المحتوى الرئيسى

هؤلاء عاشوا في وجداني

05/20 21:29

الشاعر المبدع الكبير سليمان الفليح منذ عشرين عاما بينما كنت أتابع صفحات الثقافة في الجرائد الكويتية أثار انتباهي مقال ساخر تحت عنوان "هذرلوجيا".و أعجبت بالفكرة التي يتناولها كاتب المقال كل يوم. وحين سألت عنه عرفت أنه شاعر وقد صدر له ديوان " أحزان البدو الرحل". وفي لقاء آخر مع أمسية شعرية فوجئت بالشاعر نفسه يقف أمام الحشد الكبير من الجمهور يلقي قصائد الغضب والحنين . وشعرت بتيار جارف من العاطفة الجياشة تندفع بين شرايين قصائده وكأنه يود أن يعانقنا جميعا ثم يبكي على أكتافنا كالطفل التائه اليتيم . أحببت سليمان الفليح وقرأت قصائد ديوانه التالي" الغناء في صحراء الألم" وأدركت أن هذا الشاعر يغني في صحراء حقا اجتاحها طغيان الألم.. وانتشرت فوق رمالها نباتات موبوءة . وتساءلت إلى أين يذهب هذا الشاعر البدوي ؟ ابن الخيمة والسماء والصحراء ؟ إلى أين يذهب هذا الشاعر الضارب في أعماق الوحشة ؟ التائه في دروب المدن الزائفة؟ وعرفت سليمان الفليح .. شاعراً سكن الصحراء .. غاب في بريق الأفق حين يعانق الرمال.. وهدأت ذاته التي تتأمل غروب الشمس في ثوب الأصيل فصار يغني للريح والعشب والنخيل. لم يكن سليمان الفليح يدري أن هناك خياماً سوف تقلعها رياح المدن الخائنة وجذوراً تحاول اجتثاثها خناجر دخيلة غريبة . ويقف الشاعر حائرا بين قيم الصحراء وزيف المدائن وما تفرزه من عمائر شاهقة يبدو في داخلها الإنسان وهو لا يزال بلا عنق لا يطاول سيادة السحاب وكبرياء الرمال وغطرسة لهب الصحراء . يود الشاعر أن يصرخ أن يقول أن يعترض أن يقف في وجه الزيف والفساد . ويهرب الشاعر إلى صدر أمه صارخا : وحلمت الليلة يا أمي برياح تجتاح المرعى تقمع خيلي تطرد إبلي تجلدني علنا بالأفعى تربطني خلف مضارب قومي تسقيني إذ أعطش دمي توسعني يا أمي قمعا وأدركت أن لحظات الألم الحقيقي تكمن لدى سليمان الفليح في صدمة المدينة التي زحفت عواصفها تلتهم الخيمة والبئر وتمزق ستائر الليل الحزين الساكن وتشيع الضجر والغربة في كيان الشاعر. فلا شك أن هجمة المدن والتحول من الخيمة والصحراء الآمنة إلى العمائر الشاهقة والمادية المفرطة قد مزق هذا إحساس الشاعر وأحاطه بالوحدة والعزلة ثم حرضه على الرفض والتمرد لكل ما تأتي به المدنية الحديثة من علوم وتكنولوجيا تسقط من داخلها القيم الإنسانية. ورأيت المدن الكبرى تركض عبر سراب البر يتعقبها الخوف المتعب ويطاردها المرض المرعب ويفتتها حجرا حجرا شيطان الوحشة والشر ورأيت صقورا وحداءات وبطاريقا بأعاليها ورأيت دماء أهاليها تقطر من مخلاب النسر فهل يمكن اعتبار سليمان الفليح من أغربة العرب ؟ لاشك أنه ينتمي إلى حركة شعرية جديدة تميزت بالغضب والرفض للواقع المهترئ الذي يستعبد الأفراد ويحولهم عبيدا للمادة والآلة. وكما رفض الشاعر الصعلوك تقاليد القبيلة العمياء وأبت نفسه الكبيرة الخضوع والمذلة لدنايا الأعمال ورفض أن يسلم ذاته لذل الحاجة والقيام بدور يأنف منه السادة الكبار وانتمى الشاعر الصعلوك إلى حركة شعرية إنسانية تدعو إلى القيم والمثل العليا ، كذلك فقد انحاز الشاعر سليمان الفليح إلى البسطاء وأبناء الأرض والشعوب الصامدة أمام قوى الطغيان الأجنبي. ان هذا الواقع قد قسم الشعوب إلى عالم متقدم وعالم آخر نام مغلوب على أمره لاحول له ولا قوة وبالتالي فقد انعزلت القيم والمثل الرفيعة وأهملت المعاني الرقيقة وتدمرت أحلام البسطاء. ومن هنا جاء رفض الشاعر لواقعه الذي جعله أقرب ما يكون إلى أسطورة الصعاليك الذين خرجوا على القبيلة وأسسوا لوجودهم حياة زاخرة بمعاني الرحمة والحب والبطولة والشجاعة وإغاثة المنكوب واعطاء المحروم ومساندة الفقير والمعدم. ويرسم الفليح صورة ساخرة للواقع الذي يرفضه وهو يقول : قبر يرفرف في الريح فوق الجبال أشجار ترفع شعرها الأخضر وترقص في العراء ظباء تبحث عن ماء في الصحراء هذا هو الشرق مضارب من الرخام الأسود نياق إلكترونية يحرسها رعاة آليون أعراب يعدون القهوة بالطاقة الشمسية صقور يدربها قوم غرباء بواسطة الرادار قطعان ترعى نفايات ذرية . وسألت سليمان الفليح ذات يوم: -كبف تشكلت شاعريتك واتجاهاتك الإنسانية وهذا الفيض المتدفق والوهج المتمرد في شرايين قصائدك؟ حملق في وجهي مندهشا لتساؤلي الذي بدا ساذجا وقال : -عمق التجربة الإنسانية التي عاصرتها مع معاناة الشعوب ونبض المثقفين واتجاهات الأفكار وذلك خلال مشاركتي في حرب الاستنزاف في مصر عام 1972 حيث عشت على الجبهة المصرية أروع أيام الصمود والتحدي . وكنا في سويعات الراحة نلتقي بكبار الشعراء على مقهى ريش منهم نجيب سرور وعبد الرحمن الأبنودي وفؤاد حداد وأمل دنقل وعبد الرحيم منصور وصلاح عبد الصبور وأحمد عنتر مصطفى ومحمد يوسف وحسن فتح الباب وغيرهم . وعشت مع فكر هؤلاء جميعا وانصهرت شاعريتي وتعمقت تجربتي الإنسانية وكنت أشاهد الناس في الشوارع كيف يبدو عليهم الاستياء من الحرب وكذلك ملامح الصمود والنضال. وكنا نقرأ قصائد أمل دنقل والأبنودي وعبد الصبور وقصص نجيب محفوظ ويوسف إدريس ونناقش الأفكار ونغني للحرية والنضال الإنساني . فلا غرابة أن استطاع الفليح أن يكون شاعر الموقف والقضية وقد تتشابه قصائده مع الأناشيد الرعوية التي ظهرت في الشعر اليوناني القديم حيث يقف الشاعر يغني لبراءة الريف والحقول ويطلق لخياله الامتداد الشاسع عبر رؤى حالمة تتوحد مع السكون والصمت وغناء الريح ودفقات المطر والليل الحنون . وكان الشعراء الرعويون يكتبون هذا الشعر حنينا إلى جمال الريف وكبرياء النخيل وعذوبة البحيرات وكانوا يتشوقون إلى حياة ذات عصر ذهبي تجسدت قبل المجتمع المتحضر. وكان الشاعر اليوناني ثيوكريتوس يصف ذكرياته بين جبال صقلية وجزر اليونان والفضاء الكبير ولكن عندما تفجرت الحضارة بعناصرها وظواهرها تهدمت الصور الجميلة وضاقت الجزر وكسرت آليات العلم والصناعة براءة العالم الذي كان يعايشه الشاعر. وقد ثار شعراء الإنجليز " شعراء البحيرة " حينما وجدوا دخان المصانع يلوث الريف الإنجليزي النقي وانقسموا في ذاتهم وأعماقهم ورفضوا هذا الواقع الذي اغتال الجمال ونشر القبح والضجيج والضجر والضوضاء وسلب اجمل معاني الحب والرحمة من قلب الإنسان . فهل تلك قضية الشاعر سليمان الفليح؟؟ أجل تلك قضيته وان اتخذت أبعادا أكبر من ذلك.فالصحراء لم تعد سالمة الآن من جرائم البشر في الحروب والاستيلاء على مساحات كبيرة منها لتصبح تخطيطا للمدن الجديدة التي يسكنها أناس ليس لهم من هدف سوى إشباع حاجاتهم المادية. وتقف الخيول في الصحراء حزينة والنخيل منكسر الهامة وليس هناك سوى الصهيل : وفي غمرة الحزن في ذات ليلة من العمر كان انتهائي يجيء رأيت الحصان الذي أسرجته القبيلة وحيدا مع الريح يأتي شهابا يضيء بلا سرجه والقيود الثقيلة طليقا بوجهي القتيل يحاكي غيوم السماء ورعدا يدوي الصهيل الصهيل الصهيل ولذلك يظل سليمان الفليح يتشوق إلى هذه الصحراء بكل ما توحي به من معاني الكرم والبطولة والنبل والكبرياء في مواجهة دول عظمى تحلم أن تسحق إرادة العربي وترغمه على أن يظل تابعا أمينا لها ومستهلكا نشيطا لمنتجاتها ومقلدا مخلصا لعاداتها وتقاليدها الغريبة عن واقعنا الأصيل . وبذلك فالشاعر ملتزم بقضايا بلاده بينما هو يمضي ساخطا على واقع تحولت فيه الصحراء إلى آليات تنذر بالذعر وتشيع الهلع والخوف من المستقبل في روح أبناء الأمة . ويحلم الشاعر أن تنهض أمته من سباتها وتبعيتها للغرب وتشق طريق النور الذي أشرق مع الماضي العريق في ظل حضاراتنا الكبرى. وأحببت الشاعر سليمان الفليح إنسانا مناضلا ومثقفا واعيا وشاعرا ملتزما بقضايا أمته . وعاش في وجداني ومازال نابضا في كياني بصور إبداعية وإنسانية . **************

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل