المحتوى الرئيسى

أستاذي الجليل القاضي الفقيه المجتهد/ فيصل مولوي.. وداعًا

05/26 14:05

بقلم: د. عصام العريان عندما حصلت على تأشيرة لدخول لبنان للمشاركة في أعمال الدورة الثامنة للمؤتمر القومي الإسلامي، حرصت أن تكون متعددة الدخول، تحسبًا لأني قد أُعاود الزيارة لأسباب أخرى، من بينها في تقديري المشاركة في وداع الشيخ الجليل والفقيه المجتهد القاضي الشرعي الأستاذ/ فيصل مولوي، الأمين العام للجماعة الإسلامية في لبنان، ولكن أقدار الله شاءت أن أُحْرم من الوداع، بل لم أستطع زيارته في المستشفى أثناء وجودي في بيروت؛ لأنه كان في غيبوبة تامة، واكتفيت بالحديث التليفوني إلى «أم عَمَّار» زوجته الوفية وأولاده.   كنت في سفر آخر، وقد أسعدني حضور المرشد العام أ.د. محمد بديع في العزاء الضخم ببيروت، وحضور أخي الحبيب أ. د. محمد البلتاجي في الجنازة في طرابلس الشام.   الشيخ يستحق من كلِّ العاملين في الحقل الإسلامي وميدان الدعوة إلى الله وساحة الفكر والسياسة كل تقدير واحترام، وقد كان وداعه إلى القبر والعزاء فيه يناسب مقامة الكبير، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح الجنان، وعوضنا عنه خيرًا.   الجماعة الإسلامية بلبنان، والإخوان المسلمون في العالم، واتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، والكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية بفرنسا، كانت هذه بعض الساحات التي عمل في إطارها الفقيد الراحل، إضافة إلى المؤتمر القومي الإسلامي، الذي كان أحد أعمدته القوية الراسخة؛ لجمع شمل تيارات الأمة الرئيسية، في إطار فكري تنسيقي ضد كل صور الهيمنة والغطرسة الأجنبية، وضد العدوان الصهيوني.   عرفت الشيخ فيصل عام 1981م لأول مرة، وامتزجت روحنا رغم ابتعاد المسافات بيننا وصعوبة التلاقي، كنت بصحبة أستاذي الحاج مصطفى مشهور غفر الله له ورحمة الله عليه في زيارة دعوية إلى فرنسا.   وقد حدث أثناء السفر في تلك الرحلة أمر عجيب، فقد كنت قبلها بليلة في اجتماع عند وزير الداخلية آنذاك اللواء النبوي إسماعيل مع قيادات الدعوة الإسلامية برئاسة المرشد العام الراحل الأستاذ عمر التلمساني رضي الله عنه؛ بسبب أحداث الزاوية الحمراء التي تفجرت في صورة نزاع وفتنة بين المسلمين والمسيحيين، وحملت معي بعض البيانات التي تمَّ توزيعها على الشعب، ومذكرة بالجهود التي بذلناها لاحتواء الأزمة، وبعض المقالات، واكتشفها مفتش الجمارك بإشراف أمن الدولة؛ ما أدى إلى احتجازنا وصعودنا إلى مكتب مدير أمن الدولة بالمطار، بصحبة الحاج مصطفى الذي علمني وقتها درسًا عظيمًا، إذ لم يوجه إليَّ كلمة لوم واحدة، ولا حتى نظرة عتاب.   أدى احتجازنا لمدة ساعة إلى تهديد الرحلة كلها بالإلغاء، إلا أنه بعد الاتصال ببرج المراقبة وبعد الاتصالات بمكتب الوزير تمَّ تأخير إقلاع الطائرة لحين وصولنا.   في باريس كان اللقاء الأول مع الفقيد العزيز، وتفضل بدعوتنا في منزله على طعام لا زلت أتذكر مذاقه الطيب، وأصررت عندما زار الشيخ مصر بعدها بسنوات أن أرد له عزومته ببيتي المتواضع في منطقة الطالبية الشعبية بالهرم، والتي لا أزال أقطن بجوارها، وشرفني بالزيارة قبيل إقلاع الطائرة، ونسي جواز سفره في شقتي؛ ما أدَّى إلى عدم سفره، وتأخيره إلى يوم كامل، وظلت تلك القصة مثار حديث وذكريات بيننا، وشاركتنا فيه زوجتي التي فشلت يومها في العثور على الجواز لضيق الوقت واختفائه تحت الوسائد.   تكررت اللقاءات بعد ذلك في إطار جهودنا المشتركة لتأسيس وإدارة المؤتمر القومي الإسلامي منذ 1993م، فقد تزاملنا منذ البداية في لجنة المتابعة واللجنة الإدارية، وكنت حريصًا- ولا أزال- على حضور مؤتمرات ولقاءات المؤتمر، ولا أنسى أننا في اجتماع للفريق الإسلامي عام 2004م، وكان الدور على التيار الإسلامي لاختيار مرشح لموقع المنسق العام بعد أن تولى الصديق الدكتور محمد عبد الملك المتوكل لدورتين، بعد وفاة أحد أعمدة المؤتمر الدكتور أحمد صدقي الدجاني، فرشحني الشيخ، واعترضت لعدة اعتبارات، منها صغر سني قياسًا لآخرين من القامات الإسلامية الحاضرة، ومنها أنني مشغول في أنشطة الإخوان المسلمين في عهد جديد، تولى فيه الأستاذ محمد مهدي عاكف موقع المرشد العام، وتربطني به صلة عميقة وحب كبير؛ ما أدى إلى تكليفي بأعباء عديدة، ومنها أنني أصبحت أحد ألسنة الإخوان الناطقة، ومتحدثًا إعلاميًّا معروفًا، وهذا يقدح في مقدرتي على التعبير عن المؤتمر القومي الإسلامي.   أَصَرَّ الشيخ، ووافق المجتمعون، فطلبت منه أن يستأذن المرشد العام قبل إعلان ذلك، فقام بهذه المهمة، وعاتبني الأستاذ عاكف، مشترطًا أن أظلَّ متحدثًا باسم الإخوان أيضًا؛ ما أحرجني، فقد كان القوميون يصرون على أن أتخلى من دوري الإخواني، وهو ما رفضته مفضلاً إمكانية التوفيق بين الواجبين.   للشيخ اجتهادات عظيمة ورائعة، وفتاوى منشورة ومعروفة، ونشاط علمي ودعوي وحركي واسع، وقد كنت أرجوه أن يتفرغ للفقه والفُتيا والاجتهاد في زمن عزّ فيه وجود مجتهدين، وتحتاج الحركة الإسلامية إلى مجمع فقهي للاجتهاد، وليس مجرد أشخاص فقط، وكان يوافقني ولكنه يشكو ظروف العمل الإسلامي في لبنان، الذي كان يعاني وقتها من عدة أزمات محلية وإقليمية ودعوية.   عانت الجماعة الإسلامية من مشكلة داخلية في خلاف مع أحد أبرز مؤسسيها الراحل العظيم المفكر الكبير الأستاذ/ فتحي يكن، فكان لا بد للشيخ أن يتولى القيادة التي طالما عزف عنها، وزهد فيها تحت ضغط إخوانه.   وعانى لبنان نفسه من انقسام داخلي خطير بين تياري 14 آذار، و8 آذار، والشيخ محل تقدير من كلِّ الفرقاء اللبنانيين، فكان لا بد من الانغماس في هموم الوطن، والانشغال بقضاياه على حساب الوقت المتاح للتفكير الهادئ، والدراسات المتعمقة، خاصة مع افتقادنا للتلاميذ الذين يعينون الشيوخ في البحث والدراسات والإعداد.   وعانى الوطن العربي- وبلاد الشام خاصة- من ضغوط هائلة أدت إلى وجود عسكري واستخباراتي سوري طويل في لبنان، ثم ثورة الأرز التي أدَّت إلى الخروج السوري من لبنان، واحتضان سوريا للفصائل الفلسطينية المعارضة لاتفاقات أوسلو، ومسار المفاوضات التي لا تنتهي، وتعاظم دور المقاومة الإسلامية في لبنان التي سيطر عليها "حزب الله"، بعد أن أنهى دور المقاومة للفصائل الأخرى، بما فيها الجماعة الإسلامية التي يتزعمها الشيخ نفسه، والتي كانت هي التي أطلقت الشرارة الأولى من "صيدا" قبل ظهور "حزب الله" وزيادة نفوذه، وكان الشيخ رمانة الميزان بين سوريا ولبنان، كما كان أيضًا الحكم العادل بين الإسلاميين اللبنانيين والفرقاء المقاومين، فقد نجح في الاحتفاظ بعلاقات متوازنة، واكتسب احترام الجميع، لذلك شارك الجميع في جنازته الحاشدة، وحضر الجميع في عزائه الضخم تقديرًا لدوره ولمكانته، رسميين وشعبيين، إسلاميين وقوميين، ويساريين وليبراليين، سُنة وشيعة ودُروز وعلويين، مارونيين وأرثوزوكس، وروم كاثوليك وأرمن وسريان، سوريين وفلسطينيين وأردنيين، ومصريين، ومن بلاد أوروبا المختلفة، بل من كافة أنحاء العالم.للشيخ بحوث متعددة، تعالج قضايا محددة، كان من أهمها ما قدَّمه لأبناء الحركة الإسلامية في مجال العمل السياسي والدعوي والفكري.   في الشهور الأخيرة كنت أنصح شباب الإخوان والمسيحيين بقراءة بحثين في غاية الروعة للشيخ الفقيد: "السلام على أهل الكتاب"، و"المفاهيم الأساسية للدعوة الإسلامية في بلاد الغرب"، وقد طبعها مع بقية بحوثه المركز العربي للإعلام العربي، بإشراف الأخ الصديق الأستاذ/ صلاح عبد المقصود، القائم بأعمال نقيب الصحفيين بمصر.   للشيخ اهتمام كبير بالمعاملات الاقتصادية والمالية والنقدية، وقد أخرج فيها عدة بحوث منشورة، حول الربا والمصارف والبنوك، ونظام التأمين وموقف الشريعة منه، وأثر انهيار قيمة الأوراق النقدية.   وقد كان لدور الجماعة الإسلامية التربوي والتعليمي أثر كبير في اتجاه الشيخ للتأليف المبكر لطلاب وتلاميذ المدارس بمراحلها المختلفة، فألف سلسلة مبادئ التربية الإسلامية للمرحلة الابتدائية (خمسة أجزاء)، والتربية الإسلامية للمرحلة المتوسطة (أربعة أجزاء)، والجزء الأول للمرحلة الثانوية.   وقد عاش الشيخ في أوروبا عدة سنوات، مشرفًا ومؤسسًا للكلية الأوروبية للدراسات الإسلامية في «شاتوسثينون» عام 1990م حتى عام 1994م، وقد دفعه ذلك للاهتمام بأسس العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين من الناحية الشرعية، وقد كان لنشأته في لبنان الذي يعيش فيه 18 طائفة مختلفة ومتعايشة تحت إطار "لا غالب ولا مغلوب" أثر كبير في نضج رؤيته لتلك العلاقة الملتبسة لدى كثير من شباب المسلمين، خاصة الذين يعيشون في بلاد الغرب، بمفاهيم أحضروها معهم من بلادهم المشرقية التي تعيش ظروفًا محتقنة.   تميز فقه الشيخ فيصل مولوي بالاعتدال والوسطية، والبحث في الحكم والمقاصد، والغوص في المصادر الأولية للقرآن والسنة الصحيحة، والعمل على حلِّ مشكلات واقعية يواجهها المسلمون في حياتهم اليومية.   أخي وصديقي وأستاذي وشيخي القاضي الفقيه، المربي العظيم، السياسي الحكيم، الداعية الفَذّ.. وداعًا إلى حين لقاء، أسأل الله أن يسكنك فسيح الجنات، في أعلى الدرجات، مع النبيين والصديقين والشهداء، وأن يعوض الجماعة الإسلامية ولبنان والإخوان والأمة العربية والإسلامية عنك خيرًا.   وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يقبض العلم ينتزعه انتزاعًا من صدور العلماء، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء". ----------- * نائب رئيس حزب "الحرية والعدالة".

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل