المحتوى الرئيسى

المثقف الوسيط: للقضاء على الفكر المتعالي والفكر البسيط بقلم:محمد الحمّار

06/02 21:14

لا أنوي تبيين كيف يحقق التهاون الإعلامي، نتاج الفكر البسيط، الإجهاز السيكولوجي على فكرِ واحد من أقطاب الفكر الإسلامي المعاصر. إلا أني سأغتنم الفرصة لدعوة القارئ الكريم للإجهاز بدوره على مثل هذا الفكر البسيط وعلى ما يقابله من فكر متعالٍ. أمّا ضالتي فهي: "فأمّاَ الزَّبَدُ فيَذهَبُ جُفاءً وأمَّا مَا يَنْفَعُ النّاسَ فيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ" (سورة الرعد:17) أثناء "مواجهة" أو "مُنازَلة" تلفزيونية على قناة "حنبعل" التونسية (برنامج "بلا مجاملة"؛ مساء 29 -5-2011) بين الأستاذ و"الابنة"، بين المؤرخ والمجتهد في الدين محمد الطالبي والأستاذة القديرة آمال القرامي أستاذة الحضارة بكلية الآداب، توجَهَت مُعِدّة البرنامج، بشيء من السذاجة لا محالة، إلى الأستاذ العلامة بملاحظة حول كونِه لم يكن مطلعا على الأدب النِّسَوي التونسي:" غريبٌ أن لا يعرف مفكرٌ مفكرًا". ثم، تِتِمّة لِما شرَعت فيه المُعدّة، عادَت الكلمة للأستاذة القرامي لتتوجه إلى الضيف الباحث بسؤال لا ينقص سذاجة عن ملاحظة مُعدّة البرنامج: "ما الجدوى من هذا الكتاب (مثل كتب الأستاذ الطالبي)؛ إلى أي حد سيجدُ الصدى لدى هذا الجيل؟" وإذا بشيخ العلم يجيبها بكل تلقائية لكن بنَبرةٍ ارتجالية واضحة لا تخلو من التحرج:" صحيح لكن لا بد أن تعلمي أنّ كُتبي لا تُباع بآلاف النسخ. والشباب يقولون لي إنهم لا يقرءون؛ لا يفهمون. بينما لا أقدر أن أكتب بلغة أبسط. لو فعلتُ لما كان لكتاباتي معنى"، قبل أن يستطرد مُنقذا نفسه أيّما إنقاذ: "هذا دوركم أنتم. أنتم الذين ستخلفوننا. إنه دوركم في التبليغ. فكرُوا في طرق التبليغ." فالذي ساءني ليس طرحُ مثل هذه القضية. ما ساءني هو انتظارها حتى تطفو على السطح هكذا و بكل ارتجال، بينما قضية الكِتاب والمطالعة والتثقف والتواصل من أخطر القضايا التي ينبغي أن تُطرح بكل وعي وإصرار وتروٍّ وثبات. وقد ساءني أن مَرَّ عليها الحضور مرور الكرام، عدا لطفي العماري الذي سيتدارك الأمر في نهاية الحصة. فآمال القرامي، ومعَها الإعلامية هالة الذوادي، مَثلُهُما مَثلُ جُل المثقفين العرب، لا تملكان ولو أضغاثَ إجابةٍ أو رأيا في المسألة، ناهيك الاضطلاع بمسئولية مواجهة الوضع المُزدري واستشفاف الحل: لِمن نكتب ولماذا نكتب وهل نكتب للشباب ما يُقرأ ولماذا إذن لا يَقرأ. إنه نقصانٌ شامل يشل الثقافة العربية المعاصرة. وقد يُعزى هذا النقصان إلى افتقارِ ثقافة المثقفين أنفسهم، مثلما أشار إليه بحنكة محمد الطالبي، إلى المنهجية اللازمة لتمرير مضامين الفكر العلوي إلى الفكر الشعبي، ممّا جعل المفكر العلوي يُنظر إليه أنه متعالٍ بينما هو منه براء. أمّا الغارق في التعالي فهو المثقف الآخر، الذي يتعاطى مع الفكر العلوي ثمّ إمّا يحفظه عنده في غياهب النسيان وإمّا يقضّي ربما العمر كله في مُحاكاته. والحال أنّ المرحلة الأولى في مسار الحل تتطلب شيئا من التواضع من لدُن طبقة المثقفين الوسيطيين (نسبة لِما أسميه "الثقافة الوسيطة") لكي يقدروا على الوقوف وجها لوجه أمام هذا الشرخ في البناء التواصلي للمجتمع العربي، ومن ثمة على لعب دور الوسيط ( من "وساطة") بين العلوي والشعبي. وكما قال العماري في أواخر المُنازلة: "المطلوب أن يصعد الشباب إلى مستوى فكر الطالبي لا أن ينزل الطالبي إليهم" وأنّ المطلوب أن يكون أمثال الأستاذة القرامي هُم الذين يقومون بدور الوسيط. وهذه لَعَمري مُهمة من أنبل المهمات بالنظر إلى حاجياتنا الآنية. بقي أن نستشفّ مواصفات الشرخ التواصلي. باعتقادي إن العلة ذات صلة بالنقد الذي أنجزه الباحث محمد عابد الجابري رحمه الله؛ إن لم تكن عين العلة. وإن كان الأمر كذلك يحق التساؤل عمّا إذا كان العقل الشعبي مسيطرا على معاني "الفصل والوصل" (بين المقروء والقارئ) كعلاج للعلة، وهو الذي وصفه طبيب العقل العربي. كما أنه واردٌ جدا أن تكون علة اللاتواصل ذات صلة بما أسماه محمد أركون رحمه الله "القطيعة" (المعرفية) في العقل الإسلامي؛ إن لم تكن القطيعة بأمّ عينها. وإن كان الأمر كذلك يحق التساؤل عمّا إذا كان العقل الشعبي مُلِمّا بما يقترحه المُفكك أركون من تفكيك للتراث. لا أدري؛ مع أني أدري. لا أدري ما الذي كتبه بالضبط الضابطان الجليلان لِلحالة العقلية، هاذان الناقدان للعقل العربي والإسلامي، كلاهما على طريقته، في موضوع سبُل المعالجة. لكني أدري أنّه بإمكان الفكر الوسيطي أن يكتسب القدرة بعون الله على تلمّس الحالة السنكرونية للعقل العربي، مثلما تتجلى في مشهد البرنامج التلفزيوني المذكور وفي المُشادة السيكولوجية بين السائل والمسئول، أو مثلما تتجلى في العديد من أصناف الانفلات السلوكية للمواطن العربي اليوم. وبالتالي أعتقد أنه لا بدّ من أخذ كل حالة في ديكور الوضع السنكروني بالذات، أي الوضع الذي لا يشترط تنقيبا تاريخيا عن الأسباب والمسببات. كما أنّ الحل أيضا يكون سنكرُونيا، إذا ما تمّ تدريب الفكر على التشخيص بنفس المنهج. والحل يكون كذلك لمّا ينفتح المثقف الوسيطي على الفكر العلوي مثلما فعل نظراءه ممّن شخّصوا العلة في جانبٍ من جوانبها تشخيصا يختلف، بالتحديد، عن تشخيصه. أخلص لِكونِ التأليف الفكري، على عكس الشطط في التحليل الذي يتسم به الفكر العربي اليوم، لمّا يصاحبُ النظرةَ الواقعية الظواهراتية الآنية والتحليل الميداني للمشكلة، يكون المريض والطبيب في وضعٍ من الانسجام لا يترك للعلة، علة التواصل في اللاتواصل، مبررا للبقاء أو للتراكم. تلك قدرة لا نتملكها الآن. وليست هي قدرةُ تعالٍ أو اعتداد. إنما هي قدرة على التواضع والاستعداد والإعداد. وهذا واجبٌ أساسٌ للمعلم وللإعلامي؛ وحقٌّ أساسٌ للتلميذ وللمتثقف للمستمع و للمشاهد و للقارئ. إنها نتيجة حتمية للرغبة في البحث عن الحقيقة. ومن الحقائق التي تعالى عنها العقل الثقافي، إن صح التعبير، والتي ينبغي على أصحاب هذا العقل البحث عنها ومباشرة الذود عنها، حقيقة العلاقة بين الحق والواجب. وهذا إشكال يندرج في إطار المعضلة العامة التي تشوب العلاقة بين الحق والواجب في الحياة العامة وفي السلوك الفردي والجماعي. وهو خلل في التوازن بين هذا وذاك، عادة ما يكون لفائدة المغالاة بالمطالبة بالحق؛ حتى بخصوص التربية و التعليم و التثقيف. لقد انحرف المجتمع العربي عن الواجب، وبكل ثبات، للأسف. وإلا فأين واجب الأبناء تجاه الوالدين، وأين واجب المتعلم تجاه المعلم، بل وأين واجب المعلم تجاه المتعلم، وأين واجب المثقف تجاه المتثقف؟ قد تكون الورطة التواصلية، الاحتباس التواصلي، هي المتسببة الآن في لخبطة الإحساس، فالفكر، ثم النظر. والملاحِظُ لمُجريات الثورة العربية الآن، مَهما كانت الدرجة التي بلغتها، إن انتفاضة أم تصدّيا للظلم والاستبداد أم انتقالا إلى مرحلة سياسية أفضل، سيرى الإنسان العربي ينتقل بسرعة مذهلة، سرعة الفوضى الحقوقية والواجباتية، مِن النظر إلى غدٍ حُرياتي وديمقراطي تارة، إلى النظر إلى غدٍ استبداديّ ودكتاتوري طورا. محمد الحمّار الاجتهاد الثالث

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل