها، وجعلتهم لا يحافظون على هويتهم فحسب، بل يعتزون بها ويدافعون عنها، ويحمونها من التبدد والنسيان.أو تبدو فى قراءة ثانية وكأنها رواية أجيال، تستخدم منظور المرأة والسرد المستعاد لتحكى لنا قصة أسرة من أربعة أجيال، ترسم لنا على غلافها الأخير شجرة عائلتها التى تبدأ بالجد الكبير «أبو الصادق» الذى ولد عام 1906 فى «الطنطورة» وقتله الصهاينة بعد وقوعه فى الأسر عقب اجتياح «الطنطورة» عام 1948، ودفنوه مع ولديه فى مقبرة جماعية للأسرى فى مجزرة أخرى من المجازر العديدة التى قام على دمها المشروع الاستيطانى الصهيونى، وصولا إلى الحفيدة «رقية» ابنة حسن المولودة فى «اللد» عام 2000، برغم ملحمة الشتات الطويلة. فهى ابنة زواج فلسطينيى الشتات بفلسطينيى الأسر المعروفين بفلسطينيى 1948. وهى قصة تكتب من خلال تناسخ الشخصيات وتكرار الأسماء أو توالدها من بعضها البعض استحالة محو العدو لفلسطين، أو القضاء على الفلسطينيين. فبعد أن يقتل الصهاينة أخواها الصادق وحسن، ويلقون بجثتيهما على الكوم مع جثة أبيها، تنجب «رقية» من جديد، فى نوع من الانتقام المراوغ أو الضمنى، الصادق وحسن، وفوقهما فوق البيعة، عبدالرحمن. فقد دأب العدو الصهيونى على قتل رجال هذه «الطنطورية» المدهشة: قتل أباها وأخويها ثم جاء إلى بيروت ليقتل زوجها إبان اجتياحه لبيروت، ودأبت هى بدورها على تبديلهم برجال جدد أشد من أسلافهم وعيا وصلابة.أما «رقية» نفسها فإنها تشهد بعثها من جديد وهى لا تزال حية مرتين: أولاهما فى صورة «مريم» تلك اللقية الرائعة الطالعة من مذابح الاجتياح الصهيونى لبيروت والتى لا نعرف، وهذه ضربة معلمة روائية أخرى إن كانت حقا فلسطينية أم لبنانية، وثانيتهما من صلبها هى، لأن ابنها حسن ينجح فى نهاية الرواية فى أن تولد ابنته «رقية»، المسماة على اسم جدتها «الطنطورية»، فى «اللد» وعلى بعد كيلومترات من «الطنطورة». فنحن إذن بإزاء «طنطورية» جديدة تولد فى «اللد»، وعلى أرض فلسطين التاريخية، وليس فى المنفى. وهو أمر بالغ الدلالة من الناحية الفنية، وبضربة معلمة حقا، من حيث التخطيط السردى وبينة الرواية الأيديولوجية، حيث تستنبت الرواية بطلتها من جديد، بعد عمر من التشتت، ولكن فى فلسطين التاريخية المحتلة منذ عام 1948، وكأنها تستشرف عبرها مستقبل القضية الفلسطينية، وعودة الأهل للأرض التى طردوا منها غدرا وعدوانا.لكن لا يزال فى جعبة الرواية الكثير مما سنتعرف عليه فى الأسبوع القادم.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل