السفارة الإسرائيلية بالقاهرة.. تاريخ من التوتر
لم تكن ميشيل ميزائيلي, زوجة السفير السادس لإسرائيل بالقاهرة تدري وهي تكتب هذه الجملة أنها تلخص ما يمكن كتابته في مجلدات حول طبيعة العلاقة بيننا وبينهم, ولولا أن مصر اختارت السلام عقب انتصارها التاريخي في أكتوبر1973 ولولا أن البروتوكولات الرسمية تقتضي تمثيلا دبلوماسيا ما, لما أمكن لإلياهو ابن اليسار أن يصل مصر بصفته أول سفير إسرائيلي بها في الثلاثاء26 فبراير1980 وأن يرتفع العلم الإسرائيلي في إحدي فيلات حي الدقي بمحافظة الجيزة, باعتبار أن هذه الفيلا أرض إسرائيلية كما جرت الأعراف الدولية. لم يستقبل المصريون الفيلا ولا العلم ولا السفير بالورود, بل إنهم استقبلوها بالمظاهرات والاحتجاجات من الإسكندرية إلي أسوان, وكانت قمة هذه الاحتجاجات الواقعة التي كان بطلها سعد ادريس حلاوة الذي استشهد في ذلك اليوم. لم تستمر السفارة طويلا في مكانها لعدة اعتبارات, منها قانونيتها, فالقانون يحظر علي حاملي جواز السفر العبراني تملك الأراضي في مصر, والسفارة بهذا الوضع هي أرض إسرائيلية بالمخالفة للقانون, وثانيا لأنه لا أحد يضمن استمرار السفارة في هذا المكان بعيدا عن التهديد الأمني, وبالتالي تم نقل السفارة إلي العمارة الشهيرة, وكم كان الكاتب يوسف معاطي موفقا في اختيار اسم الفيلم الشهير السفارة في العمارة بغض النظر عن تأييد رؤية الفيلم من عدمها. احتلت السفارة طابقين من العقار رقم6 بشارع ابن مالك الذي تحول عام2000 إلي شارع الشهيد محمد درة بضغوط شعبية, عقب استشهاد الدرة الصبي الفلسطيني في أحداث الانتفاضة الثانية, وبمجرد تسلم السفارة تحولت حياة أهل المنطقة إلي جحيم. وإذا كنت عزيز الرافض للتطبيع سعيد الحظ وسبق لك زيارة منزل الكاتب الراحل الكبير محمود عوض لأدركت حجم الجحيم الذي يعانيه سكان الشارع والمنطقة التي توجد بها السفارة, فالوجود الأمني مكثف طيلة الوقت, وهناك شكوك في أي حركة أو بادرة حتي إن شابين سوريين كانا يزوران حديقة الحيوان المقابلة للسفارة والتقطا عدة صور من هنا وهناك, فكان مصيرهما التوقيف والتحقيق والترحيل لمجرد أن إحدي تلك الصور صادفت العمارة التي تقع فيها السفارة, بالاضافة إلي أن أهم ما جاء بالفيلم الذي تناول مشكلة وجود السفارة في هذا المكان, هو ما يتعلق بقضاء السكان لاحتياجاتهم, فلا خدمة التوصيل للمنازل تصل ولا استقبال لضيوف دون فحص, ولا ممارسة طبيعية للحياة, مما يعكس الموقف المصري الحاسم من التطبيع. كان أول ما لفت النظر في الموقع الجديد هو الاصرار علي البقاء بمحافظة الجيزة( غرب النيل) علي عكس دول كثيرة تفضل شرقه, خاصة في جزيرة الزمالك أو بحي جاردن سيتي, وقيل وقتها إن الدولة الناشئة حديثا أصرت علي أن تكون سفارتها غرب النيل لأنها تعتبر كل ما شرق النيل تابعا لها, في إشارة إلي حلم إسرائيل الكبري( من النيل للفرات), وقيل إنها اختارت هذا المكان ليكون أعلي من نهضة مصر( التمثال المقابل لحديقة الحيوانات), قيل كلام كثير, لكن المؤكد أن وجود السفارة كان مستفزا, ولو اختاروا لها أرضا في الرمال المتحركة بالصحراء الغربية لاعتبر الناس هذا دلالة سلبية, فالصراع كما نعلم هو صراع وجود لا صراع حدود. ولم يكن إدريس حلاوة هو آخر من رفضوا وجود السفارة علي نحو علني, فإلي جانب التظاهرات والمسيرات التي نادت بـ قفل سفارة وطرد سفير بحسب الهتاف الشعبي الشهير, فإن هناك محمد خلف حسن أمين الشرطة الذي صدرت له الأوامر بنقل خدمته لحراسة السفارة الإسرائيلية, وفي يوم25 فبراير, وبينما كانت السفارة تكمل عامها السابع عشر, صدر بحقه حكم عسكري بالحبس ستة أشهر لرفضه تنفيذ الأمر. وتؤكد شهادات السفراء الإسرائيليين المتعاقبين علي هذه السفارة كيف تدور الأمور, أو علي الأقل تنقل الأجواء المحيطة بها, فمن إلياهو بن أليسار السفير الأول الذي لم تدم إقامته كثيرا في القاهرة, حيث غادرها بعد عام واحد طالبا نقله لإسرائيل, بعد أن سجل في مذكراته أنه خرج بثلاثة أصدقاء فقط في القاهرة من بينهم سائق سيارته المصري. ومنه إلي السفير الثاني موشيه ساسون الذي تعرض لمحاولة اغتيال علي يد تنظيم ثورة مصر بقيادة محمود نور الدين, وكاد يصاب بمرض نفسي( أو ربما أصيب فعلا) نتيجة العزلة التي فرضت عليه من الحكومة المصرية ومن الشعب ومن أجهزة الأمن المصرية, وذلك بحسب ما ذكره هو في كتابه7 أعوام في أرض المصريين, وعلي أي حال فإذا كان سابقه قد خرج بثلاثة أصدقاء من بين ملايين المصريين, فإن ساسون لم يستطع أن يصادق إلا شخصا واحدا كان يعمل تاجرا للأثاث. ولم تفلح محاولة شمعون شامير الذي تم تعيينه خلفا لساسون في يونيو عام1988 بتأسيسه المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالسفارة في إذابة الجليد, فقد حصل المركز علي لقب وكر الجواسيس, وحصل شامير علي تأشيرة سفر للأردن, ذهابا فقط دون عودة, كما تقدم إفرايم دوفيك السفير الرابع باستقالته بعد أقل من عام, بل إن السفير الخامس الذي كان من أصل مصري ديفيد بن سلطان( مواليد الإسكندرية عام1938 كانت له قصة مع فنان مصري( ليس عادل إمام) حيث كان قد التقي به في حفلة ما, واعتقد أن هذا اللقاء كان كفيلا بأن يصبح صديقا له, فذهب إليه بمنزله وهو يحمل في يده كيس مكسرات إسرائيل, فرفض الفنان استقباله في منزله كما رفض الهدية. وفي نهاية الأمر ترك القاهرة وعاد لبلاده قبل انتهاء فترته بثمانية أشهر كاملة, وقبل انعقاد المؤتمر الاقتصادي بالقاهرة في نوفمبر من عام1996 ليظل المنصب شاغرا لثمانية أشهر, قبل أن يشغله تسفي ميزائيلي الذي افتتحنا بكلمات زوجته هذا العرض, وهو صاحب العبارة الشهيرة: لماذا تكرهوننا؟ وهكذا يستمر الأمر بهذه السفارة التي تعد مصنعا للتوتر للعقار والشارع والحي والمنطقة والمدينة التي تحل بها, ولكل المتعاملين معها, ولمن يحاصرونها الآن, ويطالبون بطرد سفير لا يعلمون حتي أن اسمه يعقوب ميتاي, فالاسم لا يهم, المهم أنه ذلك السفير في تلك السفارة التي تقع في العمارة.
Comments