المحتوى الرئيسى

الشعوب عندما لا تريد

05/09 19:54

طارق القزيري لفترة طويلة ظلت النائحة العربية مستمرة في هدمها – أكثر من نقدها للذات – تجاه سؤال محرج وملحّ: لماذا لا يثور العرب؟ إلحاح السؤال وإحراجه يكمنان في التناثر السابق للثورات عبر أرجاء العالم، من أوروبا الشرقية سابقاً، ثم أوكرانيا، وقبل ذلك إندونيسيا، مروراً بإيران وغيرها. وفي نفس الوقت غيابها عن بلدان العرب، التي تشهد كل اللاممكن من التهميش الحقوقي والإنساني، والمذهبي والطائفي.. إلخ. لكن نهاية العام الماضي منحت الجميع فرصة لتفكير في سؤال مختلف: لماذا يثور العرب؟ من منطقة سيدي بوزيد التونسية انطلق هتاف: "الشعب يريد ...."، وهو شعار بقدر شموليته فقد كان رد فعل طبيعياً على شمولية الحكام الذي جعلوا من إرادة الشعب هامشاً لا يستحق سوى المزايدة به لقمع الشعب نفسه. ولكن خلف كل الشعارات المتشابهة في الثورات العربية الراهنة، يبدو ممكناً الوصول إلى وجوه للفرق بين دوافع ومنابع الثورات العربية، على الأقل بالنظر إلى هتافاتها وأناشيدها العفوية، التي تعكس وتترجم، الوعي الحقيقي بدوافع الثورات حالياً. فمع هتافات التوانسة ضد الفساد، واحتكار عائلة الرئيس لثورات البلاد، والمطالبة بتوزيع عادل للثروات ومساواة اجتماعية، كان شعارات الثورة المصرية يطغى عليها البعد السياسي أكثر، والمطالبة برحيل النظام كانت تعكس تصوراً بأن الجمود السياسي وهيمنة الحزب الواحد هما السبب في الوصول لانسداد الأفق الراهن. لو أردنا ترتيب أولويات الثورات لقلنا إن المطلب الاجتماعي تونسياً أبرز، فيما كان المطلب السياسي المصري أكثر وضوحاً في المشهد، مع عدم إمكانية تجاهل مختلف الدوافع، بحجم اتساع رقعة المطالبين بالتغيير من مختلف فئات وطبقات الشعب. في اليمن ورغم تشابه المشهد كذلك، لكن الأرجح أن شخصية الرئيس غير الكاريزمية، وبؤس خطابه وبلادته، والفساد القبلي في البلاد عزز القمة وصار للثورة هدف مُشخصَن في الرئيس دون أي نقد مجلجل للنظام تقريباً. أما في ليبيا فكان لافتاً تلك الصيحات التي تعكس شعوراً بالإهانة، أكثر مما عداها، صحيح أن إهدار ثروات البلاد، ومصادرة كل فضاء ممكن للمشاركة، جعلا الحياة لا تطاق، لكن شعوراً عاماً وطاغياً بالثأر برز بوضوح في تفاصيل الثورة، خاصة مع شعارات تستعيد "الرجولة" مقابل "طغيان الأسرة". ومع هذا الاختلاف ظل العامل المشترك، وجود الطبقة الوسطى، كعامل أبرز في قيادات هذه الهبات الشعبية الملهمة، وكان أيضاً غياب لافت للفروقات الجنسية في المشاركة بين رجال ونساء. فباستثناء الحالة الليبية العنيفة، فقد كانت المشاركة تعكس تساوياً في الفاعلية بين الجنسين. الغرب والخارج "وعقد المؤامرة" تحولت خلال هذه الثورات من خطاب العموم لتصبح سمة أساس في خطاب الحكام، فالجميع يصرّ على أن ما يحدث هو مؤامرة خارجية ضد الاستقرار و"ليست ضد الحاكم"، و"هستيريا الدافع الخارجي"، قابلها تجاهل كامل لهذا الخارج في شعارات الثورات، فلم تذكر الولايات المتحدة، وإسرائيل، وفلسطين تقريباً، بل كان الهمّ المحلي طاغياً بشكل أحادي تقريباً. لدرجة أن أكبر زعماء المعارضة التونسية استلم حقيبة التنمية المحلية في أول تشكيل وزاري بعد جلاء الرئيس من قصر قرطاج. ومع الرغبة الشعبية في العدالة الاجتماعية والمشاركة السياسية ورد الاعتبار للذات الجمعية أمام سطوة مستديمة من الطغيان، كان لابد من الصدام مع رموز التحكم وإدارة القمع، فإحراق مراكز الشرطة، ومحاصرة مقار الأمن والمخابرات الداخلية، بما يعنيه من رغبة في بتر يد الحاكم الباطشة، يعكس أمراً جديراً بالملاحظة، إذ لأول مرة سيعاد بناء الدولة العربية بوعي جديد تجاه مؤسساتها. "الشعب يريد ..." كانت تعني بوضوح – وهذا للمفارقة – أن "الشعب لا يريد"، لتصبح الثورات العربية في حلقاتها حالياً، وربما في الممكن من الحلقات القادمة، رغبة عامة في هدم القائم، والوصول لصيغ جديدة، وإذا كانت الرؤية للقادم تبدو غائمة، فإن المستقبل ربما سيتحدد وفقاً لمعيار واحد هو عدم التشابه مع ما لا يريده الشعب.. ويظل ما عدا ذلك رهناً بالتفاصيل. * إعلامي ليبي خاص لـ"العربية نت"

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل