المحتوى الرئيسى

السياسة قبل الفن أحيانا.. شعار مهرجان «كان»

05/20 09:40

تستطيع أن تقرأ دورة مهرجان «كان» السينمائي، والتي تنتهي مساء الأحد القادم، وكأنها تعبر عن مظاهرة سياسية تتسع لتحوي كل العالم، ولم يسلم منها حتى البلد الذي يقام المهرجان على أرضه. فيلم فرنسي يفضح الرئيس الفرنسي «ساركوزي» باسم «انتزاع الحكم»، ويصدر «ساركوزي» بيانا مدافعا عن نفسه.. يفتح المهرجان الباب لفيلمين إيرانيين لمخرجين من معارضي النظام الإيراني بعد انتهاء الوقت المحدد لقبول الأفلام، وهما «جعفر بناهي» و«محمد رسولوف»، الأول عنوانه «هذا ليس فيلما» ويعرض رسميا لكن خارج التسابق، والفيلم الثاني «وداعا»، وعرض في قسم «نظرة ما». لم أشاهد فيلم «بناهي» عند كتابة هذا السطور، إلا أنه بالتأكيد يعارض النظام الذي أصدر قرارا بسجنه 6 سنوات ومنعه من ممارسة الإخراج 20 عاما، وهو الحكم نفسه الذي تعرض له «رسولوف» والذي يأتي فيلمه فاضحا للنظام القمعي الذي تمارسه السلطات الإيرانية ضد معارضيها الذين لا يبقى لهم من أمل سوى محاولة الهجرة خارج الحدود!! في العام الماضي كان حفلا الافتتاح والختام يمثلان حالة من التعاطف بلا حدود مع «بناهي» الذي كان عضوا في لجنة التحكيم، لكن الحكومة الإيرانية منعته من مغادرة البلاد بحجة أنه رهن التحقيقات، قبل أن يصدر بحقه لاحقا حكم بالسجن.. وتمثل ذلك في المقعد الخالي الذي سلطت عليه الأضواء في الصالة الكبرى «لوميير» التي أقيم فيها الحفل ليصبح عنوانا على أن «بناهي» يقف وراءه كل السينمائيين العالميين، وأن الدولة - أي دولة - لا تملك أن تعذب معارضيها وتصدر بحقهم أحكاما لمجرد أن لهم آراء سياسية لا تتفق مع النظام. وهكذا تكاتف السينمائيون في العالم كله لإعلان موقفهم في أكبر وأهم مهرجان سينمائي عالمي. وفي حفل ختام الدورة الماضية تكرر الأمر عندما حصلت النجمة الفرنسية «جولييت بينوش» على جائزة أفضل ممثلة عن فيلم «نسخة مطابقة»، إخراج الإيراني «عباس كيروستامي»، حيث وجهت رسالة إلى «بناهي». كانت الدورة الماضية أيضا قد شهدت عددا من المظاهرات نظمها اليمين الفرنسي ضد عرض فيلم رشيد بوشارب «خارج عن القانون»، لأنه يفضح المذبحة الفرنسية التي وجهتها القوات الفرنسية ضد الجزائريين المدنيين المسالمين، ورغم ذلك فأنا أتصور أن الجرعة هذا العام على المستوى السياسي أكبر. مصر ضيف شرف المهرجان هذه الدورة لأسباب سياسية. «جيل جاكوب» رئيس المهرجان قال إن تاريخ مصر في «كان» موغل في القدم، فهي على خريطة «كان» منذ الدورة الأولى التي أقيمت عام 1947 بفيلم «دنيا» إخراج «محمد كريم»، وذكر اسمي المخرجين المصريين الكبيرين «صلاح أبو سيف» و«يوسف شاهين» اللذين كان لهما الكثير من المشاركات طوال تاريخ المهرجان، كما أن المهرجان يحتفي في قسم الكلاسيكيات بفيلم «البوسطجي» للمخرج «حسين كمال» الذي أخرجه قبل 42 عاما، ورغم ذلك فإن السبب الأول لمشاركة مصر كضيف شرف هذه الدورة هو الثورة المصرية.. أي الدوافع السياسة هي السبب الحقيقي لاختيار مصر هذا العام في أول مرة يعلن فيها المهرجان عن قسم جديد هو «ضيف شرف» في «كان».. ولهذا وقع الاختيار على فيلم «18 يوم» الذي يشارك في إخراجه 10 مخرجين. وتعددت المواقف السياسية التي لم تتوقف عند ذلك الحد، حيث شجب عدد من السينمائيين تلك المشاركة بفيلم «18 يوم» على اعتبار أن من بين من قدموا هذه الأفلام من كانوا قريبين من النظام السابق بل وشاركوا في الترويج لحسني مبارك، مثل المخرجين «شريف عرفة» و«مروان حامد»، ولهذا أصدر النجم «عمرو واكد» بيانا قال فيه إنه سوف يقاطع هذه الاحتفالية بسبب هؤلاء الذين شاركوا في إخراج وتمثيل بعض هذه الأفلام وهم محسوبون على العهد البائد ولم يعتذروا عن مواقفهم السابقة، رغم أن «عمرو» شارك في بطولة الفيلم الذي أخرجه «مروان حامد». «عمرو» لم يحضر الفيلم احتجاجا، لكنه كان موجودا في الجناح المصري لأنه يرفض الخلط بين الأوراق. وحضر «عمرو» العرض الرسمي لفيلم المخرجة اللبنانية «نادين لبكي» التي عرضت في قسم «نظرة ما» فيلمها «هلا وين»، وقدمه مدير المهرجان «تيري فيرومي» قائلا إنه ممثل مصري بدأ يظهر بقوة على الخريطة السينمائية العالمية. كان من المفترض أن يرأس الوفد المصري في المهرجان وزير الثقافة الجديد «عماد أبو غازي»، لكن تم تكليفه من قبل رئيس الوزراء المصري بالسفر إلى دولة الإمارات ولهذا اعتذر. وفى الوقت نفسه كان عدد من المصريين الذين يقيمون في باريس قد انضموا إلى قائمة الغاضبين ولكن هذه المرة ضد السفير المصري في باريس، بحجة أنه كان أحد المؤيدين لمبارك، حيث طالب المصريون بعزله عن موقعه، وطالبوا وزير الثقافة المصري «عماد أبو غازي» بألا يصحبه معه في الافتتاح الرسمي لأفلام الثورة أيضا، وبعد اعتذار الوزير عن عدم المجيء اعتذر أيضا السفير. ولم يقتصر الأمر فقط على السينما المصرية في الوجود السياسي هذه الدورة، فالسينما التونسية لها نصيبها الرسمي، وتقام لها احتفالية اليوم الجمعة حيث يعرض رسميا الفيلم التسجيلي «لا وقت للخوف» عن ثورة الياسمين التونسية، وتعقب ذلك سهرة غنائية، لكن حتى الآن لم يحتج أي فنان تونسي على هذه المشاركات!! هل المهرجان - أي مهرجان - يضع جداوله وتكريماته وفعالياته في إطار سياسي أولا، أم الفن ينبغي أن يسبق السياسة؟ الحقيقة هي أن المهرجانات الفنية ينبغي أن تنحاز أولا للفن قبل أي اعتبارات أخرى مهما بلغت أهميتها، إلا أن تاريخ المهرجانات تستطيع أن تجد دائما بعده السياسي أولا قبل الفني.. فمهرجان «فينسيا» أو «البندقية» أول مهرجان عالمي أقامه الطاغية «موسوليني» في تلك المدينة العائمة الساحرة لكي يقدم وجها مخالفا للحقيقة عن الفاشية الإيطالية، وكان الرد على هذا المهرجان الفاشي هو إقامة مهرجان «كان»، وكأن دول الحلفاء التي تمثلها فرنسا ترد على دول المحور التي تمثلها إيطاليا.. لكن الحرب العالمية الثانية أدت إلى تأجيل إقامة مهرجان «كان»، لتنطلق دورته الأولى عام 1947.. وظل الأمر يعبر عن مناوشات سياسية. وطوال تاريخ مهرجان «كان» دائما ما تطل السياسة برأسها.. لقد أجل المهرجان إقامة دورته عام 1968 تضامنا مع ثورة الشباب التي اندلعت في باريس.. في السنوات الأخيرة مثلا تواجه إيران الآن حربا مع مهرجان «كان» منذ أن عرض قبل 4 سنوات داخل المسابقة الرسمية فيلم «بلاد الفرس»، وهو فيلم رسوم متحركة وجه انتقادا حادا للثورة الإيرانية التي تكبل الحريات رغم أن إيران كانت وعلى مدى سنوات كثيرة أعقبت الثورة الإيرانية هي فاكهة مهرجان «كان».. أسماء مثل «عباس كيروستامي» و«محسن مخلباف» و«مجيد مجيدي» و«سميرة مخلباف» كثيرا ما حصلت على جوائز، وأهمها السعفة الذهبية التي كانت من نصيب «كيروستامي» عام 1997، و«كاميرا دور» (الكاميرا الذهبية) التي كانت من نصيب «سميرة مخلباف» عن فيلمها «التفاحة» بعدها بنحو ثلاث سنوات.. وغيرهما. لم يعد المهرجان يختار الآن مثلما كان يحدث في الماضي، ولا يمكن أن نقول فقط إن السينمائيين المعارضين للنظام الإيراني هم فقط الموهوبون.. لا شك أن اختيارات المهرجان صارت تقدم سينما المعارضة الإيرانية، مثل فيلم «قطط فارسية» الذي تم تهريبه من إيران بعد أن صور بعيدا عن أعين الرقابة وعرض في «كان» قبل عامين.. أما هذه الدورة فقد عرض فيلما «جعفر بناهي» و«محمد رسولوف» اللذان تم تصويرهما أيضا بعيدا عن الرقابة، وتم تهريبهما خلسة إلى المهرجان.. والمؤكد أن المخرجين لهما نجاحهما، ورغم ذلك فإن القيمة الفنية ينبغي أن تحكم الاختيارات أولا!! كثيرا ما كان يشتعل الخلاف في «كان» خلال الدورات الماضية وكأن هناك حرب تعلنها الشركات الأميركية ضد «كان» على اعتبار أن «كان» هو عنوان السينما الأوروبية، فكانت هوليوود تبدو وكأنها تخوض معارك شرسة ضد «كان».. الآن لم يعد بين «كان» و«هوليوود» حرب من أي نوع.. الأفلام تنتقل من هوليوود إلى «كان» من دون أي حرب، بل إن نجوم أميركا دائما ما يضيئون مهرجان «كان» بحضورهم، لأن هذا الحضور يؤدي في العادة إلى الترويج لأفلامهم، وكأن المصالح تتصالح!! يجب أن نعترف بأن الثورات العربية كانت هي السبب وراء الوجود المكثف للسينما المصرية والتونسية في هذه الدورة، وليس لنا كعرب وجود فني إلا فقط مع الفيلم اللبناني لنادين لبكي «هلا وين» الذي عرض في مسابقة «نظرة خاصة»، والفيلم المغربي «على الحافة» إخراج «ليلى الكيلاني» الذي عرض في قسم «نصف شهر المخرجين».. أتمنى في العام القادم أن نكون موجودين بأفلامنا بعيدا عن التوجه السياسي.. نعم أملي أن نشارك كعرب بأفلامنا، وأن نحصد الجوائز لقيمة الفيلم وليس للموقف السياسي.. أتصور أن هذا هو الأمل المنشود، فهل يتحقق ذلك للسينما العربية في الدورة القادمة لمهرجان «كان» والتي تحمل رقم «65»؟!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل