المحتوى الرئيسى

هؤلاء عاشوا في وجداني بقلم على عبد الفتاح

05/25 18:59

هؤلاء عاشوا في وجداني جان بول سارتر (1905- 1980 م) بصدق لقد دمرني سارتر .. قرأت كتاباته وانا مازلت في الرابعة عشر من عمري .. وتملكنى الاعجاب به وسيطرت فلسفته على فكري وحياتي وكنت اخاطر .. وامارس افعالا غريبة وحين يسألني احدهم : -كيف تجرؤ وتفعل ذلك ؟ أقول في فخر : - انا وجودي .. ورائدي جان بول سارتر .. وكانت مؤلفات سارتر تنشر مترجمة في كتيبات باسعار ليست غالية فأقبلت اقرأ بشغف واحساس باني لا انتمى لهذا العالم فانا وجودي .. وذات مرة سألني احد الرفاق : - يعنى أيه وجودي ؟ وشعرت بالحيرة .. ولم اجد تعريف واضح للوجودية التي امارسها .. وكل مافهمته من ادب سارتر ان يكون لك فكر خاص أن تكون حرا تفعل ما تريد دون خوف وعليك تحمل نتائج ما يحدث. وقد تحملت اعباء كثيرة .. وواجهت مشاكل بسبب كوني : وجودي .. كنت اذهب الي المدرسة دون كتب او حقيبة .. لا احمل سوى قلم وبعض اوراق ادون عليها ما يعجبني من الدروس .. وعندما سألنى المعلم : اين كتبك ؟ اين دفاترك ؟ اقول بفخر : اني مؤمن بالوجودية وانفجر المعلم غضبا في وجهى .. ولا اريد ان اذكر التفاصيل .. هذا هو الرجل الذى دمرني حتى استطعت التحرر من فلسفته بعد فترة طويلة دفعت الثمن غاليا .. حتى الفتاة التي كنت احبها قلت لها : - لن اتزوجك .. لاني وجودي وانا مثل سارتر من الممكن ان نعيش معا دون زواج .. وصرخت الفتاة في وجهى وقالت : انت اكيد مجنون وفقدتها .. كما فقدت معاني اخرى في حياتي ولكنى مازلت اشعر ان سارتر علمنى معنى الالتزام ومعنى الحرية والوجودية. جان بول سارتر .. الأديب الذي فلسف الحرية وأيقظ الإنسان من سباته ليعلمه معنى الالتزام ولذلك فقد أتخذ سارتر موقفا من الحياة والأنظمة والأحداث والحروب والنظريات القائمة ليبحث من خلاله عن معنى لهذا الوجود. وأكد سارتر أن كل فرد في هذا العالم عليه أن يحدد طريقه وهدفه وفلسفته ويقدم تصوره عن نفسه بنفسه وليس كما يرى الآخرون. فالإنسان قادر على تشكيل ذاته وحريته ليصبح مسئولا عن هذه الحرية أمام المجتمع والناس والأنظمة ، وأنه من الخطأ أن يترك الإنسان ذاته للآخرين ليقيموا حوله الفروض والتحليلات ويضعوه في شكل من خيالهم أو تصورهم فإن ذلك يعني إلغاء الحرية الفردية تماما . ولذلك يقول سارتر : إن الإنسان محكوم عليه بالحرية لأن الطبيعة الإنسانية لا يمكن تعريفها إلا في إطار الحرية . لقد رفض سارتر نظريات التحليل النفسي التي أطلقها فرويد عن اللاشعور والجنس ورفض كذلك ما تنادي به الماركسية بأن القوى الاقتصادية قادرة على التحكم في الفرد. وأطلق سارتر حديثه عن الوجود والحرية صفة " الوجودية". وأطلق المثقفون عليه بأنه الوجودي الكبير . ولكن كيف ارتبطت الوجودية بالغضب على هذا العالم والأوضاع القائمة ؟ عاش سارتر وحيدا بعد وفاة والديه مع جده لأمه. واكتشف أن حوله مكتبة عامرة بشتى أنواع الكتب فقرأ كتابات كورني وجوته وشاتوبريان وهوجو وموباسان وفلوبير واستطاع أن يخلق لذاته ثقافة وفكرا جمعا بين الأدب والفنون والفلسفة. ويقول عن ذلك : لقد عرفت الكون في الكتب واختلطت في ذهني تجربتي غير المنظمة المستمدة من الكتب بأحداث الحياة الواقعية .ونجم عن ذلك نوع من المثالية التي تطلبت منى أن أخلص لها . وعندما قامت الحرب العالمية الثانية وجد نفسه جنديا في حرب لم تقم إلا على أنقاض الشعوب ودمائهم. ووقع أسيرا في يد الألمان عام 1940 وكتب مسرحية أثناء الاعتقال وظل يناقش زملاءه في فلسفة هيدجر ونظرته للوجود وحرية الشعوب وكرامتها وتميز الفرد واستقلال شخصيته. وبعد أن أطلق سراحه عام 1941 تفاقمت جبال الغضب في ذاته وتفجرت ثورته ضد الأنظمة الفاشية وطغاة الحروب وقرر أن يكون جماعة اسمها :المقاومة الفكرية. ومن هنا بدأت شلالات الغضب والسخط والنقمة تجتاح وجدان سارتر ومن فكره وأخذ يدعو إلى المقاومة والبحث عن الحرية ودعوة المثقف إلى الالتزام بمسئوليته تجاه هذه الحرية فالقلق يمزق البشر والضياع يقودهم إلى طرق مغلقة ولم يعد هناك تبرير معقول لما يحدث في الواقع. وقد نبعت فكرة الالتزام لدى سارتر بعد تجربة الأسر والظروف السياسية والاجتماعية التي واجهت مجموعة المثقفين والأدباء والمفكرين وتعهد سارتر أن يرشد الناس إلى طريق الحرية فهي الهدف والحقيقة الواضحة في كثافة ضباب الأنظمة المتعثرة المنهزمة التي تشيد أمجادها من عظام الشعوب ودمائها . انغمر سارتر في السياسة والأدب وكتب مسرحيات ومقالات كثيرة وعرف في الواقع الثقافي والعالم السياسي بأنه الوجودي الغاضب الباحث عن معنى لهذا العالم من خلال ثورة تقف ضد التخلف والاعتقال والمصادرة. وأدى به هذا إلى إدانة النظام الفرنسي السياسي كما هاجم الخلل والفساد والتناقض في هذا النظام وبدأ يكشف حقائق كانت خفية ولم يتراجع عن موقفه وكان يتمنى أن تعتقله فرنسا ليصل صوته إلى كل أحرار الأرض والثوار في كل وطن وتمنى حقا الاستشهاد من أجل مواقفه وآرائه ولكن حكومة د يجول كانت يقظة وواعية لهذه الفكرة ورفضت اعتقال سارتر كي لا يصبح أكثر شهرة وظاهرة خطيرة. وقد وقف ديجول يوما وقال : إننا لا نستطيع القبض على فولتير الغاضب !!! ويقصد بذلك أن سارتر في موقف فولتير ولا يمكن أن تعاد التجربة مرة أخرى فقد وقفت الحكومة الفرنسية في وجه المفكر الفيلسوف فولتير وطاردته فأصبح بطلا من أبطال حرية الفكر والنضال ضد الفساد والرجعية والاستبداد. ولذلك فقد تركوا سارتر يمضي في مناقشاته وكتاباته ومقالاته الجريئة ورواياته العميقة ومسرحياته الثائرة. وكان أبطال قصص سارتر يتألقون في ذهن القراء ووجدانهم يفلسفون الحياة ويوجهون الإدانة الشديدة لمحنة الفرد في مجتمع قاس لا يعرف سوى ضربات الغدر والخيانة والقهر. ولهذا فقد شعر المثقف بأنه في عزلة تامة ووحدة جرداء وقد تولدت لديه حالة من القلق إزاء هذه الأحاسيس المتناقضة والحياة الجافة وقد عبر سارتر عن ذلك في رواية " الغثيان 1938 حيث يقول البطل أنطوان روكنتان : •أنا أعيش وحدي في عزلة تامة ولا اكلم أحدا ..أبدا كما أنى لا احصل على شيء ولا أعطى أي شيء وهكذا يعيش البطل في ملل قاتل حيث يدور بلا هدف في المدينة ويكتشف عدم جدوى حياته وتنتابه حالة من الغثيان في مواجهة الخداع والزيف والخيانات والحروب والقهر والتسلط وعمليات الاستلاب الفكري والاعتداء على حرية الإنسان وكرامته. ومن هنا يرى سارتر أن الإنسان لابد له أن يغضب حين يشعر أن وجوده قد أصبح بلا فائدة وبلا معنى وبلا أثر وعليه أن يبحث عن طريق آخر يمنحه هذا المعني المفقود ليغزو العالم من جديد بفعل ثوري قائم على الحرية والمسئولية والالتزام. وينظر سارتر إلى الآخرين هؤلاء الذين لا يشعرون بالرغبة فى أن يعيشوا أحرارا من صنع أنفسهم ويخضعون للقهر والأنظمة الفاسدة فانهم سوف يكونون مرغمين على التمثيل وارتداء أقنعة العبودية والسقوط الدائم دون حس أو كرامة .إنهم يمثلون الجحيم الحقيقي للبشرية . في رواية " سن الرشد " يبدو البطل قد فقد حريته في الاختيار وفى تطوير ذاته فلا يجد وسيلة سوى أن يلجأ إلى التمثيل ولا يدري كيف يقاوم هذا الملل وتلك الكآبة والسأم الذي يعتريه دائما .وعندما يقترب منه شحاذ يطلب إحسانا ويعبر الشحاذ عن أسفه لعدم قدرته على الذهاب إلى أسبانيا للمشاركة في كفاح الشعب الأسباني من أجل الحرية والحق فى الحياة. يفكر البطل في ذاته التي أصبحت بلا معني وحياته التي بلا هدف وأنه بلا قضية يحيا من أجلها فقد عشق فتاة على وشك أن تنجب له ولدا ويخشى أن يتزوجها لأنه يخاف أن يتحمل مسئوليتها.ويرفض الالتزام بشيء حتى انه لم يفكر في السفر إلى أسبانيا ليحقق أمنية الشحاذ ويدافع عن الحرية مع الشعوب ويقول في يأس: أنا حر ولم يتبق لي أي سبب أعيش من أجله. ولكن كان لابد لهذا البطل أن يغضب لأنه ما فائدة حريته دون التزام ؟؟؟؟ إن سارتر لا يتوقف عند حدود الاختيار بل إن الوعي ضروري لاكتشاف هذا الوجود.فالوجود هنا ليست حالة وإنما هو فعل ويشترط لهذا الفعل الحرية وعلى الإنسان أن يختار حرية الفعل أو يرفض ثم عليه الالتزام خلال هذا الاختيار. إن سارتر يجتاحه نوع من الغضب الخفي الذي لا يبدو جليا إلا بعد تحليل معاناة الأبطال في أدبه السياسي فكل الشخوص حائرة تبحث عن يقين وخلاص من الأزمة التي تلاحقها.فيقول أوريست بطل رواية "الذباب": أنا إنسان ويجب على كل إنسان أن يختار طريقه وفي رواية "الحزن حتى الموت " يعترف البطل في حزن ويأس: إن العالم مجرد مصادفة ..!! ولذلك يجب أن تشعر أن هناك دورا عليك اكتشافه وتحديده واختياره وهذا الدور يرتبط بالحرية وبمسئوليتك تجاه هذه الحرية ثم الالتزام نحو القضايا المصيرية . ولذلك فإن الأبطال لدى سارتر عاجزون حين يغيب الوعي لديهم وكانوا يفشلون في اكتشاف طريق الحرية الحقيقي. وكذلك ففى مسرحية "الذباب " عندما يبدأ البطل اوريست في الانتقام من القائد الذي قتل آباه وتزوج أمه ونفاه صغيرا إلى إحدى البلاد فإنه يستطيع تحرير بلده من الحشرات ويجد نفسه حينئذ في حالة اللامبالاة لأنه من البداية لم يكن يملك فرصة الاختيار وحرية الفعل إنه كان مدفوعاً بإرادة اللاوعي إلى هذا الانتقام ويقول : إنني أشعر وكأنني شيء لا وزن له ..!!! فقد كان البطل محروما منذ البداية من الاختيار حين سيطر عليه اللاشعور ولذلك فإن اختيارنا للأفعال يجب أن يكون خاليا من تأثير اللاشعور أى أن يرتبط بالوعي الكامل لما يدور حولنا ولا سبيل إلى ذلك سوى أن تشعر في لحظة ما بالغضب على نوع حياتك هذه وموقفك فتحاول البحث عن معنى لوجودك. ورحل سارتر غاضبا وقد تعلمنا منه معنى أن يكون للإنسان هدف في الحياة هدف نابع من إصراره على الحرية والتزامه بمسئوليته تجاه قضايا أمته ومعاناة البشر . ****************

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل