المحتوى الرئيسى

حين يدير التاجر ثروته بعقل مؤسسي أو بمؤسسة العقل

05/19 06:34

يوسف بن أحمد القاسم كثيرون هم الرجال الذين يملكون الثروات الطائلة، وكثيرون هم الذين يجيدون إدارة المال، ويحسنون استقطاب المليارات، ولكن القليل منهم من يحسن تصريف المال في وجهه، وأقل القليل من يستثمر في آخرته، فما أكثر من يستثمر في مزرعة الدنيا، ثم يخفق.. فلا يستثمر في مزرعة الآخرة..! كم هم التجار الذين اقتصروا على الاستثمار في بلادنا..؟ كم هم التجار الذين نوعوا الاستثمار..؟ كم هم التجار الذين استثمروا في أبناء الوطن..؟ كم هم التجار الذين جمعوا بين البكور للمسجد للصلاة، والبكور للضرب في الأرض بالتجارة..؟ كم هم التجار الذين يتنقلون بين مشاريعهم الاستثمارية وهم يقرؤون القرآن، أو يتلونه عن ظهر قلب..؟ كم هم التجار الذين يرشدون في استخدام الكهرباء، ثم ينفقون المليارات في أعمال الخير..؟ كم هم التجار الذين يستحضرون معية الله ومراقبته لهم وإطلاعه عليهم وهم مشتغلون في تجارتهم..؟ كم هم التجار الذين تنهال عليهم خيرات رزق الله، فينسبونه إليه تعالى لا إلى ذكائهم وعبقريتهم..؟ إنهم قليل، وقليل جداً.. وسليمان الراجحي من هذا القليل... لقد قدم نموذجا لن ينساه الوطن.. قدم نموذجا في الوفاء لأبناء الوطن.. بل لأبناء المسلمين جميعا.. بخروجه عن ثروة مقدارها 40 مليار ريال؛ لتكون وقفاً يستفيد منه المسلمون جميعا.. قدم نموذجاً في الاستثمار في بلاده، فلم يستثمر في بلاد شرقية أو غربية ليعود غنمها لغيره، وغرمها له، كما غرم غيره أموالاً طائلة إبان الأزمة المالية الماضية.. قدم نموذجاً في تنويع الاستثمار لتشمل استثماراته كل نوع، من صيرفة، وعقارات، ومدارس، وسيارات، ومزارع، وأسماك.. قدم نموذجاً لتشغيل أبناء بلده في فروع استثماراته التي تحاصرنا في كل مكان، وتلاحقنا في كل زاوية.. قدم نموذجاً في التاجر الذي لا تلهيه دنياه عن آخرته.. قدم نموذجاً في التاجر الذي ملك دنياه ولم تملكه.. وملك ثروته فخضعت له ولم يخضع لها، وذلت له ولم يذل لها.. فتواضع للناس فغدا في نظرهم قمة سامقة.. لقد اختصر الأثرياء ثروتهم فاستفادوا منها في حياتهم، فوسع هو مفهوم الثروة، فملكها في دنياه وآخرته.. فكم من تاجر يملك المليارات، فيأخذه الموت في حين غرة، فيوسد في قبره، ولا يبقى من ماله إلا ما تصدق به ورثته عليه.. في حين أن الراجحي قد فاجأ الناس قبل أيام بثروة مقدارها 40 مليار ريال قد جيرها كلها لعمل صالح يتبعه في قبره..! فقولوا لي بالله عليكم: أيهم أكثر عقلا، وأكثر نضجا: تاجر خرج من الدنيا صفر اليدين من ثروته.. ليستمتع بها ورثته من بعده.. أو تاجر خرج من الدنيا وتبعته ثروة تزيد على 40 مليارا.. ومن حذق هذا التاجر الثاني: أن ثروته تدار وهو في قبره، وتزيد ثروته وهو في قبره.. بل ربما تكون ثروته أقوى حركة وأمضى أثراً من بعض ثروات الأحياء.. فبوقفه لهذه الثروة الطائلة في المجالات التي أفصح عنها.. أصبح يتمتع بثروته في حياته، وبعد وفاته ـــ بعد عمر طويل في طاعة الله ـــ فبتشييده للجامعات والمستشفيات والمساجد وغيرها من ريع الأوقاف.. فإنه يحقق مكاسب كثيرة، منها: أنه يتلقى الطلاب العلم في جامعته في حياته وبعد موته.. ويعالج المرضى في مستشفاه في حياته وبعد وفاته.. ويتغذى ويكتسي الفقراء والأيتام في حياته وبعد وفاته.. وتنشر الدعوة والخير في حياته وبعد وفاته.. ويتلقى صغار الطلاب حفظ القرآن الكريم في حياته وبعد وفاته.. لا بل أصبحت أوقاف الراجحي المتعددة الأغراض مدرسة تطبيقية لبعض الجهات الحكومية التي أخفقت في تقديم الخدمة للمواطن البسيط.. كما أفصحت عن ذلك امبراطوريته الوقفية، والتي انعكست منذ زمن، وستنعكس أكثر وأكثر على جهاتها المستهدفة.. فما هي النتيجة لقاء هذه الاستراتيجية الخيرية..؟ النتيجة أن شخصاً بهذه الاستراتيجية لن يموت أبداً.. نعم سيظل حياً وإن اخترمته المنية، سيطول عمره بطول عمر أوقافه الخيرية، لأنه وإن مات جسدا سيظل حياً بعمله الصالح، ففي الحديث الصحيح: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) وأعتقد أنه ضمن الأولى، والثانية، فالوقف هو الصدقة الجارية، ومن أوقافه دعم مشاريع العلم، وأما الثالثة فأسلوبه في التربية على الصلاح سيحقق له مكاسب جيدة.. مع ما يضمره من نية حسنة، كما نحسبه والله حسيبه.. وبتقليب النظر في بلادنا وفي الشرق والغرب نجد الآتي: نجد بنوكاً وشركات عظمى تعثرت ثم أفلست.. وظلت مشاريعه تحقق نجاحات متلاحقة.. نجد لجاناً دولية أنتجت معايير للجودة لضمان حسن الكفاءة كمعايير بازل''1''، و''2''، فتعثرت البنوك رغم ذلك، فأضيف لها بازل''3''، وأما مصرف الراجحي فقد ظل متماسكاً، ينتقل من ربحية أقل إلى ربحية أعلى، يبيع الخردل، فيكسب الذهب، ويبيع الذهب، فيكسب الألماس، حتى كانت الثروة تلاحقه، فيفر منها إليها.. وربما كان الثري الأبرز الذي اقترض من أبناء بلده (عبر الإيداع المصرفي) واقترضوا منه (عبر بطاقات الائتمان) واشترى منهم وشروا منه (عبر منتجات المرابحة والتأجير التمويلي..) وباعهم منتجاته الوطنية الحيوانية والنباتية وغيرها، وتلقفهم في جامعه الكبير، وربما كفنهم على نفقته.. أعتقد ـــ كما يعتقد غيري ـــ أن سليمان الراجحي ليس شخصا طبيعيا، بل مؤسسة اعتبارية تمشي على الأرض.. وليس هذا بغريب على رجل لا يدير استثماراته الدنيوية والأخروية بارتجالية.. وإنما يديرها بعقل مؤسسي، وبمؤسسة العقل. *نقلا عن صحيفة "الاقتصادية" السعودية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل