المحتوى الرئيسى

> مات المناضل «المثال»

05/11 21:05

كتب - مؤمن المحمدىسنعيش ونموت دون أن نفهم كيف تعمل النفس البشرية وكيف يتم تشكيل المشاعر الشخصية بغض النظر عن «الرأي العام» الذي يتكون دائماً أمام أعيننا دون أن نمتلك له دفعاً. وقبل شهرين فقط لا غير كانت مصر منقسمة حول التعديلات الدستورية، وهو الانقسام الذي أسفر عن فوز أحد الفريقين المتصارعين بنسبة كبيرة زادت علي السبعة وسبعين بالمائة، وكان أحد سببين رئيسيين لها التفوق الكبير هو الرغبة في «الاستقرار» وكان الداعون إلي هذا الفريق (من قالوا «نعم» في وجه من قالوا «لا») يستخدمون الكلمة السحرية لتحديد مصير البلد. وكانت النتيجة المكتسحة علامة علي أن المصريين في أغلبهم مواطنون طيبون يسعون للسلم، ويستهدفون الحياة الهادئة الكريمة. يوم الثاني من مايو الماضي أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية مقتل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة المغامر الذي ترك جنة الأرض في القصور ليطارد جنة السماوات في كهوف أفغانستان ومن الغريب أن تجد شعباً تدعو أغلبيته للاستقرار أن تتأثر كل هذا التأثر بالمغامر الذي هز استقرار العالم كله. هذا التناقض يعيد إلي الذهن مشهداً قريباً حدث أمام سفارة إسرائيل بالقاهرة حين تجمع آلاف المواطنين أمام السفارة يهتفون ضد إسرائيل وسفارتها وسفيرها: «أول مطلب للجماهير: قفل سفارة وطرد سفير» وغيرها من الهتافات التي رددناها جيلاً فجيلاً عن عداوة إسرائيل والصهيوني اللي لازم يتصفي. وقف أحد قادة أمام الجموع، وقال لهم إن اقتحام السفارة معناه تنكيس علم إسرائيل، وتنكيس العلم المصري في تل أبيب ومن ثم إعلان الحرب، ثم سألهم: هل تريدون حرباً مع إسرائيل، فأجابوا في نفس واحد: لأ. ولتفسير هذا التناقض لابد أن نفكر : كيف يتعامل المصري مع ما يؤمن به، فالمصريون، عموماً، يفصلون بين ما يؤمنون به وحياتهم اليومية، فالموظف الذي «يخطف الظهر » ثم يفتح الدرج لتضع فيه خمسين جنيهاً نظير قضاء مصلحته، هو نموذج مثالي لهذه الحالة، فالرجل يؤمن بالإسلام فيقيمه، ولكن بعيداً عن تفاصيل حياته اليومية، إنه يصلي ويرتشي، أخته تتحجب ولا تترك النميمة علي جارتها، أمه تؤدي العمرة بآخر مليم تملكه ولا تجد غضاضة في أن تكذب علي أبيه الذي يحج ويسب الدين. وقديماً انشغل يوسف ادريس بهذه المسألة، خاصة في رواية «العيب»، وكان تفسيره أن المصري له «دوسيهات» أخلاقية، بمعني أنه يضع كل فضيلة من الفضائل في دوسيه، فيلتزم بهذا ويترك هذا دون أن يخلط بين دوسيه وآخر. غير أن هذا الوصف لا يقدم تفسيرًا لتلك الحالة التي تستحق مجهودًا دارسياً ومدرسياً علي الاجتماع، وحتي يقوموا بهذا الجهد فإننا سنحاول استكمال الرصد الذي بدأه ادريس، فنقول إن المصري الذي يقول في أمثاله إن ما يحتاجه البيت هو حرام علي الجامع، يطبق هذه النظرية حتي النهاية، فهو يضن حتي بأخلاقه إن احتاجها بيته. ويعبر هذا التناقض عن نفسه فيما يمكن تسميته بالتعويض الأخلاقي» فكما أن المصري يسرف في تنازله عما يعتقد أنه مبادئ في التفاصيل الحياتية اليومية المعاشة، فإنه يسرف في التمسك بها علي المستوي الرمزي، إنه يمجد بن لادن، ليس بن لادن الشخص، وإنما بن لادن المثال.. بن لادن الذي يفعل تماماً عكس ما يفعله هو بداية طول لحيته، وليس نهاية بمواجهة أمريكا. وربما يذكرنا تمجيد المصريين لابن لادن، بتمجيد الأوروبيين لتشي جيفارا»، حيث كان نصيب الرجل الذي وهب حياته لقتال الرأسمالية أن يكون من أهم مصادر الربح لمؤسساتها. وكلما كان القميص أعلي سعراً كلما تألقت صورة المناضل الشيوعي في صدارته. وبمناسبة المقارنة الدائرة حالياً بين بن لادن وجيفارا، فإن «البطلين» ولدا في مكان، وقاما بالثورة في مكان آخر، وكان علي رأس سلطته، وقضيا نحبهما في مكان ثالث، والاثنان كان ضد الولايات المتحدة الأمريكية، والاثنان احتفلت أمريكا بمقتلهما، وكافأت قاتليهما، ولا ننسي طبعاً أن كلاً منهما كان يمتلك لحية عظيمة وشهيرة. وكأن هذا سيناريو معد سلفاً، تم أداؤه بفريقين مختلفين كأمير الانتقام وأمير الدهاء مثلاً. مجرد ملحوظات عابرة، لا تعني شيئاً، وقد تلقي ظلالاً حول فكرة صناعة البطل «المثال» في الوقت الذي تثور فيه حركات تغيير واسعة، مما يجعلنا نعيد قراءة ما كتبه الكاتب الكبير ماريو فارجاسيوسا عن جيفارا الدموي بعيداً عن أية تأثيرات شعبوية، حتي لا نقع في فخ التعويض الأخلاقي كما وقع غيرنا. وأخيراً من يبد الحماس نفسه للمبدأ ونقيضه، فإنه يبقي غالباً بلا مبادئ.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل