المحتوى الرئيسى

مبارك.. ليس وجهة نظر!

05/16 12:53

بقلم: المستشار/ فؤاد راشد بين حين وآخر تطالعنا الأخبار أن جماعةً من أنصار الرئيس المخلوع تظاهروا أو تضامنوا معه أو طالبوا بعودته, وهو أمر يبدو للوهلة الأولى مذهلاً, فهل الخلاف حول مبارك وجهات نظر؟!   منذ تأسيس الدولة الحديثة في مصر على يد محمد علي وحتى السادات لم يتفق المصريون على كلمة سواء حول أحد حكامهم، والأمر طبيعي؛ لأنه حتى إن نحينا الهوى والمصلحة الذاتية فإن النظرة تختلف زاويتها من إنسان لآخر.   ودعونا نستعرض أشهر حكام مصر في العصر الحديث، بادئين بوقفة تطول أمام محمد علي.   تستطيع أن تضع في جانب الإيجابيات واثقًا أن محمد علي اهتم بالتعليم الحديث، وأوفد البعثات إلى أوروبا، وكان يتابع المبعوثين وتحصيلهم العلمي متابعةً دقيقةً, كما أنه أنشأ القناطر الخيرية، وأدخل زراعة القطن في مصر، وقضى على المماليك، وكانوا قد تحوَّلوا في نهايات عصورهم إلى عصابات منظمة للسرقة والترويع والقتل، وأنه اهتم بالصناعة خاصةً النسيج والصناعات الحربية, وقضى على حثالات بشرية من عسكر من كل لون وجنس، كانوا أمثلةً للانفلات الأخلاقي والديني، من قتل الأبرياء إلى فرض الإتاوات واحتلال الدور وطرد سكانها قهرًا إلى الاعتداء في أحطِّ صوره على أعراض النساء والأطفال، كما ذكر الجبرتي الذي علَّق في سخرية مريرة "وهكذا تفعل المجاهدون!!"، ثم قال إن المصريين تمنوا عودة الاحتلال الفرنسي للخلاص من شر هؤلاء"!.   وتستطيع أن تتحدث عن الأمجاد الحربية لمحمد علي وابنه إبراهيم باشا؛ الذي دخل الشام ووصل إلى كوتاهية، وهزم الجيش التركي واستولي على أسطوله.   ولكنك تستطيع أن تقرأ محمد علي بعيون أخرى؛ فهو سفَّاك للدماء حيث قتل المماليك في القلعة غيلة وغدرًا بعد أن تناول القهوة مع كبارهم، وكان في نظر بعض معاصريه "مغرورًا ظالمًا جاهلاً غشومًا"، كما وصفه نصًّا أحد رجاله، ويُدعى "ديوان أفندي"، وقد وصف الجبرتي محمد علي بأنه "في طبعه الحسد والحقد والتطلع لما في أيدي الناس"!.   وتسطيع أن ترى الخديوي إسماعيل مسرفًا، جرت يده النزقة إلى الاقتراض على مصر نزع سيادتها وتعيين وزيرين من إنجلترا وفرنسا للمالية وللأشغال، وإنشاء محاكم قنصلية ومختلطة عدوانًا على السيادة المصرية, ولكنك أيضًا تستطيع القول واثقًا بأن كل ما بناه إسماعيل ما زال ملكًا مصريًّا خالصًا لليوم، وبعضه مفخرة معمارية, وأنه استزرع أكثر من نصف مليون فدان من الأرض الزراعية كانت مستنقعات، وجعل القاهرة في جمال لندن وباريس وأنشأ أكبر خطوط للسكك الحديدية في العالم، ومصلحة البريد، وصناعة السكر، وأنشأ المتحف المصري، ودار الأوبرا، ودار الكتب، وأنهى تجارة الرقيق، وأقام جيشًا قويًّا وضمَّ دارفور إلى إمبراطورية مصر والسودان، وأنشأ حديقة حيوان الجيزة القائمة لليوم، وأدخل إصلاحات قضائية ونيابية؛ حيث أنشأ أول مجلس نيابي في تاريخ مصر، وهو مجلس شورى النواب، وأكمل مشروع حفر قناة السويس، وكان عهده عهد تسامح ديني لإيمانه بحرية العقيدة إيمانًا حقيقيًّا منفتحًا.   وحتى الملك فاروق تستطيع أن تنعى عليه فساده وضعفه، ولكنك لا تستطيع تجاهل آراء تقول إنه تعرض لظلم تاريخي، وأن وطنيته لم تكن يومًا مجالاً لأي ادِّعاء، فقد كان عدوًّا لدودًا للإنجليز، وكانت اتصالاته بألمانيا زمن الحرب العالمية الثانية من أكبر دواعي حنق الإنجليز عليه، ثم إنه تنازل عن العرش ولم يظل متشبثًا به ولو جلس على عرش من دماء المصريين!.   ومن بعد فاروق جاء عبد الناصر، وهناك من ينظر إليه من زاوية السد العالي، ونشر التعليم، وحركة البناء والتصنيع، وتأميم قناة السويس، ومن ينظر إليه من زاوية الاستبداد والحكم الفردي وغياب الديمقراطية, ولكل فريق حججه.   وهناك من ينظر للسادات من خلال حرب أكتوبر وشجاعة القرار، ومن ينظرون من زوايا التحالف مع الصهاينة على حساب البعد العربي، وفتح باب النهب العظيم لمصر, ولكل فريق حججه أيضًا.   لكن مع مبارك فان الحال يختلف اختلافًا جذريًّا، باختصار؛ لأن كل سابقيه حكموا مصر لحساب أهلها، فأصابوا وأخطؤوا، إلا مبارك، فقد حكم مصر لصالحه الشخصي وزمرة النهابين من حوله، واعتمد أسلوبًا جهنميًّا في الحكم؛ إذ تعامل بإستراتيجية دفع الخطر عن الكرسي، سواء كان الخطر خارجيًّا أو داخليًّا، وكان ذلك همه الأكبر, وقد اعتمد لكل من نوعي الخطر ما يلائمه؛ ففي مواجهة الخطر الخارجي اعتمد سياسات الخضوع الكامل المذل للرغبات الصهيونية والأمريكية، وفي هذا السياق نستطيع تفسير نكبات التحريض على ضرب العراق وتمويل الانفصاليين في جنوب السودان بالسلاح وإجهاض أي مخرج عربي مشرف لاحتلال العراق للكويت، وقدم كل العون لضرب العراق، ونجد تفسيرًا للتحالف مع الصهاينة في حربهم على لبنان وعلى غزة وقد أعلنت الحرب على غزة من القاهرة إمعانًا في إذلال من عدم كرامته وانسحق أمام عدوه.   ونفهم خنق غزة ومنع الصلح بين الفصائل الفلسطينية بإملاء صهيوني، وبيع الغاز للصهاينة بأقل من نفقات استخراجه، ونفهم في السياق ذاته استباحة سيناء للصهاينة بلا تأشيرة؛ لنشر الإيذر والمخدرات، ونفهم خروج مصر بوزنها التاريخي والإنساني والحضاري من معادلة الصراع العربي الصهيوني، وخروجها كقوة إقليمية من دوائرها العربية والإفريقية والآسيوية، ونفهم انكفاءها على نفسها وانحصارها في ترتيب البيت من الداخل للوريث، أحد أفراد التشكيل العصابي للنهب العام، بمباركة صهيونية!.   وفي مواجهة الخطر الداخلي اعتمد مبارك ثلاثة محاور؛ أولها: الأمن الذي يُحصي الأنفاس، ويتدخل في كل صغيرة وكبيرة، بدءًا من تعيين خفير إلى تعيين وزير، ومرورًا بالاعتقالات والتعذيب وإهدار كرامة المصريين وترويعهم، وثاني المحاور الإعلام، وقد تولِّى الإلهاء وتزييف الوعي بانتظام، والمحور الثالث هو توزيع المنح والعطايا على النافذين في كل مجال، فكان راتب البعض يوازي راتب أكثر من ألف موظف في نفس جهة العمل والهدف خلق الولاء، والشاهد أن الكثيرين من ضباط الشرطة كانوا يضربون ويقتلون، ليس دفاعًا عن مبارك الذي يستحيي إبليس من سوء سياساته، وإنما يدافعون عن دخل شهري يفوق الخيال، ولنا أن نتخيل أن رواتب بعضهم كانت أضعاف راتب الرئيس أوباما نفسه!.   أما مبارك وعائلته والدائرة القريبة فقد فعل أكثرهم فعل الجراد المتوحش، واعتمدوا منطق استباحة الوطن كاملاً، ولعل ما يثير الحسرة والشعور بالإهانة الوطنية أن يصحو الناس على حقيقة أن القاعدة في رجال السلطة العليا ودائرة الرئيس المخلوع كلها تحال إلى الكسب غير المشروع وتظهر الأرقام التي لا تكذب ولا تتجمَّل أن ما نُهب يبلغ نحو تريليونًا ونصف التريليون جنيه، وهو مبلغ يكفي لأن تعيش مصر بلا فقير ولا عاطل ولا مريض بلا علاج ولا مشرد ولا ساكن قبور!.   فهل الخلاف على مبارك وجهة نظر؟ أليست الإحصاءات الموثقة تتحدث عن ملايين العاطلين وملايين المشردين وملايين الجياع، وتشير إلى أن ثلث مرضى الكبد في العالم مصريون؟ كل هذا البلاء لكي يحكم مبارك ومن بعده ولده، وليمتص هو وعائلته والدائرة المحيطة دم المصريين!.   إنني موقن أنه لا أحد في مصر أو خارجها يجهل كوارث حكم مبارك على مصر.   إن التفسير الوحيد- حسب يقيني- أن هناك فئةً أفلت منها الجاه وسيل المال برحيل المخلوع، وهي فئة تمتلك المليارات وتسخر بعض المطحونين والمعدمين، بدءًا من موقعة الجمال إلى التظاهر إلى الشغب، إلى إتلاف الممتلكات، إلى ترويع الناس؛ ليبدو وكأن المصريين مختلفون حول مبارك، ومن خلف فئة كبار اللصوص تقف فئات متناثرة من معتادي العيش على نفايات العطايا من مقاعد بمجالس صورية عبر التزوير.   إن التاريخ سوف يقف طويلاً أمام ما فعله مبارك بمصر والمصريين، وفي الحقيقة فإن سؤالاً يطاردني ولا أعرف إجابته: ترى لو حكم مصر بدلاً من مبارك السفاح "شارون" هل كان يفعل بها وبنا أكثر مما فعله مبارك وعصابته الإجرامية؟!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل