المحتوى الرئيسى

المستشار فؤاد راشد يكتب: ضلالات ما قبل النهاية!

05/09 16:45

في عالمنا العربي المنكوب بالحاكم الفرعون المتأله، تختلف البدايات عن النهايات على نحو يصل عادةً إلى حد التناقض، فأنت ترى الحاكم في بداياته ممعنًا في البساطة (غالبًا لأنه لا يصدق الجاه النازل قضاءً وقدرًا)، فيأبى أحيانًا أن يناديه أحد بوصفه رئيسًا من باب التواضع، ويسجن أحدهم بعض أقاربه القريبين من باب تحري العدالة، ويتخلى البعض مؤقتًا عن مظاهر الأبهة التي رفل فيها سابقه، وتمر الأيام ويلتف المنافقون وأساتذة إبليس- لا صبيانه- ويسيطرون على الحاكم، وهو عادةً ينفر مع الوقت من الثقافة؛ لأنه ليس من المعقول أن يتعلم من أحد، وهو منبع الحكمة، يتنفسها في صحوه وربما خلال منامه أيضًا.   وبمرور السنين نجد حاكمًا "صناعة منافقين" غير الذي بدأ تمامًا، فقد يبدأ بلقب الأخ الرئيس وينتهي إلى لقب ملك الملوك كحالة القذافي، وقد ينتهي إلى لقب أمير المؤمنين، ولو كان المرشح لإمارة المؤمنين لاعب قمار لا يشق له غبار كالملك فاروق، ولم ينكر أشد المتعصبين له براعته في لعب القمار والكسب- طواعيةً- من خلال موائده؛ حيث دأب جلساؤه الأثرياء على تركه يفوز والأسباب معلومة، وقد ينتهي إلى لقب الرئيس المؤمن كالسادات، وكان هناك من ينادون في آخر أيامه بمنحه لقب سادس الخلفاء الراشدين، وكان الأمر ذائعًا لا سرًّا، برغم أن المرشح سادس الخلفاء الراشدين كان يتعاطى الخمر، وتحديدًا "الفودكا"، باعتبار أنها لا تخلف رائحةً بفمه، وقد نشر هيكل ذلك في كتابه "خريف الغضب" منذ ثلاثين عامًا، ولم ينف أحد روايته!.   ومع نهايات عمر الحاكم أو نهايات حكمه، خاصةً إن طال به الأجل، تسأل أين ما بقي من الأصل فلا تكاد تجد شيئًا، فقد ذهب التواضع وحل الكبر والعناد، وكان لمبارك قول أثير، مؤداه حصوله على دكتوراه في العناد، وهو قول نصفه الصحيح كان في مواجهة شعبه ونصفه الكاذب كان في مواجهة إسرائيل وأمريكا، فقد كان سهلاً هينًا لينًا، يخجلهما بفيض كرمه من مالنا وعلى حساب مستقبلنا؛ حتى ذبحوه بسكين بارد، حين قالوا تارةً إنه كنز إسرائيل الإستراتيجي، وتارةً إنه ثاني أهم شخصية في تاريخ الكيان الصهيوني!.   على أن أغرب ما في قصة الحكام "صناعة المنافقين" هو ما يكون في نهايات النهايات من عهودهم؛ وذلك أن أمرين يجريان بحكم طول البقاء؛ أولهما الفساد وانسداد الأفق السياسي وتردي الأحوال عامة، ثانيًا ما يعتري الحاكم، باعتباره بشرًا من تأثير عوامل السن والمرض والترف الموروث للوهن؛ بحيث يصل إلى نوع من التهالك الشديد صحيًّا ونفسيًّا، وعند هذه النقطة يتعاظم دور الدائرة الضيقة المحيطة لتصبح دائرة فولاذية!.   في عالم الطب النفسي- ومعلوماتي فيه معلومات عامة الناس- هناك مرض اسمه "الذهان"؛ وهو نوعان: ذهان عضوي وذهان نفسي، ولكلٍّ منهما أسبابه، على أن هناك ما يمكن أن يكون "الذهان السلطوي"، وهو مرض يصيب غالبية الحكام العرب على يد المنافقين، وهو يتشابه في بعض أعراضه إلى حد التطابق بالذهان النفسي؛ حيث إن من أعراض الأخير الانفصال الكامل للمريض عن الواقع؛ بحيث يكون له عالمه الموهوم، يسبح فيه بخياله بالتضاد للواقع تمامًا، والذهان- كما قرأت- يكاد يستحيل علاجه إلا في مستشفى الأمراض النفسية لشدة خطورته.   ولننظر إلى آخر حاكمين حكما مصر، لنرى كيف صنعهما النفاق، منتهيًا بكل منهما إلى "ذهان السلطة".   كان السادات في بداياته بالغ التواضع، لا يكف عن إعلان أنه لن يعيد ترشيح نفسه للرئاسة، وقد سمعته مرارًا وسمعه غيري يعلن ذلك مشددًا صارخًا، وقد رأيته يومًا- صدفة- في زاوية صغيرة في شارع الهرم دخلتها لأداء صلاة الجمعة، وبعد الصلاة راح يقبل المصلين واحدًا واحدًا، ويدفع الحراس؛ لأنهم حاولوا أن يحولوا بينه وبين تقبيل المصلين، وهو السادات نفسه الذي قال في آخر أيامه، قاصدًا نفسه "وما أنا بظلام للعبيد"، على أن قمة المأساة الذهانية كانت لحظة إطلاق الرصاص عليه، إذ قال- حسب معظم الروايات- عبارة (موش معقول)، وكانت تلك آخر كلماته، وربما سمعها مبارك منه لقربهما على المنصة.   كانت العبارة انعكاسًا صادقًا لحالة الذهان تلك، فقد كان في آخر عهده أسيرًا بحق لقلة قليلة راحت تتعامل معه بمنطق عجيب غريب، لا يصح أن يعامل به رئيس دولة، وهو منطق "دعوه لا تزعجوه بأخبار سيئة"، وهو قول يصح أن ينصح به في حالة شيخ فانٍ طاعن في السن يرقد على فراش الموت، ولا يليق إطلاقًا أن يعامل بموجبه رئيس دولة عليه أن يعلم ما يسيء قبل أن يعلم بما يسر، بل عليه أن ينام نوم الصقر يغلق عينًا ويفتح الأخرى، خاصةً إذا كان يحكم دولةً بحجم مصر!.   ومن المؤسف أن الدائرة الجهنمية تغير أشخاصها من السادات إلى مبارك، فبدلاً من عثمان أحمد عثمان أيام السادات صار زكريا عزمي أيام مبارك، حتى إن من المتواتر أن جميع الداخلين إلى مبارك كانوا يتلقون تعليمات صارمة على لسان عزمي، هي نفسها تعليمات عثمان أحمد عثمان "لا تكدروا الرئيس بأي أخبار سيئة"، وهي عبارة معناها الآخر "دعوه في ذهانه يسبح في عالم الوهم"!.   إن غالب ظني أن مبارك ما زال لليوم يعيش حالة الذهان تلك، وربما انتقلت إلى ولديه وامرأته أيضًا، فقد نقل عن ابنه الأصغر، وهو أحد أعمدة نكبة أبيه مثلما هو أحد أركان نكبة مصر، نُقل عنه عتاب للمسئولين الحاليين عن إقدامهم على تعديل الدستور دون الرجوع إليهم وهو يقصد العائلة، كما ترددت الروايات عن غضبه العارم لما ناداه أحد الوزراء المحبوسين معه بنفس تهمة السرقة التي هو محبوس على ذمتها، باسمه مجردًا، كما نقل عن مبارك قوله إن الأمريكان "باعوه"، وتلك أمور لا أجد لها تفسيرًا إلا حالة الذهان السلطوي؛ لأن هؤلاء لو لم تقطع عنهم كل روافد المعلومات لعلموا أن البلد "حبلى" ببراكين الغضب وكل عوامل الثورة، وأنهم وقعوا ضحية فريق المطبلين والمزمرين والأفَّاقين الذين سارعوا يسابقون الريح للقفز من السفينة الغارقة، متبرئين من مبارك، تاركين إياه ليفيق من ضلالات الذهان وأوهامه على كابوس طره، ومن يدري فقد يفيق على حبل المشنقة ويتحفنا هو أيضًا بعبارة سلفه الخالدة "موش معقول"!.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل