المحتوى الرئيسى

الثورة الجزائرية في شعر راشد حسين* بقلم:د.حسين ابو النجا

06/03 17:04

د.حسين ابو النجا الثورة الجزائرية في شعر راشد حسين إذا كانت الجدلية بين الشعر و الثورة حقيقة لا يختلف فيها اثنان على اعتبار أن الشاعر بعض النظر عن أي انتماء هو بالضرورة ثائر على الواقع ، فانه لا غرابة أن يهتم الشعراء بالثورة في مفاهيمها المتعددة ومنها الثورة المسلحة على اعتبار أن هذه هي "اللغة الجامعة للوجدان العربي"1". والباحث في موضوع الثورة في الآداب المختلفة ينطلق أساسا من أن أية ثورة هي في الواقع ثورة عامة تتجاوز الخصوصية إلى آفاق أخرى اكثر اتساعا ، وخاصة حين يكون لهذه الثورة تأثير على مجريات الأمور في مناطق أخرى من العالم كالثورة الروسية مثلا ، حيث تركت بصمات واضحة على مختلف الأشعار في العالم منذ قيامها إلى حين انهيار الاتحاد السوفييتي قبل عدة سنوات، أو حين تكون قبلة للثوار بصفتها حلم شعب كما هو الحال في الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي فكان الشعراء"ذاكرة امتهم وضميرها الحي الخلاق"2" . و الحق أن الثورة الجزائرية قد فرضت نفسها على الوجدان الإنساني بعامة والعربي على وجه الخصوص ،وأصبحت خبرا يوميا للناس ومنهم الشعراء الذين اخذوا يخلدون هذه الثورة بأجود ما في قرائحهم من مشاعر نبيلة ،ومن ضرورة التعاضد مع كل رفض لاي احتلال أجنبي فانطلقوا الى "إيقاظ المشاعر ودفع الوعي القومي..للجهاد والكفاح"3". و بديهي بعد هذا كله أن تمتزج الثورة الجزائرية بوجدان الإنسان الفلسطيني ليس بحكم "أنها هي التي تسببت في انهيار الجمهورية الرابعة"4" ، وليس لأنها أول ثورة شعبية تنتصر بشكلها ساحق على الاستعمار ،وإنما بحكم أنها تقدم له البرهان على أن بإمكانه أن ينتصر على الاحتلال الإسرائيلي و أن يكتب لثورة النجاح مثل ما حدث في الثورة الجزائرية . و من المؤكد أن هذا الإحساس يتضاعف اكثر حين يكون الفلسطيني في الأرض المحتلة يعاني معاناة مزدوجة في أرضه بشكل يومي، الأمر الذي يهنيْ الوجدان للتمرد من ناحية ،و التطلع من ناحية أخرى إلى تحقيق الأمل على اعتبار أن الثورة الجزائرية مثال واقعي مقبول على صعيدي التنظير والتطبيق معا . وإذا كانت الثورة الجزائرية "هما أدبيا " 5" لدي جميع شعراء فلسطين فإنها متميزة عند راشد حين ، وينبع هذا التمايز من انه قد اهتم بها في ديوانه صواريخ بقصائد عديدة لفتت النظر في مرحلة مبكرة من مراحل الثورة ومن حياة الشاعر ،فلم يكد عند ظهور الديوان قد انقضى على قيام الثورة سوى ثلاث سنوات ،ولم يكن قد مضى عليه هو في الحياة سوى واحد وعشرين عاما، ثورة فتية وجيشان شباب اتفقا على صياغة المستقبل العربي بما يتفق و المصلحة القومية . لقد اشتمل صواريخ على أربع قصائد جزائرية، وإذا اعتبرنا قصيدة "رسالتان" قصيدتين ارتفع العدد إلى خمس قصائد، ولولا القافية لاعتبرت قصيدة "الثوار ينشدون "ثلاث قصائد ليصبح العدد سبع قصائد كاملة. و الذي لا شك فيه أن الشاعر حين يهتم وهو في العشرين بالثورة الجزائرية هذا الاهتمام ،فان ذلك يعني فيما يعني أن الثورة الجزائرية لم تتغلغل في الوجدان فقط ، وإنما جعلت الوجدان يعيشها حتى ولو على حساب حياته ، ليس رومانسية، وليس اندماجا في الآخر ، وإنما لان المرحلة التاريخية الاجتماعية كانت تؤكد أن ذلك هو المنطق المقبول والمعقول في أن واحد ، فقد "اندلعت الثورة الجزائرية لتعيد الثقة الى كل نفس عربية"6". و المتأمل في قصائد راشد حسين الجزائرية يمكن أن يلاحظ أن الشاعر فيها لم يكتف بجانب واحد ، وإنما ظل يجمع حتى ولو في القصيدة الواحدة بين الثورة من جهة والمستعمر من جهة أخرى، لم تسلم من الجمع قصيدة واحدة . وان الحديث عن الثورة يقابله بالضرورة حديث عن الجندي الغازي في معادلة تمثل السمة الأولى التي تميز قصائد راشد حسين . و السمة المميزة الثانية انه لم يقتصر في حديثة عن الثورة على جانب دون أخر، وإنما اهتم بالجانبين النظري و التطبيقي معا ،النظري متمثلا في أن الثورة الجزائرية فلسفة إنسانية ، والتطبيقي حين عبرت عن المجاهدين الذين يقومون بالفعل الثوري و يجسدون النظرية في الواقع الفعلي ، وتنتهي في الثوار يشيدون ابتداء من أن الثورة ما دامت قد قامت فإنها لا محالة منتصرة . ستفهم الصخر إن لم يفهم البشر أن الشعوب إذا هبت سنتصر ."7" ويتضح من هذا المطلع المقفي أن الشاعر لا يستعمل ضمير الغائب وإنما يستخدم بدلا منه ضمير المتكلمين في إشارة جلية إلى أن الشاعر يعتبر نفسه واحدا من ابناء الثورة يتكلم باسمها ويدافع عنها ،فهي ليست ثورة بعيدة عنه ،وإنما هي ثورته هو بها سيبقي ومن اجلها يغني . و الأمر الثاني الذي يوحي به هذا المطلع هو أن الثورة الجزائرية ماضية في طريقها عاقدة العزم على المضي فيه إلى النهاية حتى يفهم البشر ومعه الأحجار الصخرية أن الثورة منتصرة ، ومن المؤكد أن استعمال ليس يؤكد أمرا ثالثا مفاده أن النصر ليس حلما قد يتحقق وقد لا يتحقق ، وإنما هو حقيقة ليست في المستقبل البعيد ، وإنما تقع في وقت قريب ، واقرب مما يمكن أن يتصوره احد . انه يشارك في الفعل وهذه هي العلامة الفارقة التي تتميز بها هذه القصيدة. صحيح أن رائية القصيدة نفرض المقارنة مع المطالع المشاركة ، ولكن القضية مختلفة من زاويتين أولاهما رومانسية صاحب المطلع المشهور ، وان هذه الرومانسية تقوم على التحرر الفردي اكثر مما تقوم على التحرر العام ، و إن المطلع الآخر من ناحية أخرى قد ظل ينسج على الحيادية وضمير الغائب من دون أن يصل إلى المتهم ، فيتحول العام إلى خاص ، فيدخل راشد حسين نفسه من البداية في صلب القضية . وأن الفرق بين المطلعين هو الفرق بين التقريرية ومن الفعل الإداري للإقامة في الجبال ، وانه أيضا فرق بين الخيال وبين الواقع الذي تشيده كل يوم إرادة الثوار وهم ينشدون في وجه العدو بأنهم منتصرون على الرغم من الفوارق وعلى الرغم من الصعوبات . إن التأكيد على الانتصار في الواقع يتواكب مع اطراد الحركات وتواليها في بداية البيت ونهاية الصدر ، وكما في التفعيلتين الثانية والرابعة من العجز مما يدل على أن الأمر قد نفذ ، وان الثورة قد صارت حقيقة فعلا في مختلف انحاء الجزائر . دم الجزائر صدر الفخر كعتبته و ناره فوق صدر البغي تستعر . شواطئ العلم الخفاق مرتفعا مصبه ، و القلوب المنبع الغزر ."8" إن الشاعر يدخل إلى الجزائر مباشرة ، فالحلم قد صار حقيقة والأولى إتباع ما يجري في الواقع ، إن الدم الجزائري نار على البغي لا تنطفئ حتى يرتفع العلم ويخفق على الأرجاء ما دامت القلوب منبعا غزيرا : فليس يخمد نار البغي غير دم تبيض من هوله خصلاتها الحمر "9" إن البغي و الظلم لا ينتهيان إلا إذا تعتمد الدم الجزائري بالإرادة ضد بقاء الاستعمار . فالثائرون على جلادهم دمهم بحر وأشلاؤهم في وسطه جزر شعب تحطي فلا قيد يكبله و لا تغيبه في صدرها الحفر و تركزت في الزنود السمر مشنقه فيها تأرجح راس الغاصب القذر وجمدت في فم الثوار أغنية فالبندقية عود و اليد الوتر "10" إن المفردات المستخدمة هنا تتضخم مع الفعل ، وتحدده في صور عديدة لا تخلو أحيانا من نبضات فنية ،ومن تناصات غير قليلة . إن الأحرار على الموت من اجل الحياة هو الأغنية التي يرددها الثوار ،وهي التي تزار في وجه الغاضب أنه لا فكاك له ولا لأمته إلا بالانتصار ، وان عليه أن يستوعب الدرس وإلا فانه ينطبق عليه قول جياب "الاستعمار تلميذ غبي ": يا شانق النار ما أغباك من بطل هل يشنق النار حبل عظمه وبر "11" انه لا يمكن فهو إرادة الشعوب ، ولا يمكن شنق النار بالوبر والحبال . وانه مهما حدث فلن ينال من الثورة . صوغوا النواقيس والأجراس قاط ـبة مدافعا إن عرا فولاذكم خدر و كونوا من عظام الميت ميتكم بنادقا إن تناءى عنكم الشجر وجهزوا من دم الفتيان فتيتكم زيتا إن علاها بالصدأ المطر ."12" إن النصر آت رغم النواقيس ورغم كثرة فتيان الاستعمار وفولاذه ، فزيته صدئ لأنه لا يمكن أن يوقف زحف الثورة . مهما صنعتهم من النيران نخمدها الم تروا أننا من لفحها سمر"13" ان راشد حسين حين يربط بين النار والسمرة فانه ينطلق أولا من افريقية الجزائر ، وبديهي أن ذلك إشارة إلى التناقص مع المستعمر الأبيض الذي لا يقدر على النار ، وقبل أن ينهي الشاعر قصيدته يؤكد انه لا شيْ يفت في عضد الثورة: مهما شنقتم أعدنا بعث ميتنا بطلقة بملاك الموت تأتمر"14" أن شهداء الجزائر لا يموتون وإنما يبعثون من الموت للقتال في صورة شيخ وعكاز وحجر يمثلون"شخصية الجزائر المستقلة ذات الامتداد التاريخي"15" : ولو قضيتم على الثوار كلهم تمرد الشيخ والعكاز و الحجر "16" تتأكد الحقيقة انه كلما استشهد في الثورة الجزائرية مجاهد انبعث من رماده ألف مجاهد ، وانه سيدافع عنها الشيخ والعكاز و الحجر .وما دامت هذه هي إرادة الثوار فان على الاستعمار أن يحمل عصاه على كاهله وان يرحل ، فقد عرفت الشعوب أن الحضارة الغربية مزيفة و مأجورة . عودوا سئمنا حضارات مزيفة مجدورة بزني الماخور تأتزر "17" وبغض النظر عما في الإشارة إلى الماخور من مؤاخذة تنضاف إلى المؤاخذة التي أشار فيها الشاعر إلى الأجراس و النواقيس فان المطالبة برحيل المستعمر تبقى حقيقة ايجابية ، إن الحضارة القائمة على الاستغلال رئيس على التناقص العقائدي . إن الثورة الجزائرية ثورة تشق ضياء الشعب ، و تحب أن تحيا في النور . من دون أن تعرف لا القتل ولا الغذر . ما كان حبهم للقتل رائدهم بل حبهم لضياء الشمس مستعر"18" والمؤكد ان إقحام القتل هنا لا يزيد ان يكون انفعالا لا أكثر ، فالثائر لا يقتل وإنما يدافع عن حقه في الحرية، إن القتل جريمة ولكن الثورة حق معترف به أراد المستعمر أم لم يرد. وإذا كان المقطع الأول "دم" والرابع "تحدي" يتعلقان بالثورة ، فان المقطعين الثاني"أوراس" والثالث "باريس والأطفال" يتعلقان ببعض قيم الثورة ومبادئها ، فأوراس لم تخلق للموت وإنما خلقت أساسا للحياة . أوراس لم تخلقي كي تصبحي حفرا للموت يزرع في أحشائك البشر أوراس لم تخلقي كي تصبحي سببا لليتم يشكوك من أطفالهم زمر لكن خلقت ليروي منك ذو عطش و ينثني في حنايا صدرك الزهر و تلتقي فيك آمال يداعبها قلب فتى وحب ليس يندثر "19" فأوراس المجد ليس موطن تيتيم وانما هو مرعى حب وزهر و آمال لا تندثر . و لكن المستعمر هو الذي يرغم هذه الجبال شطر الحرية ومقاومة الاستبداد"20". لكنهم قدروا أن تصبحي لهم من دوننا فتخلى عنهم القدر فإن نقتل وإن نشنق كثائهم فالذنب ذنب غبي جاء ينتحر"21" يرجع الشاعر الذنب إلى المحتل الغازي ولكنه يعود مرة أخرى إلى ذكر القتل والشنق وهو كما ذكرنا من قبل مناقص لمنطق الثورة . ويستمر الشاعر الرغم من ذلك الى أن الثورة تركب الصعب ، و انه لا مفر أمامها سوى الدفاع عن نفسها حتى وان تسبب الدفاع في قتل بعض الناس وفي تيتم بعض الأطفال: وإن تيتم طفل من أحبتهم فنحن يجزننا أن يذبل الثمر وإن قسونا فمن قيد يعذبنا هل يرحم الفيل حتى يقتل النمر "22" ان المنطق الذي ينطلق منه الشاعر في إصراره على التبرير منطق وان كان مناقضا لمنطق الثورة ولطبائع الأشياء فانه لا يخلو من بعض وجاهة ، فالثورة شموخ ، ومن علامات الشموخ الترفع عن الصغائر .و أيا كانت الصحة ،فان الشاعر في ختام المقطع يعتذر للاوراس : أوراس عفوا إذا لم يبق في يدنا إلا حراب عليها ركز الظفر ."23" إن طلب العفو ينطلق من الأوراس إلى أطفال باريس : أطفال باريس عفوا من بنادقنا إن يتمتكم فما تيتيمكم وطر"24" ويمتد إلى الأمهات : فالعفو من أمهات فيك اثكلها رصاصنا جارفا أبناءها الشرر "25" إن طلب العفو وان كان أمرا إنسانيا ، إلا انه أمر في غير محله فيما يتعلق بالثورة ، وفي غير محله أيضا حين يتضمن بالحب: نحبكم مقلا للحب ظامئة وأغصنا غضة أوراقها خضر ."26" إن أطفال باريس وأمهاتهم ليسوا أفضل من أطفال الجزائر والأمهات الجزائريات ،ومن هنا فان قلب الأمور لا يخدم القضية بقدر ما يطمسها كما في هذا البيت : لكن طغت عصبة من شعبكم و بغت فلا جواب لنا إلا الدم العطر "27" ان تجميل البعض مسؤولية المجازر في الجزائر ليس رؤية فردية، وإنما يشترك فيها نفر غير قليل ممن يجبون فرنسا ولا يستطيعون نسيانها كشوفي : رماك بطيشه و رمي فرنسا أخو حرب به صلف وحمق "28" ان ادني درجات الوعي لا تقبل مثل هذا المذهب من وجوه كثيرة ومتعددة ، وانه مهما أضيء وجه فانه يعتم في مقابل هذه الإضاءة جهات غير قليلة ، و من هنا فانه لا ينبغي الغناء بهذه الأغنية . باريسكم يوم ثارت قال قائلها غذوا المصابيح حتى يطلع القمر باريس إنا اطعنا فاسكتي وخذي نار الجراح مصابيحا ستنفجر علمتنا فحفظنا ما نطقت به و اليوم فيما تعلمناه نختبر "29" ان حفظ الدرس مقصور على الجزائر وليس مقصودا به ابناء فرنسا، فهم يكفرون بكل ما نادت به فرنسا من قيم: يرعي الغريب أمورا تفخرين بها أما بنوك ففيما قلته كفروا يرون لكن تعاموا عن ضلالهم و أنكروا فأعدنا بعث ما نكروا ."30" إن التأكيد هنا مصبوب على أن المستعمرين فئة وليسوا الشعب الفرنسي، و أنهم ينكرون المبادئ التي تنادي بها الثورة الفرنسية ،وان هذا التأكيد محفوف بإشارة إلى أن الثورة الفرنسية قد كانت المعلم لكثير الشعوب . و حررت الشعوب على قناها فكيف على قناها تسترق "31" إن التأكيد كان يجب أن يطال الاستنكار لما تقوم به فرنسا في الجزائر، و انه إذا حررت نصف الشعوب بفضل الثورة الفرنسية فانه بفضل الثورة نفسها قد استعمرت شعوب أخرى ، ومن هنا فانه لم يكن مجديا تغطية الشمس بالغربال . إن الثورة الجزائرية لم تتعلم من الثورة الفرنسية بقدر ما علمتها، فالثورة الجزائرية لم تتعام عن رؤية الفرق بينها وبين الثورة الفرنسية . إذا البصير تعامى مات ناظره و لو تعبا من أثوابه البصر "32" إن المنطق الذي يبحث لفرنسا عن تبريرات واهية رفضته الثورة ،ولولا هذا الاستبدال لما ظفرت الثورة بالاستقلال رغما عن فرنسا ، ورغما عن الثورة الفرنسية ، ورغما عن أبطال الثورة الفرنسية الذين روضتهم أدوات المجاهدين في الجزائر ورغما عن المثقفين العرب الذين كانوا يبحثون في الثورة الفرنسية"عما هو من طبيعة ثورية" 33". المقاومة وحدها القادرة على النجاح، أما تلك التي تلتقي بالنظر إلي مواطئ القدم فإنها لا يمكن أن تنتصر ،وهو ما انتهى إليه الشاعر : فقد حلفنا وأعلنا إرادتنا إن الشعوب إذا هبت ستنتصر فليفهم الصخر إن لم يفهم البشر أن الجزائر في تاريخكم سقر "34" وواضح أن القصيدة تنتهي بنفس القوة التي ابتدأت بها ، وبنفس الرؤية من الإصرار على أن تكون الجزائر بالنسبة لكل الشعوب مثال للنصر على الاستعمار في كل الأوقات وفي كل مكان ، وواضح أيضا أن نهاية القصيدة وارتباطها بالبداية وتكرار أن الصخر يفهم إن لم يفهم البشر خاتمة موفقة تحتاج إليها القصيدة العربية . و الملاحظة على هذه الخاتمة أن هناك تغيرا طفيفا ، فقد وزع الشاعر مطلع قصيدته على آخر بيتين، ثم أضيف الى كل مقطع مصراعا حديدا لكي ينهى القصيدة بان الجزائر للاستعمار سقر. ومن المؤكد أن انتهاء القصيدة بهذا التخلص قد خفف مما وقع في ثناياها من مآخذ عادة ما يقع فيها الشباب ممن لم يختبروا الحياة كما ينبغي. وإذا كانت القصيدة السابقة قد جمعت بين المتضادين على المستوى الإقليمي ، فان قصيدته "رسالتان" ذهبت في اتجاه الجمع بين المتضادين على الصعيد الفرنسي ، فالجندي الفرنسي وخطيبته ليزا على طرفي نفيض ، ليس في مجهولية الجندي ومعلومية الخطيبة ليزا وإنما على المستوى البشري ، فالجندي وحش لا يأبه بشيء ، أما ليزا فإنسانه ، لا ترفض وحشيه خطيبها فقط ولكنها تتخلى عنه باحتقار شديد . و تتوزع القصيدة على رسالة من الجندي الى خطيبته ،وتتكون من ثلاثة مقاطع كل منها من اربعة ابيات اتفقت في البحر واختلفت في القافية . و تبتدىْ الرسالة على لسان الجندي النكرة : أنا في الجزائر اقتل الثوار با ليزا الحبيبة وأيتم الأطفال فالتيتيم مهنتي العجيبة كي تنعمي بالعطر با ليزا وبالحلل القشيبة أنا في الجزائر اقتل الثوار يا أحلى خطيبه "35" و الحق ان العجب ليس في المهنة ، ولكن العجب في هذا الحقد المتغلغل في ذات الجندي إلى درجة انه لا يكتفي يذكر القتل ، وإنما يتمتع بتكراره وإعادته ، و العجب العجاب أن يبعث بذلك إلى خطيبته ، فالخطيبة تنتظر عبارات الشوق والحنين ولكنه يحدثها عن تيتيمه للأطفال من اجل ان تنعم هي بالعطور و الحلل الجديدة. ان القتل والتيتيم حالة عصبية يعيشها الجندي في ذاته أولا وثانيا في علاقاته بالآخرين ، أن القتل عنده شيء عادي يمكن أن يتحدث عنه ببساطة كما يتحدث عن أي شيء آخر: بالأمس أطلقت الرصاصة نحو جبهة ثائر فقتلته وقطعت معصمه بحد باثر و حززت رأسا اقلق الوزراء راس الغادر و تركت جبهته مهيأة لذئب كاسر "36" ان القتل هنا يتجدد أولا بأنه قتل في الجبهة وليس في غيرها،والمؤكد أن إطلاق الرصاص على الجبهة يعني انه قتل جبان لأنه قتل عن قرب وليس من بعيد، ويعني مخالفة القوانين التي تمنع من قتل الأسرى، كما أن التمثيل بالجثة جريمة اخرى ، ولا شك أن مهاداة القائد المحبوب برأس المجاهد فظاعة ايضا ، وبغض النظر عن هذا كله فان المأساة لا تمكن في كل ما سبق وإنما تكمن أولا وأخيرا في الرؤية التي ينطلق منها الجندي ، ومما لا شك فيه انها رؤية استعمارية منطقها الوحيد هو القوة حين تواجه اعزل فارغ اليدين لا يستطيع أن يدافع عن نفسه . و مما يبعث على العجب أن القتل هنا يعتمد بالتذكير، فالجندي لا يقتل فقط، وإنما يذبح ويقطع الأوصال، ويرمي -زيادة على ذلك- الجثة إلى الذئاب الكاسرة. إن الذئب الكاسر الحقيقي هنا هو الجندي نفسه الذي لم يتورع عن ارتكاب الجريمة بعد الجريمة وهو ما لا يقدر عليه الذئب نفسه ، ومن عجب انه يستخدم في هذه الفقرة أفعالا ماضية: أطلقت، قتلت ،قطعت ،حززت، و تركت، وهي تفيد أن الفعل قد وقع و انه صار في الواقع حقيقة لا يمكن إنكارها، لقد صار تاريخا وجزءا من مكونات الواقع . و لا يكتفي الجندي بذلك وإنما يقدم الهدية لقائدة المحبوب من اجل أن يرضى عنه. وربطت معصمه المحطم في حزام البندقيه والرأس فوق الحربة الحمراء في دمها نديه و بعثتها للقائد المحبوب يا ليزا هديه و سوف اقتلهم جميعا في الظهيرة والعشيه"37" إن ختم رسالته بالإصرار على القتل تراجيديا لم يسمع بها من قبل احد ، و لن يسمع بمثلها من بعد احد ، و إن هذا الإصرار غير محدد بوقت وإنما يمكن أن يقع في كل وقت حتى لو كان هذا الوقت وقت راحة كما هو الحال في القيلولة أو في قلب الليل ، والحق أن هذا لا يعني إلا أن فرنسا لم تتورع في "استخدام أخس الأساليب "38"في سبيل إضعاف الثورة. وفي مقابل هذه الوحشية تقف الخطيبة ليزا موقفا مناقضا ليس فقط من خطيبها وانما من القضية برمتها : قبل أن سلمني الساعي رسالة كنت لي خير خطيب ففقدته كنت إن قيل بغت أمتكم و تجادلت مع الراوي هزمته كنت إن حققت عن نبلك مع بي كل شيء يكن منك وضعته إلى أن احضر الساعي الرسالة كنت رسما قدسيا فخر منه"39" والملاحظة اللافتة للنظر هنا أن الشاعر قد لجا الى التنويع في موسيقى القصيدة ، فقد تحول مجزوء الكامل الى تام الرمل ومرة أخرى يتكرر النهي ، فالخطيب يبدأ المقطع وينهيه بما ابتدأ به، فهو يقتل الثوار وهي تكرر فقدانها له منذ أن سلمها الساعي الرسالة ، إن وصول الرسالة إليها علامة فارقة بين مرحلتين، ما قبل الرسالة حيث كانت تصغي عليه كل الصفات الجميلة النبيلة ، وكانت تغالب وتغلب كل من ينتقد عمل فرنسا في الجزائر . كانت تدافع في الأول عن بلادها، وتنتصر على كل من كل يخالفها الرأي، ولكن الرسالة قلبت الأوضاع، وجعلتها تقرر أن تفارقه. منذ أن سلمني الساعي الرسالة أصبحت عيناك أدهى ذئبتين وذراعاك إذا ما طوقا جسدي في الحلم كانا حيتين كلما عدت إلى اسطرها سمعت أذناي أشقى صرختين صرخة الطفل الذي يتمته صرخة الزوجة تبكي فلذتين "40" لقد صار الجندي ذئبين وحشيين . إن من يغدر مرة قادر على الغدر مرة أخرى ، ومن يقتل بعيدا يمكن أن يقتل قريبا ،والذي يقتل العدو قادر على أن يقتل الصديق أيضا ، ومن هنا فان عمله "غير أخلاقي بمقياس الاخلاق الكفاحية"41" ، وانه لم يكن بد من قطع العلاقة دفعه واحدة : منذ أمس لم اعد مخطوبة كنت لي خير خطي ففقدته كل شيء حولي صار رافعا أصعب منها خلا عشيقته نظرة العذراء من نومه السرير أصبحت نوما رهيبا فهجرته و هداياك أفاع كلها كل شيء منك بالأمس حرقته "42" وواضح أن القصيدة تقوم على التقابل التام بين الرجل والمرأة ، بين الوحش والإنسان، بين الضمير الميت و الضمير الحي ، وواضح أيضا أن المغالاة هي المميزة للطرفين معا ، فالجندي متطرف في وحشيته، وليزا متطرفة في رفضها ، فلا توسط بينهما ، لا هنا ولا هناك ، وهي مغالاة غير مقنعة سواء في الجندي أو لدى ليزا . ومن جهة أخرى فان توزيع الأدوار غير مقنع أيضا، فالرجل وحش والمرأة ملاك. هل السبب في ذلك أن الجندي محارب وان المرأة غير محاربة، هل لان الجندي مخلوق للحرب والمرأة مخلوقة للعطر والحلل القشيبة. وانه لمن المؤكد انه يمكن أن بتحرر الجندي و يرفض طاعة الأوامر، وانه يمكن أن تكون المرأة جندية أيضا، فمن المعروف في الجيوش الأوروبية الحديثة انه لا فرق بين الرجل و المرأة في الجندية ،وان المرأة يمكن أن تذهب في القتال إلى أكثر النقاط اتهاما وتماسا ، ومن هنا فان قلب لأنه ممكن ومحتمل ،وما دام الأمر كذلك فانه لا يمكن الانطلاق مما ذهب إليه الشاعر ،ومن هنا فان الإصرار على التقتيل لم يخدم القضية من الأساس وذلك لافتقاره إلى أدوات الإقناع من جهة ،والى المنطق من جهة أخرى . والملاحظة اللافتة للنظر أن التقابل لم يقتصر على الجندي وخطيبته ولا على الوحشية والإنسانية وإنما امتد إلى التنويع في موسيقى القصيدة ، فقد تحول مجزوء الكامل في المقاطع الثلاثة التي على لسان الجندي إلى تام الرمل على لسان ليزا في المقاطع الثلاثة ايضا ، ومن المؤكد أن الشاعر لجا الى هذا التنويع للتعبير عن التفاوت النفسي في التجربة بين الجندي وليزا التي اتخذت شكل الصراع واقتربت من البناء الدرامي"43" وخلاصة القول أن قصائد راشد حسين عن الجزائر"انعكاس على صفحة شعره"44"، وان التحامه العميق بالثورة الجزائرية أمر طبيعي لان ذلك هو "الطريق المؤدي إلى تحرير فلسطين واستعادة الوطن""45" الذي اغتصبته الصهيونية منذ1948.***

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل