المحتوى الرئيسى

صُنع في بلاد المسلمين

05/29 12:19

بقلم: عزة مختار لسنوات طويلة كانت كلمة "صُنع في....." هي الشغل الشاغل للمتعاملين في الأسواق العالمية والعربية، وكانت الدول العظمى تتبارى في أن تتميز في سلعة معينة من السلع لا تنافسها عليها دولة أخرى من حيث الإتقان والسعر، وما إلى ذلك من المغريات فهذه السلعة مثلاً كي تضمن أن تستمر صلاحيتها معك لفترة طويلة يجب أن تكون أوروبية الصنع، وتلك من آسيا، وهذه من أمريكا وهكذا.   وخرج من حلبة التنافس في ذلك المجال بلاد العرب والمسلمين قاطبةً، والذين دفعوا فاتورة عشرات السنوات كانوا فيها تحت وطأة ونير الاستعمار الغربي، والذي حرص بدوره على أن يظل الشرق الإسلامي، أو ما أسموه بمنطقة الشرق الأوسط كله تحت سيطرته وضمان استمرار تلك السيطرة حتى بعد خروجه منها، فوضه الحدود بين الدول وقسمها- بعد سقوط الخلافة- إلى ممالك وإمارات ضعيفة حتى القطر الواحد عمد إلى تقسيمه إلى دويلات صغيرة متناحرة، حتى الوقت الذي يتجه في العالم اليوم إلى الاتحادات العالمية والتكتلات ليستمد منها القوة المتكاملة سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا نجد أن بلادنا العربية ما زال الخلاف والشقاق العفن يدب فيها ويزداد خشونةً في ظلِّ أنظمة فاسدة ما هي في الحقيقة إلا بقايا للاستعمار البائد.   وأصبحت كلمة الشرق الإسلامي بلا مبالغة لا تعني للعالم سوى التخلف والإرهاب، وتجد على سبيل المثال صورة العربي في أفلامهم ذلك الإنسان المعمم المتخلف الذي لا يعنيه سوى ملء معدته بالطعام أو إنفاق ما لديه من مال على الخمر والنساء، أو أنه المتهم دائمًا بإحداث الفتن والمصائب حيثما حل أو ارتحل وهو المشبوه والمتهم الأول في كل حادث إرهابي في العالم.وأما كلمة "صناعة محلية" فتجد أن صاحب البلد نفسه يعرض عنها باحثًا عن الأجنبي فهو دائمًا الأعلى جودة وربما الأقل ثمنًا.   وقد حرص الحكام الذين كما أسلفنا هم أداة في الأصل لقهر تلك الشعوب وإذلالها وضمان استمرار تبعيتها واحتياجها للغرب المتحضر من وجهة نظرهم حرصوا على أن يظل الحال عندنا متجمدًا وثابتًا فظلت مناهج التعليم بلا تطوير أو تنوير، وأصبح خريج الجامعة لا يصح أن يطلق عليه إلا أنه "ماحي الأمية" فشهادته التي حصل عليها لا تساوي في السوق العالمي شيئًا وعلمه الذي من المفترض أنه تلقاه لا يساوي في جملته ما تلقاه تلميذ الابتدائي في الكيان الصهيوني المغتصب، فصارت بلاد المسلمين مجرد سوق يتلقي سلع العالم، وأن يكون هناك أي محاولة للتنافس أو التبادل السلعي.   وبلا شك قد مرت البلاد العربية بظروف قاسية وضربات موجعة وخطط مدمرة على يد حكماء صهيون في ذات الوقت الذي كان ينشغل فيه الجميع بكفاح الاستعمار، ومحاولة الحصول على لقب الحرية ما أَخر البلاد عشرات السنوات عن رَكب الحضارة الحديثة، وواصل خطواته الواسعة والسريعة بينما ما زلنا نحن في بلادنا نسأل عن شرعية دخول المرأة البرلمان، أو هل وجهها عورة يجب ستره أو كشفه؟   واليوم وقد بدأت الشعوب العربية تصحو من غفوتها بعد طول غياب أو تغييب فكان لا بد مَن يتغير التفكير في المستقبل تبعًا للمتغيرات الجارية، كذلك يجب أن تتغير نظرة التعامل مع الآخر فتكون بروح أخرى وسياسة أخرى واعية ومتحضرة، سياسة الأخذ والعطاء، سياسة الند للند لا سياسة اليد السفلى الممتدة دائمًا للتسول، والسؤال حتى أصبحنا عالةً على العالم، والآخر الذي أقصده هنا هو الغرب المتمثل في أوروبا، وجانب من آسيا ثم أمريكا التي لا تري غضاضةً من إعلان كرهها وحقدها على كل ما هو عربي عامة وإسلامي خاصة.   وتلك السياسة الجديدة تنطلق من ذلك التفوق الهائل الذي يمكن أن نحدثه على العالم أجمع، بل نقوده واليوم قبل الغد، ربما يتعجب البعض من قولي فنحن مهما فعلنا وحتى لو استرددنا كل الطاقات العلمية الموجودة بالخارج لن نستطيع أن نلحق بالركب في وقتٍ قريب، فما بالنا بالتقدم عليه وأقول: إننا نملك سلعة لا تضاهيها سلعة، سلعة لا يملكها الغرب ولم يستطع أن يملكها بكامل آلته العلمية، والتي ملكتهم الدنيا شرقًا وغربًا وفضاء الأرض وباطنها ومحيطاتها وبحارها، ومع هذا فإننا نستطيع أن نجعل العالم يحترمنا ويقدرنا، ونكون في مصاف الدول القائدة للعالم؛ وذلك بتلك السعة التي نملكها بين أيدينا ولا ندري حتى قيمتها.   إن الحضارة الغربية ما هي إلا مخلوق مشوه عوراء عرجاء لا ترى إلا بعين المادية ولا تسير إلا على قدم واحدة، وأنشأت حضارة تتناقض مع روح الإنسان وطبيعته وفطرته التي خلقه الله عليها فهي لا تحكمها الأخلاق ولا تغذي الروح ولا تروي عطش القلوب ولا تبقي على الإنسانية في الإنسان، وهي وان كانت قد أراحت الإنسان بدنيا إلا أنها أنهكته وأتعبته روحيًّا ونفسيًّا، واقرءوا إن شئتم معدلات الانتحار في تلك البلدان، والتي تتزايد كلما ازدادت نسبة الرفاهية، والغني المادي والحرية المطلقة دون قيدٍ لدين أو خلق.   فتشير الإحصاءات المقدَّمة من منظمة الصحة العالمية إلى أنَّ نِسَبَ الانتحار الأعلى في العالم هي في دول الاتحاد السوفيتي السابق، وكذلك في بعض الدول الأوروبية الغنية كفرنسا والسويد وسويسرا، فإلى ماذا تشير تلك المعلومة لمن تأملها؟ لا بد من التنويه قبل ذلك إلى أنَّ الإنسان لا يُقدِم على الانتحار إلا إذا وصل إلى مرحلة نفسية معقدة وشعور كبير باليأس والإحباط؛ وذلك كما قلنا رغم ما يتمتع به هؤلاء من القمة المادية في كل شيء؛ العلم، الصحة، المال، الرفاهية، الحرية في كل شيء حرية التعبد أو حرية الانحلال.   إنَّ تسجيل أعلى نسبة انتحار في دول ترفع راية الإلحاد واللادينية (كدول الاتحاد السوفيتي السابق)، وكذلك في دولٍ مشهورة بالثراء والرفاهية والترف كالسويد (أعلى دخل فردي في العالم) تشير إلى حقيقةٍ لا جدالَ فيها يفهمها أكثرُ الناس بشكل معكوس، وهي: أن السبيل إلى الراحة والسعادة ليس في التحرر من الدين والانسلاخ منه (الشعوب السوفيتية مثالاً)، وكذلك ليس في الوصول إلى الشبع المادي بشتى صوره وألوانه (الشعوب الأوروبية مثالاً)، والتجارب أثبتت صدق هذا الكلام وإنْ ادَّعى الناس خلاف ذلك.   يقول الله- عزَّ وجلَّ- في كتابه العزيز في سورة طه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)).   وتلك هي البضاعة التي أقصدها، إنها السلعة الغالية التي يفتقدها العالم، والتي ظلت البشرية كلها تبحث عنها بكل سبيل وليس لها سوي سبيل واحد، إنه الإيمان بالله الواحد والخلق الذي يزين العلم والعمل.   إنها السعادة في الدنيا والآخرة، تلك السعادة التي تجعل الإنسان في انسجامٍ مع نفسه وتعايش سلمي معها، وإلا فالانتحار هو السبيل.   إن العرب والمسلمين يملكون في أيديهم كتاب الله- عز وجل-، والذي ما زال يجوي بين طياته الكثير من الأسرار يجود بها الله علينا وعلى البشرية كل يوم، والتي ستظل آياته الكريمة مصباحًا هاديًا لكل مَن يبحث عن الهداية، وعن العلم والتاريخ الماضي والحاضر والمستقبل، وفيه الإجابة الوافية الشافية عن كل محير العلماء والحكماء على مدى تاريخ الإنسانية كله فيه العلم الذي يخاطب العلماء بلغتهم ويحدثهم: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (فصلت: من الآية 53)، وأنا على يقينٍ أن الغرب بأكمله إذا بلغه الإسلام وقرأ القرآن بتجرد لأصبح مسلمًا عن بكرةِ أبيه.     ولكني أرى الحائل دون ذلك، وللأسف الشديد هو نحن المسلمون العرب؛ إذ نقدم النموذج الغير صالح للعالم، وسوف يسألنا المولي عز وجل عما ضيعناه من أخلاق القران وتعاليمه التي تحثنا على العلم والتقدم والبناء والسعي والبحث وتشير المئات من الآيات القرآنية العلمية الصريحة إلى عظيم خلق الله وإبداعه في الكون، وتلك هي اللغة التي يفهمها الغرب جيدا لغة العلم والبحث، ونحن اليوم على أعتاب صفحات جديدة نحاول أن نسطر فيها كلمات الحرية والكرامة والبناء فنحن مؤهلون حين نتحدث أن يسمع لنا، وتلك هي بضاعتنا الكريمة، والتي لا يلحقها العطب بل هي متجددة تجدد الزمن وباقية إلى يوم الدين، وبقي أن نحسن تقديمها، إنها جملة أخلاق لم يعرفها العالم يومًا بينما هو في أشد الحاجة إليها كي تستمر مسيرته الإنسانية ونحن نملكها ونستطيع اليوم أن نقوم بتصديرها بفخرٍ وعزة مكتوبًا عليها "صُنع في بلاد المسلمين".

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل