المحتوى الرئيسى

لماذا لن نرشح أو نؤيد أحدًا منَّا في انتخابات الرئاسة القادمة؟

05/21 22:33

بقلم: د. محمود غزلان أثار هذا الموضوع تساؤلات شتى، وظنونًا مختلفة، وأطلق عتابًا من بعض الناس، الأمور التي استوجبت شفافية وتوضيحًا شديدين؛ حتى تطمئن القلوب وتستريح النفوس.   وأبدأ أولاً بالرد على الظنون: الظن الأول أننا اتخذنا هذا القرار ضد رغبة شخص بعينه يريد أن يترشح للرئاسة، وهذا الكلام غير صحيح بالمرة، فقد قررنا هذا يوم 10 فبراير 2011م في اجتماع مجلس الشورى الأول بكامل هيئته، وحظي القرار بالإجماع، وكان ذلك قبل أن يتنحى الرئيس المخلوع ويسقط النظام، ولم يكن وقتها قد فكر أحد، فضلاً عن أن يقرر أن يترشح للرئاسة فلم يكن ذلك الأمر مطروحًا على الساحة.   وعندما سمعنا أن هناك أفرادًا لديهم رغبة في الالتفاف على قرار الجماعة؛ بالترشح بصفتهم مستقلين استكملنا القرار في اجتماع مجلس الشورى الثاني بكامل هيئته في 29 و30/4/2011م بأننا لن نؤيد أحدًا منَّا ترشح لرئاسة الجمهورية، وحظي القرار بالإجماع، ولم يكن ذلك موجهًا لشخص بعينه، فقد كان الراغبون أكثر من شخص- وإنما كان احترامًا منَّا لقرارات الجماعة، وحفاظًا على مصداقيتنا؛ ولأن الأسباب الموضوعية التي عزفنا من أجلها عن ترشيح أحد منَّا لا تزال قائمة في حقِّ من يترشح منا مستقلاً أو مستقيلاً، ولأننا أصحاب مبادئ لا يمكن أن نخدع الناس أو نتكلم بلسانين أو أن نظهر بوجهين، إضافة إلى أننا نريد أن نقدم للناس نموذجًا للسياسة الملتزمة بالأخلاق، وأن الغاية الشريفة لا بدَّ أن يتوصل إليها بوسيلة شريفة.   وهنا سؤال: هل يجوز لِمَن أقسم يمينًا بالله تعالى: «أن ينزل على رأي الجماعة ولو خالف رأيه» أن ينكث في هذا القسم أو ينقض هذا العهد مع الله قبل أن يكون مع الجماعة، ثم أليس النزول على رأي الجماعة أو أغلبيتها صميم الشورى، ولب الديمقراطية؟   وإذا كان عسيرًا على شخص أن ينزل على حكم الشورى ويحترم الديمقراطية رغم أنه مجرد من السلطة، ورغم أن الدين والمبادئ والأخلاق والعهد مع الله تفرض عليه ذلك، فهل تراه ينزل على حكمهما، وهو يملك السلطة؟   ورغم ذلك فقد خرج بعض أصحاب القلوب المريضة يزعمون أن قرارنا الأول ما هو إلا تمثيلية ننفي نحن عزمنا عن الترشح، ونحرض أحدًا منَّا أو على الأقل نسمح له بالترشح مستقلاً، ولذلك كان قرارنا حاسمًا ليسكت هذه الألسنة، ويبطل هذه المفتريات.   ولقد تعرضنا أيضًا لعتاب من بعض المخلصين باعتبار هذه الظروف فرصة علينا أن ننتهزها، وخصوصًا ونحن منظمون وكثير من أفراد الشعب متعاطفون معنا، ولهؤلاء أقول: إن كنتم تقصدون بانتهاز هذه الفرصة مصلحتنا كأفراد أو كجماعة فقد أخطأتم، فلسنا طلاب سلطة أو راغبين في دنيا، ولكننا بكلِّ أعمالنا وأقوالنا ومواقفنا نبتغي وجه الله والدار الآخرة، ونسعى لذلك عبر إصلاح الدنيا وخدمة الناس، فلا المال ولا المنصب ولا الجاه تستهوينا، وحسبنا قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الرئاسة: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة حسرة وندامة"، وفي ذلك يقول الإمام البنا- عليه رحمة الله- "وأريد بالإخلاص أن يقصد الأخ المسلم بقوله وعمله وجهاده كله وجه الله وابتغاء مرضاته، وحسن مثوبته من غير نظر إلى مغنم أو مظهر أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر، وبذلك يكون جندي فكرة وعقيدة، لا جندي غرض ومنفعة"، وأما إن كنتم تقصدون بالفرصة المتاحة إصلاح الأمة وتحقيق الصالح العام، فهذا لا يتحقق بالضرورة بتولي الرئاسة والتمكن من السلطة، فإننا نؤمن بإصلاح النفوس، وتغيير الباطن، وتربية الناس، وإصلاح الأخلاق والسلوك، مع إصلاح مؤسسات الدولة، ومنظومة القيم والمفاهيم والتشريعات إصلاحًا متدرجًا، وإحياء مشروعات النهضة للارتقاء بمستوى الأفراد والشعب والوطن، وهذا كله يحتاج إلى وقت واتئاد، وقديمًا وصف شوقي منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإصلاح بقوله: داويت متئدًا وداووا طفرة  وأخف من بعض الدواء الداء وأيضًا سبق أن قال إمامنا حسن البنا- رحمه الله- "ومع هذا فالإخوان أعقل وأحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذا الحال، فلا بدَّ من فترة تنشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة".   أما أسباب القرار- إضافة لما سبق- فنحن لا ننظر تحت أقدامنا فحسب؛ ولكن ننظر إلى بعيد ولا نحسب حسابات بسيطة؛ ولكن نحسب حسابات كثيرة معقدة، ولا ننظر إلى الظروف الداخلية فقط، وإنما ننظر إلى الظروف الإقليمية والدولية أيضًا، ونعتبر أيضًا بالتجارب من حولنا.   فلقد ظلَّ النظام السابق يستخدمنا كفزاعة للداخل والخارج، وعاد الكارهون للإسلام أو الإسلاميين إلى نفس اللهجة في حملات إعلامية ضخمة يخوِّفُون الناس منَّا ومما سنفعله بهم إن تولينا الحكم، وأصبحنا في حاجة للوصول إلى الناس ليعلموا حقيقتنا، ويروا سلوكنا، في ظلِّ إمكانات مادية وإعلامية غير متكافئة، إضافة إلى الحملات الإعلامية الدولية التي تربطنا بالإرهاب، وتثير فزع الغربيين منا، وتجعل حكوماتهم تتربص بنا، وتسعى إلى التضييق علينا في ظلِّ أوضاع اقتصادية منهارة، وديون متراكمة، وشعب حُرِم طويلاً من أبسط حقوقه المادية والمعنوية، ويتطلع متعجلاً لتحسينها، الأمور التي تصيبه بالإحباط واليأس وربما الانقلاب علينا ورفض منهجنا، لو فرضت عليه ظروف أسوأ بسببنا، لذلك فإن تقديم المصلحة العامة (مصلحة الشعب) على المصلحة الخاصة (مصلحة الجماعة) تفرض علينا أن نتأخر عن هذه المناصب، ولو تذكرون أننا في ظلِّ النظام السابق كنا نعزف عن الترشح لمنصب النقيب للنقابات المهنية؛ حفاظًا على مصلحة مائة ألف أو مائة وخمسين ألفًا من أبناء المهنة، فما بالنا بمصلحة خمسة وثمانين مليونًا من إخواننا المواطنين المصريين؟!.   إننا نسعى لتمثيل الشعب وتشجيع الصالحين أيضًا على تمثيله، ونسعى لوضع دستور يعبِّر عن هوية الأمة ومبادئها، ويقرر حقوق الناس، ويؤكد أهدافهم وتطلعاتهم لحياة كريمة حرة، ويجعل من منصب الرئيس رمزًا للدولة بتقرير النظام البرلماني، أو يقلص من صلاحياته، ويؤكد على مسئولياته وطريقة محاسبته إن قرر النظام الرئاسي.   كما أننا لا نريد احتكار السلطة، ونريد إشراك القوى الوطنية والشباب المخلص في تحمل المسئولية، فالتبعة ثقيلة تحتاج لكل الجهود، كما أننا أحوج ما نكون لوحدة القوى الوطنية تحقيقًا للمصلحة العامة، فالظرف لا يحتمل ترف العداوة والصراع، إضافة إلى أننا نعتبر بالتجارب التي قامت حولنا، ونستفيد من أحداثها، لنتفادى تكرار الأخطاء، ونحاول تعظيم النجاحات، لنحقق- بإذن الله- تجربة رائدة يستفيد منها العرب والمسلمون، بل والعالم أيضًا.   وتبقى هناك شبهة يثيرها البعض، وهي أنه إذا ترشح للمنصب عدد من الناس أحدهم أو بعضهم كان ينتسب إلى الحركة الإسلامية، كيف نتركه وننتخب غيره؟   ولا أريد هنا أن أثير موقفهم من العهد مع الله، فذلك أمر مفوض إليه- سبحانه- ولكني أقول: إن هذا الأمر يدخل في باب السياسة الشرعية، ويحتاج إلى فقه المقاصد، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات.   ففي فقه الموازنات يجب الموازنة بين المصالح والمفاسد في ضوء القواعد الآتية: 1- درء المفاسد مقدم على جلب المنافع. 2- تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد. 3- تقدم مصلحة الكثرة على مصلحة القلة. 4- تقبل المفسدة وإن كبرت إذا كانت إزالتها تؤدي إلى ما هو أكبر منها.   ومؤدى هذا أنني ينبغي أن أضحي بمصلحة شخص أو مجموعة إذا كانت ستؤدي إلى إضرار بمصلحة شعب أو أمة أو وطن.   ونجد في القرآن الكريم أدلة على ذلك منها: 1- قول هارون لموسى عليهما السلام: ﴿يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)﴾ (طه) فهنا صبر هارون على انحراف بني إسرائيل حتى يرجع موسى خشية أن يتفرق الشعب ويتنازعوا. 2- ومنها خرق سفينة المساكين في البحر، ثم تعليل الخضر لذلك، يقول الله على لسانه: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)﴾ (الكهف). 3- كذلك أهدر القرآن الكريم المنافع الموجودة في الخمر والميسر؛ لأن إثمهما فاق نفعهما ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ (البقرة: من الآية 219). 4- كذلك لم يشرع الله تعالى للمسلمين أن يحطموا الأصنام حول الكعبة، رغم أنها منكر كبير؛ لأن ذلك كان سيؤدي إلى منكر أكبر، وهو استئصال المسلمين عن آخرهم بمكة. 5- في صلح الحديبية غلّب رسول الله صلى الله عليه وسلم المصالح الجوهرية والأساسية والمستقبلية، على المصالح والاعتبارات الشكلية، فقبل من الشروط ما ظنه البعض إجحافًا بالمسلمين، ورضي أن تحذف (البسملة) ويكتب بدلها (باسمك اللهم)، ويحذف وصفه بالرسالة (محمد رسول الله) ويكتفي باسم (محمد بن عبد الله) ليكسب الهدنة التي تفرَّغ فيها للدعوة ونَشَرَ الرسالة وخَاطَبَ ملوك العالم، ولا غرو أن سماها القرآن الكريم ﴿فَتْحًا مُبِينًا (1)﴾ (الفتح). 6- كما أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك إعادة بناء البيت (الكعبة) على قواعد إبراهيم خشية فتنة الناس وتنفيرهم، ومن ثم كانت المفسدة راجحة على المصلحة، فقد قال لعائشة: "لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لنقضت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم". 7- كما أنه صلى الله عليه وسلم عليه وسلم جهز جيشًا أمَّر عليه أسامة بن زيد ولم يبلغ العشرين عامًا وفيه أبو بكر وعمر وكبار الصحابة؛ لأنه رأى المصلحة في ذلك لحماسته للثأر لأبيه. 8- وكذلك عزل عمر بن الخطاب رضي الله عنه خالد بن الوليد عن قيادة الجيش، وهو الذي لم يهزم في موقعة قط خشية افتتان الناس به، رغم فارق الكفاءة في القيادة الحربية. 9- كذلك قال الفقهاء: لو أن الأعداء تترسوا ببعض المسلمين، وجعلوهم في مواجهة الجيش المسلم ليتقوا بهم، وكان في ترك هؤلاء الغزاة خطر على الأمة الإسلامية جاز قتالهم وإن قتل المسلمون الذين معهم، مع أنهم معصومو الدم لا ذنب لهم، ولكن ضرورة الدفاع عن الأمة كلها اقتضت التضحية بهؤلاء الأفراد خشية استئصال الإسلام واستعلاء الكفر، وأجر هؤلاء الأفراد على الله. 10- وهذا تطبيق لقاعدة ارتكاب أخف الضررين وأهون الشرَّين.   ولذلك قال الإمام ابن تيمية: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين، وأنشد: إن اللبيب إذا بدا من جسمه   مرضان مختلفان داوى الأخطرا 11- وقد أفتى ابن تيمية- رحمه الله- لبعض أصحابه حينما رأوا بعض التتار سكارى وهمُّوا أن ينهوهم عن المنكر، أمرهم بأن يتركوهم؛ لأنهم إن أفاقوا قتلوا المسلمين وهذه مصيبة أعظم، فالسكر أهون.   كما نقل عن الإمام أحمد- رضي الله عنه- أنه سُئل لو أن هناك أميرين للجيش أحدهما قوي فاجر، والثاني ضعيف صالح، فأيهما أولى بالقيادة؟ قال: القوى الفاجر؛ لأن فجوره على نفسه وقوته للمسلمين، والثاني صلاحه لنفسه وضعفه للمسلمين، وقرأ الحديث الشريف الذي يقول: "إن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر".   وفي الباب أدلة كثيرة نكتفي بما أوردناه. وهكذا يتضح لنا أن المسألة تحتاج نظرةً شاملةً مستوعبةً تقدم المصلحة العامة على المصالح الشخصية والفئوية.   كما يحتاج إلى فقه الشرع، فما جاء الشرع إلا لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد ثم إلى فقه الواقع المعيش من حيث الظروف والتحديات والمناخ العام الداخلي والخارجي، منهما يخرج القرار مُحْتَرِمًا اجتهاد الأغلبية، متطلعًا إلى توفيق الله.   وفقنا الله جميعًا لمصلحة ديننا ووطننا وشعبنا وجماعتنا.   ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)﴾ (الطلاق) ------------- - يراجع (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) لابن تيمية. - (أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة) د. القرضاوي. - (في فقه الأولويات) د. القرضاوي. -------- * عضو مكتب الإرشاد

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل