المحتوى الرئيسى

ما خلف «الفلك الأسود».. إضاءات ومشاهد من الشرق والغرب

06/02 09:47

إذا اختار المرء أن يدخل قاعة جناح السعودية في بينالي البندقية من بابها الرئيسي فسيواجه قوسا أسود داكنا، لا يوحي بالحياة، بل ويكاد بلونه القاسي يقف حائلا بين الداخل والقاعة. وهنا تكمن لحظة الاكتشاف، فالمشاهد هنا يجد نفسه أمام إغراء اكتشاف الجانب الآخر من هذا الشكل القاتم، الذي يزيد من جلاله وغموضه صوت الريح في الصحراء، الذي يترامى للسمع عبر سماعات ضخمة. ما خلف الحاجز الأسود تكمن المفاجأة والاستنارة، فهنا يرى المرء ما يخفيه اللون الأسود من حياة متشابكة ومختلطة، فهنا تمتزج الجنسيات والألوان والحضارات. يجد المرء نفسه مشدودا وبقوة داخل مساحة من الأضواء والأصوات وأيضا السواد. العمل الذي يحمل اسم «الفلك الأسود» للفنانتين شادية ورجاء عالم يتوسط الصالة يجذب المرء إلى داخله من خلال آلاف الكرات اللامعة التي تعكس خيال المشاهد ويعكس بعضها وأجواء القاعة، وفي وسط هذا كله يلف المكان أصوات مختلطة من شوارع البندقية تمتزج فيها المحادثات بأصوات الباعة. تختفي تلك الأصوات ليحل محلها صوت الصلاة في الحرم المكي، ثم أصوات مختلفة من شوارع مكة يتمازج بعضها مع بعض وتدفع بالمشاهد إلى داخل المكعب الأسود الذي يتوسط العمل. تتماوج أضواء مسلطة من أعلى على العمل مصحوبة بصور ضوئية تنعكس على الأرض وتمزج ما بين مشاهد من معمار البندقية ومشاهد من مكة، منها صفوف المصلين يركعون معا، تختلف أشكالهم وأزياؤهم ولكن توحدهم اللحظة. «الفلك الأسود» كما يشير دليل العمل ثمرة تعاون متعمق بين شادية ورجاء عالم، ويشكل نقطة التقاء للشقيقتين من خلال التقاء رؤيتين للعالم - من الظلمة إلى النور - ومدينتين هما مكة والبندقية. ويعد هذا العمل مسرحا لعرض الذاكرة الجماعية للفنانتين عن السواد - أي الغياب الهائل للألوان - والتمثيل المادي للون الأسود الذي يشير إلى ماضيهما. يقول روبن ستارت، أحد القيمين على العمل، إن الجانب الأسود من العمل «يشير إلى انعدام المعرفة والظلام، ولكن عندما تدور حول العمل وتعبر من خلال القوس لترى الجانب الآخر، يمكنك متابعة الأضواء والأصوات». ويشير إلى الصور المنعكسة على أرضية القاعة ويقول إن الصورة لأمواج ومياه ترمز إلى البندقية والمكعب المتوسط للعمل يعبر عن مكة، «هنا نرى التمازج بين المدينتين، وإعادة التعارف بينهما في الحاضر يعززه التاريخ المشترك بينهما». المياه تعتبر عاملا مشتركا بين المدينتين بشكل موحٍ، فالبندقية التي تحيطها المياه من كل جانب مهددة بالغرق، ومكة لا تستقبل الأمطار إلا نادرا، وبالتالي فهي تعاني من نقص المياه. «عمل مدهش». تقول دينا أمين مديرة قسم الفن المعاصر بدار كريستيز بلندن، وهي تصف انطباعاتها الأولى: «أعتقد أنه يمثل حوارا عابرا للحضارات يمد يده إلى العالم. فنحن هنا أمام جمهور غربي يتفاعل مع الشرق الأوسط عبر عناصر متعددة متشابكة ومعقدة. بالنسبة لي هذا العمل يحقق ما أعتقد أنها رسالة الفن الحقيقية وهي تحطيم الحواجز». العمل الذي يمثل في جانب منه مرآة ضخمة وأمامها آلاف الكرات المعدنية، تعكس على مستويات كثيرة أشخاص زوار الجناح، وهو ما ترى أمين أنه يجعل الزائر جزءا مهما من العمل. في الساعة الأولى للافتتاح تدفق عدد كبير من المختصين بالفن والإعلاميين والفنانين إلى الجناح، حيث إن البينالي فتح أبوابه للإعلام والمختصين فقط، وتسابق الكثيرون للحديث مع الفنانتين للتعليق على العمل ولتهنئتهما، ولكن كان هناك الكثير من التساؤلات والتعليقات حول مفهوم العمل، اختلفت من شخص إلى آخر ومثلت نوعا من الحوار الحضاري. فأمام العمل وقفت ماري آن غولي، وهي خبيرة فنون أميركية، تتمعن فيه وتتناقش مع صديقة لها حول ما تراه، وقالت ردا على سؤال حول انطباعها عن العمل: «ما زلت أحاول التعمق فيه، ولكني أستطيع أن أرى فيه عملا عالميا يتخطى حاجزه المحلي ويخاطبني شخصيا». غولي لم تتفاعل مع الفكرة التي عرفتها الفنانتان بأنها تفاعل بين مكة والبندقية، إلا أنها أشارت إلى أنها استطاعت لمح التحاور في الصور، خصوصا بين التيمات الشرقية والمتمثلة في مخطوطات عربية ونقوشات شرقية وأخرى رومانية، وأضافت: «أنا مسحورة بالانعكاسات والإضاءات على الأرض، وأستطيع أن أرى فيها أوجه شبه بين حضارات مختلفة». من جانبه قال حمزة صيرفي، صاحب غاليري «أثر» للفنون في جدة: «اليوم عرس سعودي، هي فرحة كبيرة أن يكون الفن السعودي في البينالي ويكون متوجا بعمل شادية ورجاء عالم، الذي مزج ما بين الإرث الحضاري للمملكة والمفاهيم المطلوبة من البينالي ومتمثلة في الإضاءة». وأشار صيرفي إلى أن جمالية العمل تأتي من اختزاله للثقافة الإسلامية، وفكرة التلاقي الحضاري على مستوى العالم. بفخر وسعادة قالت منى خزندار القيمة المشاركة للجناح ومديرة معهد العالم العربي في باريس، إن تعليقات زوار الجناح كانت كلها تشير إلى نجاحه، وإن التعليقات أشارت إلى أن العمل من أفضل الأعمال المطروحة. تضيف خزندار أن ردود الفعل هذه تعد «فخرا للمملكة والفن السعودي والمرأة السعودية، وتشيد بالمجهود الجماعي الذي أسهم في ظهور العمل بصورته الحالية». تقول خزندار إن الانطباعات حول العمل مختلفة ومتنوعة وقد تطرح مفاهيم جديدة، مضيفة: «العمل له أكثر من تفسير يختلف من شخص إلى آخر بحسب خلفياتهم، وكلما اختلفت التفسيرات كان ذلك دليلا على ثراء العمل، المعاني الكثيرة تعني أن العمل له عمق كبير». بالنسبة لخزندار فإن العمل يمثل أكثر من مجرد «تيمة البينالي وهي (الإضاءة)»، فهو أيضا يمثل اكتشاف الآخر، السفر، الأشياء التي تجمع بين المدن المختلفة، وهنا بين مكة والبندقية. وتشير خزندار إلى أن الصور المنعكسة على الأرض هي مزيج من «رسومات من البندقية التقطنها عدسة شادية ورجاء عالم ومنها صور فوتوغرافية التقطنها من واجهة كنيسة سان ماركو، وفيها أشخاص يرتدون العمامة، وهو ما يشير أيضا إلى العلاقات التاريخية بين المدينتين. هناك أيضا صور من مكة تظهر أن هناك جنسيات وحضارات مختلفة حضرت في المدينة العتيقة. أما الأصوات فهي مزيج آخر يمثل بعضها مدينة مكة من خلال أصوات الأعراس ورواد المقاهي والغناء مع أصوات باعة ومارة من شوارع البندقية. الأصوات تجعل المتفرج يعيش داخل العمل». من خلال دليل المعرض تشير خزندار إلى العلاقة بين مكة والبندقية بقولها: «مدينتان أسطوريتان سعتا (الفنانتان) إلى الربط بينهما كثنائي بحزمةٍ من العلامات والرموز. فمن حيث الجو الثقافي، من الجلي أن كل شيء يعارض بينهما. إحدى هاتين المدينتين، المعزولة في صحرائها المعدنية والتي تصون داخل مبنى مكعب الشكل حجرا أسود سقط من السماء، هي إحدى حواضر هذا العالم، نقطة ثابتة للتجمع، أرض مكرسة منذ الأزل للعبادة، للانتقال المادي والنفسي نحو المركز، للحركة الإرادية نحو الوحدة المؤسسة. منبع الماء الوحيد فيها هو بئر أسطورية، بئر زمزم، التي أنقذت من الموت هاجر وإسماعيل اللذين أقاما منفردين في الحجاز. والمدينة الأخرى، المحاطة بالبحيرات الشاطئية والتي تقطع أوصالها أكثر من مائة قناة تصل بينها وبين البحر والمبتلة بهواء شفاف يؤجج الألوان والأصوات، منذورة للمبادلات والتجارة الكبيرة ولمتعة الحواس ولحماسة المادة وللعالم الخارجي». «الفلك الأسود» يتناول كذلك رحلة ومرحلة انتقالية مستلهمة من الرحالة الإيطالي ماركو بولو والرحالة المسلم ابن بطوطة الذي عاش في القرن الثالث عشر، وهما مثالان يوضحان كيف تم جسر الثقافتين معا عبر الارتحال والسفر. وتشرح شادية كيف انتابتها رغبة للاقتداء بماركو بولو، «وأن أنقل مدينتي - مكة المكرمة - إلى البندقية من خلال أشياء أُحضرت من هناك: قوس أسود، ومدينة تكعيبية، وحفنة من جمرات مزدلفة».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل