المحتوى الرئيسى

إلى مدير جديد لصندوق النقد يمارس سياسة الاقتصاد لا اقتصاد السياسة

05/31 08:03

محمد كركوتي لم تحُل الصدمة التي أصيبت بها فرنسا (والعالم) من جراء اعتقال مدير عام صندوق النقد الدولي (الفرنسي) دومينيك ستروس كان، دون تحركها الفوري للاحتفاظ بهذا المنصب المهم. ولم تمنح باريس نفسها وقتاً لاستيعاب الصدمة الناجمة عن رؤية ستروس كان مكبلاً بالأغلال، سائراً بخطى بائسة وبطيئة نحو السيارة التي نقلته إلى مركز الاعتقال، تمهيداً لمحاكمته بتهمة محاولة اغتصاب عاملة تنظيف في أحد فنادق نيويورك. ولم يتريث المسؤولون الفرنسيون قليلاً للوصول إلى مرشح يقدمونه بديلاً محتملاً أو مؤكداً (أو حتى محسوماً) لستروس كان. تركوا كل تداعيات الحدث الصادم وآثاره وتداعياته، وأخذوا في تجميع شركائهم الأوروبيين لتقديم وزيرة المالية الفرنسية كريستين لاجارد مرشحاً (تمنوه حاسماً) لمنصب مدير الصندوق. والحقيقة أن باريس لم تجد صعوبة في تجميع هؤلاء، وذلك لسببين. الأول: أن الأوروبيين لا يريدون إلا أوروبياً لهذا الموقع الدولي المهم، فقد كان لهم عشر مرات من أصل 11 مرة، والآخر: أن غالبية ممثلي الدول الأوروبية يشعرون بالدونية في هذا الوقت بالذات أمام فرنسا، من فرط أزماتهم الاقتصادية التي تتوجها أزمة الديون الخانقة. فهم يعرفون أن ''الحنية'' الاقتصادية الفرنسية لا تزال مطلوبة لمواجهة احتمالات الانهيار أو الإفلاس أو حتى الخروج من منطقة اليورو، وبالتالي لا بأس من تقديم ما يلزم للحفاظ على هذا ''الحنان''، ولا سيما أن ألمانيا (المنقذ الآخر للدول الأوروبية المعطوبة اقتصادياً)، تتعاطى بكل أنواع العجرفة مع محتاجي ''الحنان'' والكرم الاقتصاديين. إذن .. الأوروبيون يريدون مدير صندوق النقد أوروبياً، والفرنسيون يريدونه (أو يريدونها) فرنسياً، حتى لو أتى من أصول مجهولة. إنها مسألة أولتها فرنسا أهمية قصوى منذ إنشاء هذا الصندوق في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وفق لوائح اتفاق ''بريتون وودز''، الذي دمرت في الواقع ''أدبياته'' الأزمة الاقتصادية العالمية، وفرضت على الدول الكبرى التي منحت نفسها في أعقاب الحرب الثانية مسؤولية تقرير مصير الاقتصاد العالمي (والسياسي) الكثير من المعايير الجديدة، التي تنزع منها آليات صنع القرار الاقتصادي المطلق. فما كان ينفع قبل الأزمة بات مستهجناً بعدها. وفهمت دول النخبة التقليدية هذا الأمر، وإن بمرارة عارمة. ولعل الذي يُغري فرنسا بالانقضاض على هذا المنصب اللامع والمؤثر حتى الموجه، أنها احتلته أربع مرات من أصل 11 مرة، نالت ألمانيا الشرف فيها مرة واحدة وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة ، بينما لم تنل دولة كبريطانيا هذا الشرف على الإطلاق، وظلت إيطاليا بعيدة عنه. في حين احتلت السويد الموقع مرتين، وهولندا وبلجيكا وإسبانيا مرة واحدة لكل منها. ربما أرادت فرنسا أن تعوض فشلها في الحصول على كأس العالم لكرة القدم أكثر من مرة واحدة.. هكذا يقول الخبثاء. لا أحد يشكك في القدرات العملية لوزيرة المالية الفرنسية، كما أنها تكتسب عدداً من النقاط لمصلحتها، في مقدمتها أنها امرأة في عالم يسعى إلى تكريس دور المرأة ومنحها الفرص المناسبة لها للإبداع ولإظهار القدرات، كما أنها تتحلى بكثير من اللباقة، وتتحدث اللغة الإنجليزية، التي أصبحت مطلباً ضرورياً لأي منصب دولي. لكن الذي يُطرح حالياً على الساحة العالمية (خصوصاً في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية)، قضية أخرى لا ترتبط فقط بالمؤهلات والجدارة، ولا بجنس المدير. المطروح الآن هو ضرورة أن يكون مدير أهم مؤسسة اقتصادية دولية، اقتصادي فقط. يشتغل في هذا المجال فقط. لا يعرف إلا المعايير الاقتصادية الخالصة فقط. أن يكون مُعلِماً حراً في مهنته. أن يحسب الأمور وفق قيمتها الحقيقية لا الوهمية. أن يطرح ما هو موجود ويعمل على أساسه. باختصار.. المدير المطلوب لصندوق النقد الدولي يجب ألا يكون سياسياً. وليس هناك أفضل من هذا الوقت بالذات للتغيير النوعي لا الإجرائي فقط، في اختيار مدير يعرف سياسة الاقتصاد لا اقتصاد السياسة. ببساطة.. إن الاقتصاد العالمي يحتاج الآن (وليس غداً) إلى اقتصاديين حرفيين يتولون مسؤولية رسم معالمه، لا إلى سياسيين أثبتت الأزمة الاقتصادية العالمية أنهم كانوا جزءاً أصيلاً منها، بل إن بعض كبار المسؤولين في هذه المؤسسة المهمة جداً (والمؤسسات المشابهة الأخرى)، كانت تحركهم الاعتبارات السياسية (والحزبية) أيضاً. لقد آن الأوان للدول الناشئة - الصاعدة أن تُمنح الفرصة، ليس من منطلق التغيير فقط، بل على مبدأ الإشراك، الذي قبلته الدول التقليدية الكبرى صاغرة أو راضية لا فرق، والذي يعزز الخطوات الجارية منذ الأزمة الكبرى، للوصول إلى أفضل حال للاقتصاد العالمي. هذا لا يعني أن جنسية المدير المقبل تشكل الأهمية الوحيدة، لكنها أصبحت مهمة إلى جانب المهنية المطلوبة البعيدة عن أية اعتبارات سياسية أو إقليمية أو فئوية أو ثنائية. اقتنعت كل دول العالم (بما في ذلك دول النخبة الكبرى)، بأن زمن ''الاقتطاعيات'' انتهى، وأن العالم لم يعد مُقسماً إلى واحد قديم وآخر جديد. لقد أصبح هذا العالم كلا واحدا، وقد أظهرت الأزمة الاقتصادية أن الأخطاء الاقتصادية في الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا، لا تظل في هذه البلدان، بل تنتقل بسرعة الرياح إلى دول أخرى، وأن الغرب يؤثر في الشرق والعكس صحيح، وأن المصائب هنا تتحول إلى أزمات هناك، هذا إن لم تنتقل إلى هناك كمصائب. إنه الوقت المناسب للجميع ليعززوا تناغمهم الذي يطلبه العالم أجمع، وإنه الوقت المناسب أيضاً، لإزالة مزيد من رواسب اقتصاد ما قبل الأزمة. *نقلا عن صحيفة الاقتصادية السعودية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل