المحتوى الرئيسى

نهاية الطريق الصحراوي

06/01 03:08

جاسر عبدالله الحربش لا بد أن الكثيرين منكم مروا بهذا التجربة. تسير وتسير عبر طريق صحراوي وعر متعرج وطويل، ويملأ الغبار عينيك ورئتيك وحلقك، لكنك تستمر في السير لأنك لا تريد البقاء إلى الأبد في مثل هذه الأجواء. فجأة وبعد أن يكون قد غمرك الإجهاد وكاد أن يبتلع صبرك وصمتك وظلك، فجأة يلوح الطريق المعبد وأنوار المدينة المتلألئة كأنها ترحب بك وتقول لك مرحى والحمد لله على سلامة الوصول إلى الدور والحدائق والمساجد والمدارس والحياة المليئة بالحركة والكلام المتبادل والرد على السلام بالسلام. للصحراء وحشتان، وحشة العزلة الجسدية مع متعلقاتها من الإحساس بالضياع والعدمية في اللا متناهي، ووحشة العزلة الفكرية ومحدودية الاجترار لما يدور ويدور في العقل المستوحد المستوحش. سبق وأن قال من قبل جدنا المستوحش الصحراوي الأحيمر السعدي بعد ما طال اغترابه طريدا في الصحراء وحن إلى وطنه: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوَّت إنسان فكدت أطير الكلام أعلاه عن وحشة الصحراء ودروبها الترابية الوعرة وغبارها النفاذ، ثم الفرحة بالخط المعبد والأنوار المتلألئة ما هو إلا تفاؤل مجازي لبوادر عصر جديد ننظر فيه نحن العرب إلى الحياة وندبر شؤونها بشروطها المدنية الحضارية، قاطعين ما اعتدناه من التعامل معها بشروط التكتلات القبلية والمذهبية والجغرافية المنقول لنا بحذافيره من الدولة الأموية والعباسية. يتوجب هنا الفصل بين صحراوية الأمكنة وصحراوية العقول، لأن العرب لديهم الآن أماكن كثيرة، حتى في أعمق أعماق صحاريهم يوجد بعض المراكز المادية الحضرية بما لها من الإسفلت والأسمنت والكهرباء ومركز الشرطة ودكان البضائع المستوردة. لكن العرب في كافة تجمعاتهم الممتدة من الأطلسي إلى الخليج ينقصهم التعامل إداريا واجتماعيا وإنسانيا بشروط الحضارة ونظمها الاجتماعية المدنية. بدأ تاريخ جديد مفتوح على العالم عندما كشفت الاحتجاجات الشعبية في ست دول عربية دفعة واحدة خلال شهور قليلة حجم الأكاذيب الكبرى حول برامج التحديث والانتخابات النزيهة والقضاء العادل والالتزام الشرعي بحقوق الإنسان وتحصين الأوطان ضد الغزاة. اتضح أن الأمور ما هي إلا امتداد للعقلية التقليدية التي ورثناها من الأمويين والعباسيين، أي تقريب العصبة والقبيلة واضطهاد المختلف ونهب الأموال العامة لصالح الخاصة والتسويف بالوعود وإلهاء الناس بالقشور وتسليط الرعاع والجهلة على أصحاب العقول والضمائر. اتضح للناس في هذه الدول فجأة أن السجون مكتظة بسجناء الضمير وأن تحتها أقبية سرية للتعذيب تملؤها الهياكل العظمية، بينما جدران القصور مرصوصة بمخابئ الذهب والحلي والعملات الصعبة. انكشف أن القائد الأممي الجماهيري الأعظم صاحب الكتاب الأخضر مجرد زعيم قبلي صحراوي مستعد لقتل الشعب كالفئران والجرذان. اتضح أيضا أن وسيط السلام الأكبر بين اليهود والفلسطينيين والدول الإقليمية مجرد ناهب وبائع لثروات وطنه بتراب الفلوس، وأن الرئيس المجاهد ضد الحوثيين والانفصاليين وإرهاب القاعدة مجرد مقامر محترف يلعب بالأوراق الثلاث ضد الجميع، أما في سوريا فنحن بانتظار الإصلاحات التي التزمت بها القيادة السورية لشعبها. أصبحت العقليات الاستحواذية في الاستفراد والتنفيع والمتاجرة بالوطنية مكشوفة أمام وسائل الرصد والتوثيق الحديثة. دخل العالم في بعضه وتقلصت المحميات والمعازل الجغرافية. بدأ الطريق الترابي الصحراوي في تاريخ العرب يشرف على نهاياته، والطريق المعبد يلوح في الأفق ومرحلة الارتباط المؤسساتي الاجتماعي بين الحكومات والشعوب تفتح صفحاتها لتاريخ جديد. نقلا عن (الجزيرة) السعودية

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل