المحتوى الرئيسى

هؤلاء عاشوا في وجداني بقلم علي عبد الفتاح

06/02 17:15

هؤلاء عاشوا في وجداني شاعر البراءة وليـــم بـــليك (1757 –1827م ) أحببت الشاعر وليم بليك الي حد التأثر بحياته وافكاره وأشعاره .. كنت إذا تجولت في احدى الحدائق العامة وشاهدت من يقطف الأزهار او يصطاد العصافير نظرت إلية في ضيق وقلت له : - آه كم أنت بشع آيها الإنسان المتوحش ... *** ومضيت بين الأشجار احنو على أوراقها الخضراء ..واقبل الأزهار وأتأمل صفحة السماء الزرقاء .. وتغاريد العصافير تعلو على ضجيج المدينة . حتى حين كنت أسافر الي قريتنا التى تطل على النيل اجلس ساعات طوال اتابع المراكب المسافرة .. والطيور التي تشرب من البحر والاعشاب الصغيرة النابتة على الضفاف.. واجلس تحت ظل الشجر .. اقرأ في كتاب اغاني البراءة للشاعر .. وعندما احببت صديقة لي بالجامعة قلت لها : - انتِ كاثرين .. حبيبة وليم بليك .. وضحكت في خيلاء .. وظلت تقرأ معي اغاني البراءة .. *** واذكر من المواقف الدرامية الرومانسية مع فتاتي بالجامعة اني قلت لها: - اليوم عيد ميلادي .. دعينا نجلس في الحديقة بين الأزهار. وحملت الكتب الجامعية ومضت قبلي الي الحديقة وعندما لحقت بها كانت تخفي شيئا ما خلف ظهرها وهمست في عذوبة : - اغمض عينيك .. وأدركت انها تعد مفاجأة .. ربما هدية أو ربما قبلة على جبيني .. وأغمضت عيني .. *** وهمست في رقة : - كل عام وانت بخير وعيد ميلاد سعيد. وفوجئت بين يدى تقدم باقة جميلة من الزهور ذات الالوان المنوعة والرائحة العذبة .. ودهشت وسألتها : - لماذا اشتريت كل هذه الزهور ؟ قالت في بساطة : - لم اشتريها .. قطفتها من حديقة الجامعة ... ووجدتنى انظر الي الزهور في حزن وقلت لها : - آه كم أنت بشع آيها الإنسان المتوحش ... ولم تفهم ماذا أعني .. وصحت معاتبا : - جريمة لم اكن اتوقعها منك .. ان تغتالي زهور الحديقة .. نظرت في غضب وقالت : - اتعتقد اني كاثرين حقا ؟؟ ما تصحى من الاوهام ديه .. وافترقنا .. ومضت بلا عودة والزهور تحتضر خلفها مضت .. مثلما فعلت كاثرين حبيبة وليم بليك . *** إنه وليم بليك الذى علمنى عشق الزهور وصداقة المطر ورفقة العصافير انه شاعر الطبيعة الخضراء.. والروح الطليقة الهائمة في فضاء الحب والجمال والسلام . يتأمل هذا العالم ويزرع بين الهضاب وردة نابتة تفوح بعطر الأمل والطموحات والأماني الجميلة. وعندما يغني للطبيعة فهو أيضا يعشق الطفولة والبساطة والأحلام الذهبية الساحرة . *** ومع هذه الأحاسيس والمشاعر النبيلة يصرخ في وجه الإنسان الذي دمر الأرض وحولها إلي بقع دماء. ويغضب وليم بليك ويقول للأرض: أيتها الأرض .. أيتها الأرض عودي انهضي من العصب الندي فالليل في هزيمه الأخير والصباح ينهض من مثقل النعاس لا توليني ظهرك لماذا تريدين الابتعاد إن الفضاء المرصع بالنجوم والشاطئ المترقرق بالحياة هما لك حتى انبثاق الصباح *** ويعبر الشاعر وليم بليك عن تألمه العميق لهذا الواقع المأزوم. فالثورة الفرنسية التي قامت لتنادي بالإخاء والمساواة والحرية قد خلفت فظائع في الوجود البشري . وقامت على أنقاض البسطاء مع الأثرياء وخضبت الأرض بالدماء. وتولدت نظرة معتمة لدى الناس وأصبح التشاؤم والحقد والأنانية والغيرة هي سمات ذلك العصر . *** وبذلك فقد بدأت الأرض تغضب .. والزرع الأخضر يعترض .. والشجر يتألم .. وتصاعدت حدة هذا الغضب لدى الشاعر الذي يخاف على الطبيعة والمراعي والحقول والسماء الزرقاء.وتصبح مأساة هذا الشاعر كيف يمكن أن تصحو البراءة في أعماق الناس وتعود الأرض عذراء؟ .. وتغني السواقي .. وتزهو السنابل وتختال المراعي .. وتضيء النجوم .. وترقص الشواطئ. *** ويخاف الشاعر على هذا السحر والجمال من عصر الحروب والجشع والجمود واللآمعنى .ويبحث الشاعر الإنجليزي وليم بليك عن المطلق حيث يتكامل الإنسان مع الطبيعة .. وتتوافق المعاني مع الأفكار .. والمشاعر .. ويخرج الفرد من تناقضاته وازدواجية الفكر وتصبح للطاقات الروحية توازناتها مع المادة والحس فيقول الشاعر : أيتها الوردة .. أنت عليلة الثعبان الصغير الخفي الذي يطير في الليل في العاصفة الصاخبة وجد فراشي فرحك القرمزي وبحبه الخفي المظلم يهدم حياتك . *** ولا يتوقف الشاعر وليم بليك لدى قضايا الشعور والفكر بل يرفض فكرة التعصب والعنصرية السائدة في العالم المتمدن ويحتج على الاضطهاد الذي تمارسه الأنظمة على فئة السود ويقول : ولدتني أمي في أرض الجنوب الموحشة أسود أنا ..آه روحي بيضاء أبيض الطفل الإنجليزي كالملاك أنا أسود أعيش في الشقاء من الضياء كانت أمي تعلمني تحت الشجرة يوما ونحن في حرارة الشمس الملتهبة ضمتني إلي صدرها وقبلتني ثم أشارت نحو الشرق قائلة : -أنظر إلي مصدر الشمس هناك الله الذي يهب النور والدفء والأزهار والحيوان والإنسان . ونحن على الأرض الصغيرة خلقنا كي نحمل براعم الحب في قلوبنا وهذه الأجساد السوداء والوجوه المحترقة ليست سوى غمامة وغابة ظليلة . *** ومن هنا يخفق قلب الشاعر باحثا عن جزر البراءة في هذا العالم الطاعن في الفوضى والفساد . فأين السعادة؟ أين البسمة المضيئة؟ حيث الأنانية تتفشى والحوار ينكسر بين الأفراد ولا يد تمتد إلي اليد الأخرى وليس هناك من يحاول أن يعبر الحدود أو يهدم الحواجز أو يدمر السدود بين القلوب والأرواح . *** عاش وليم بليك في عالم صوفي .. فكان يكتب .. أو يرسم في الليل ما تمليه عليه الأرواح .. وانزوى الشاعر بعيدا عن تيار الحياة .. وصخبها يحلم بالخير والحب .. والجمال .. ويجنح إلي صور الخيال .. ويهمل الواقع وما فيه من شرور وآثام . *** أصدر الشاعر وليم بليك ديوانه "أغاني البراءة" الذي انتشر بسرعة وذاع في كل مكان لما يحمله من تجربة صادقة حلق فيها الشاعر وارتفع عن الأرض .. انه لا يبالي بالقوانين البشرية أو المعايير الاجتماعية والسياسية التي تغتال البراءة . *** ولد الشاعر وليم بليك في أسرة فقيرة وكان والده يمارس مهنة بائع جوارب وملابس داخلية لينفق على الأسرة .وفكر وليم بليك في أحوال أسرته التي تشقى من أجله وفى هذه الحياة التي لا يشعر فيها الفرد بكيانه وإحساسه وراح يطرح هذه الأسئلة على الأرض والكائنات والأعشاب ويحاول أن يجد لها معنى . *** فاتجه إلي الشعر والموسيقى والطبيعة وترقرق إحساسه وتطرفت مشاعره وامتلك قدرة على التعبير عن ذاته وتأمل كل ما يدور حوله ويترجمه إلي شعر جميل حالم . *** وفي محاولة منه لمساعدة أسرته عمل في وظيفة نقاش على التحف القديمة حيث يقوم برسم التماثيل ثم اتجه إلي وظيفة أخري وهي حفر الصور على الكتب للناشرين ومن هنا ارتبط بكبار الفنانين في عصره وتأثر بأعمالهم الفنية . *** في تلك الفترة بدأ يكتب الشعر الرقيق .. يتغنى فيه بجمال الطبيعة وعناصرها من أشجار .. وأنهار .. ومراعي خضراء .. وظلال .. وشموس .. ونجوم .. وأقمار وسحب .. وغيوم .. وكواكب . ويرى أنه ليس هناك تناقضات في هذه العناصر الرائعة فلماذا تراها تواجدت إذن في كيان الإنسان؟ *** ومن جهة اخرى كان يخاف على جمال الطبيعة من الاندثار في ظل ما تمارسه الشعوب من حروب وفتن ومجازر وعبودية وإراقة دماء باسم الثورات الجديدة وليس الهدف من ذلك إلا النفوذ والاستعلاء. *** وغضب بليك على حياته وكل شيء من حوله ورفض المناخ السياسي الذي يعيش فيه وقرر أن هذه الأرض الجميلة إنما يعبث بجمالها الإنسان ويقول : - آه كم أنت بشع آيها الإنسان المتوحش ... *** فأعلن بليك تمرده على الكنيسة والسلطة السياسية الحاكمة ورأى أن نابليون قد حول العالم إلي بقعة من دم ومجازر ومازال على صفحات التاريخ بطلا من الأبطال ويعود يقول : -نابليون البطل ليس أكثر من سفاح . ويسخر من الثورة الفرنسية التي نادت بالإخاء والمساواة والحرية وقد فشلت في تطبيق هذه المبادئ ويسخر أيضا من مفكريها ويقول : اسخر يا فولتير اسخر يا روسو السخرية السياسية .. الكل هباء بعثروا الرمال في الرياح والرياح تعيد إليكم الرمال كل حبة رمل تصبح جوهرة تنير درب الفداء شعاعها يحجب العين الساخرة وعلى طريق الجلجلة تبقى ساطعة ذرات ديمقراطيس شعاع أنوار نيوتن ليست سوى رمال على شاطئ البحر الأحمر حيث خيام النازحين تتوهج وتتألق *** وفي هذه المحنة النفسية التي واجهت الشاعر البريء وليم بليك عشق فتاة اسمها كاثرين حيث جسدت أمامه صورة الطبيعة التي لم يمسسها بشر بروحها النقية ووجهها الهادئ الجميل. فبدا يعلمها القراءة والكتابة وأصبحت فيما بعد تساعده في تسجيل خواطره وأفكاره وقصائده . *** ويمضي أجمل لحظات حياته مع حبيبته كاثرين يرقب معها خيوط الشمس وهي تصحو على الغمام ثم عندما تغرب الشمس وتغرق في بحر الأصيل . والشاعر قد رفض عصره والزوابع من حوله.. فهناك كذلك صخب وضجيج نابع من المدينة وصراع على المال .. والقوة .. والنفوذ .. والأمجاد التي اعتبرها زائفة وفانية . *** ويجلس مع حبيبته يقرأ لها الأشعار الجميلة ويصف الطبيعة وبعد أن يركض معها في المراعي يعود يجلس على مقعده وحبيبته تنام على حجره ويقول لها : مرهق .. ألقيت نفسي على مقعد حيث حبيبتي استسلمت للنوم سمعت في الزخات الغزيرة شيئا يبكي شيئا يبكي اقتربت من الأشواك والنبت والبراعم أدركت سبب البكاء شكت إلي وحدتها ..منفاها والحبيب الذي جفاها *** فالشاعر مع حبيبته يستشف روح النباتات والبراعم ويعبر عن خلجات نفسها فهي كائنات تتنفس وتعشق وتحيا في الطبيعة .وعندما تصل أخبار الحروب من الشرق إلي الشاعر تندفع موجات للغضب والحزن في شرايينه ويقول : أشرقت الشمس من الشرق ترتدي وشاحا من الذهب والدم مدججة بالسيوف والرماح والغضب المتفجر متوجة بنار الحرب الملتهبة بالجموح بالرغبات المتأججة *** ومن خلال قصائد وليم بليك فقد حدد لنا رؤيته للحياة التي يبحث عنها هي تلك الخالية من الخطايا .حياة الفطرة الصافية .. والكيان النقي .. وروح الأديان وقدسيتها .. ونبذ الحروب .. والقضاء على الشراسة والتوحش داخل الإنسان المعاصرولذلك يظل يردد دائما: - آه كم أنت بشع أيها الإنسان المتوحش . *** ويحلل الشاعر وليم بليك هذا الوجود من خلال الإدراك الحسي الوجداني الذي يعني الحدس بالحقائق الأخلاقية عن طريق القلب والعاطفة من غير تدخل للعقل. وقد أسست مدام دي ستال نظريتها في الإيحاء الشعري على هذا المفهوم . كما قرر الفيلسوف الفرنسي ديدور أن هذا الإدراك الوجداني الذى لا يتحقق نتيجة للتأمل في شيء من الطبيعة يكون بمثابة مسبب لهذا الإدراك وهذه النظرية من مصادر الحركة الرومانسية في الأدب . *** وتميز الشاعر وليم بليك بأنه كان رساما وكان يرسم دواوينه بنفسه وقد تأثر في ذلك بأعمال روفائيل ومايكل انجلو وجون لوك وكتابات المتصوفين الألمان . ومن السمات الأخرى في شعره تلك الطفولة المغردة وقد عبر من خلال غناء الطفل والحوار معه عن رؤاه التي يحلم بها وهو يرفض الواقع الصاخب وينطلق إلي الطبيعة مع حبيبته يغني ويقول : عزفت على مزماري في الأودية البرية عزفت على أنغام الفرح البهيج وعلى سحابة رأيت طفلا .بصوته الضاحك قال لي : - أعزف أغنية عن الحمل الوديع فعزفت في طرب وانشراح - يا عازف اعزف أغنيتك مرة أخرى وعزفت وبكي لسماعي دع مزمارك السعيد وغن أغاني الانشراح البهيج وكذا صدحت بتلك الأغاني مرة أخرى بينما ذرف هو دموع الفرح . *** وعادت حبيبته تسأله : لماذا أبكيت الأطفال إن عزفك مؤثر . ويقول وليم بليك لحبيبته : - أنت الجزيرة التي لم تدنس في هذا العالم.. أنت البراءة وطفولتي التي أستردها مرة أخرى . *** وذات ليلة قررت حبيبته أن ترحل عنه قائلة: : -أنت حبيبي غاضب دائما من اجل الحياة والناس وبشاعة البشر ولا أدري كيف أنجو بنفسي من هذه الحرائق والاشتعال في أحاسيسك ؟ ورحلت عنه امرأة البراءة الجميلة . *** وجلس وحيدا يتطلع الي البحر الذي شهد قصة حبهما وقصائد أنشدها تحت ظلال عينيها . ويسأل الشاعر وليم بليك نفسه : لماذا ذهبت حبيبته ؟ هل كانت رمزا لحزن الشجر وصمت البحر وبكاء الطفولة ؟ *** وأصابه المرض من فرط حزنه وكآبته فيطلب إليهم أن يرى صفحة البحر ويتخيل أن حبيبته كاثرين هناك تنتظره ... ويحاول النهوض ولكنه يسقط ويتمتم في ألم : - آه كم أنت بشع أيها الإنسان المتوحش . ويرحل شاعر الحب والبراءة بعد رحلة غضب وحزن ووقفت أسراب العصافير خلف نافذة غرفته تبكى في صمت وتنتحب الازهار التي كان يغنى لها ويرعاها وتغرب الشمس بلا عودة ويرحل في موكب من البراءة . *** علي عبد الفتاح

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل