المحتوى الرئيسى

تمثيل الشعب.. والتمثيل عليه!

05/09 01:47

سليمان جودة في لقاء مع الدكتور حازم الببلاوي، وهو مفكر اقتصادي معتبر، سألته عما إذا كانت الثقافة الضريبية مستقرة لدينا في مصر، وعما إذا كان المواطن الذي عليه أن يؤدي حق الدولة في أمواله، سوف يدرك من تلقاء نفسه، بموجب حضور هذه الثقافة لديه، أن أداء هذا الحق للدولة، من جانبه، واجب لا يحتمل التباطؤ، ولا التحايل، أم أنه سوف يظل يتحايل مرة، ويتخفى مرات، حتى يفلت من أداء ما يجب أن يؤديه للخزانة العامة؟! وكان رأي الدكتور حازم الذي أوافقه عليه، أن المشكلة ليست في أن تذهب أموال الضرائب إلى الخزانة العامة للدولة، أو لا تذهب، ولكن المشكلة في أن يجري إنفاق هذه الأموال بجدية، على الخدمات العامة للناس، وخصوصا التعليم والصحة. ولذلك، ربما لاحظت أنت، أن المتهرب من أداء ضرائبه، قد يحرص في كل عام، على أن يذهب للعمرة، أو الحج، ولا يمكن فهم هذا المسلك على إنه تناقض في حياته بين التهرب من ناحية، وبين التمسك بأداء شعائر دينية من هذا النوع، من ناحية ثانية، وإنما يمكن فهمه على أن هذا المتهرب يدرك مقدما أن أموال ضرائبه، حين يؤديها، سوف لا تذهب إلى حيث يجب أن تذهب، وأن أموال الحج أو العمرة، في المقابل، سوف تكون في موضعها تماما، وأن الله سوف يتقبلها منه، لأنه يبغي بها وجه الله، ولا يبغي شيئا آخر. أقول ذلك بمناسبة ما يثار هذه الأيام في العاصمة الأميركية واشنطن، عن أن أبناءها قد ضجوا من حرمانهم من التمثيل في مجلس النواب الأميركي، بحجة أن العاصمة - تاريخيا - منطقة محايدة، ويجب أن تبقى كذلك، وأن تكون بعيدة عن الانخراط فيما تنخرط فيه سائر المدن والولايات، من معارك، ونقاشات، وخناقات سياسية، داخل الكونغرس بمجلسيه: النواب، والشيوخ! فالمعروف أن الولايات المتحدة فيها ولاية تحمل اسم «واشنطن» في أقصى شمال الغرب، وأن العاصمة تحمل الاسم نفسه، ولكنهم يفرقون بينهما بأن يقولوا عن العاصمة أنها «واشنطن دي سي».. أما الولاية، فهي «واشنطن» فقط! ولكن المشكلة ليست في الاسم، فالمشكلة الحقيقية هي في أن الولاية إياها لها ممثلون في مجلس النواب، ومجلس الشيوخ، شأنها شأن أي ولاية أخرى، على العكس تماما من العاصمة التي لا يمثلها أحد في الكونغرس! والغريب، أن أبناء العاصمة، وعددهم 600 ألف تقريبا، قد راحوا يعبرون عن غضبهم من استمرار هذا الوضع، بأكثر من صورة، وكانت الصورة الأبرز، أن كل صاحب سيارة في العاصمة، يكتب على لوحة أرقامها، عبارة عجيبة، لا نراها في أي عاصمة في العالم، وهي: ضرائب بلا تمثيل! والمعنى أنه، كمواطن، يؤدي حق الدولة في أمواله، طوال الوقت، مثله مثل أي مواطن في أي مكان على امتداد الولايات الخمسين، ولكنه في الوقت ذاته لا يحظى بما يحظى به باقي المواطنين الأميركيين، عندما يكون لهم ممثلون في الكونغرس يراقبون إنفاق كل دولار من هذه الأموال. فالدولة عموما، لا تخترع أموالا، ولا تستطيع أن تطبعها «عمال على بطال» وإلا أدى ذلك إلى تعاظم التضخم، وهي مسألة يفهمها الاقتصاديون جيدا، وإذا كان للتضخم معنى يمكن أن يقربه، كمصطلح، إلى الناس، فهو ارتفاع الأسعار بما يفوق طاقة الغالبية على الشراء، ولذلك، وتجنبا للتضخم، فإن موارد الدولة تأتي من روافد عدة، أهمها الضرائب التي يسددها كل ممول عليه حق لخزانة الدولة العامة، وهي، أي الدولة، تأخذ هذه الموارد، من الضرائب، وغيرها، وتنفقها على الخدمات العامة المتاحة لك، كمواطن، أو التي يجب أن تكون متاحة على مستوى آدمي لا ينال من كرامة الإنسان. وبناء على ذلك كله، فإن كل مواطن لن يستطيع عمليا، على مستواه هو، أن يراقب الطريقة التي سوف يجري بها إنفاق أموال ضرائبه، وكان البديل، بالتالي، هو أن يكون هناك ممثلون عن دافعي الضرائب هم أعضاء البرلمان في أي بلد، وهؤلاء الأعضاء لهم وظيفتان أساسيتان في أي برلمان في العالم: الرقابة على الحكومة وهي تنفق هذه الأموال، ثم تشريع القوانين التي تنظم حركة المجتمع، وحياة الناس. أبناء العاصمة واشنطن، لأسباب ليست مقنعة، محرومون من هذا الحق، ويبدو أنهم قد أدركوا الآن أن هذا الحرمان السياسي، إذا جاز التعبير، قد طال أكثر من اللازم، وأنه قد آن له أن يتوقف، ولذلك يضغطون طول الوقت في اتجاه أن يكون لهم ممثلون في الكونغرس مثل بقية أنحاء الدولة الأميركية، وكانوا، ولا يزالون، يراهنون على أن يفي الرئيس «أوباما» بوعده، حين قال عندما كان لا يزال مرشحا للرئاسة، إنه سوف يعمل على أن يكون لهم ممثلون في الكونغرس، غير أنهم لاحظوا أن أوباما يتراخى في تنفيذ ما كان قد وعد به، ولم يكن أمامهم، والحال كذلك، إلا أن يثوروا هذه الأيام، ويعلنوا رفضهم لاستمرار وضع من هذا النوع، وقد كانت ثورتهم فيما يبدو، أعنف مما يجب، بما أدى إلى توقيف عمدة واشنطن، مؤقتا، لأنه قاد الثائرين في هذا الاتجاه، وراح يؤيد مطالبهم، ويشدد على ضرورة الاستجابة لها، ودون تلكؤ. فما هو الدرس؟!.. الدرس أن التهرب الضريبي، عندنا، إذا كان يمثل ظاهرة، فإن مرجعه في الأساس، إلى السياسة، لا إلى الاقتصاد، بمعنى أن الذي يتهرب من أداء ضريبته المستحقة عليه، لا يفعل ذلك لأنه راغب في ممارسة التهرب في حد ذاته، ولا لأنه راغب في أن يحتفظ بقيمة ضرائبه لنفسه، ولا لأنه يرى أن نسبة الضريبة المستحقة في أمواله أعلى من الحد المفترض، ولا.. ولا.. إلى آخره.. وإنما يتهرب لأنه يرى أن الوظيفة الرقابية للبرلمان ليست قائمة، وإذا قامت فهي مجرد صورة، أو شكل، وليست مضمونا أو محتوى، وربما لهذا السبب، نكتشف أن بعض ممولي الضرائب، أي الذين عليهم ضرائب مستحقة، لا يؤدونها لخزانة الدولة، ويفضلون أن يؤدوها في الوقت نفسه، في أعمال خير من أي نوع، لأنهم في هذه الحالة، سوف يكونون واثقين من أن أموالهم قد ذهبت لمستحقين لها، على الأقل، ولم يتم تبديدها في أي اتجاه! نحن إذن، في حاجة إلى أن نتعلم درسا مما يجري في واشنطن العاصمة في الوقت الحالي، وسوف يكون الدرس هو أن التهرب من أداء الضريبة، ليس حلا، في مواجهة عدم وجود رقابة حقيقية على إنفاق عائد الضرائب، وإنما الأصح أن يكون هناك حرص على الشيئين معا: أداء حق الدولة، الذي هو حق لها تجري ترجمته، بعد تحصيله، ليكون - في الأصل - حقا لأفراد المجتمع جميعا، في صورة خدمات عامة لائقة.. أما الشيء الثاني، فهو الحرص بالدرجة ذاتها على أن يكون التمثيل في البرلمان، تمثيلا حقيقيا، وليس صوريا، لتكون الضرائب والحال هكذا، حاضرة، ومعها الذين سوف يراقبون إنفاقها في كل حالاتها! وبصراحة، لو أن الدولة كانت صادقة، في أن يكون الممثلون للناس في البرلمان، على المستوى المطلوب، فسوف يكون الناس صادقين في المقابل، وسوف يؤدي كل واحد منهم، ضرائبه دون ملاحقات وراءه، ولا مطاردات من أجهزة الضريبة.. وإذا كان أبناء واشنطن العاصمة يعانون من حرمان سياسي سببه أنهم ليس لهم ممثلون في الكونغرس، فالحرمان ذاته قائم عندنا، رغم وجود ممثلين للناس في البرلمان، لا لشيء، إلا لأنهم لا يمثلون الشعب، وإنما في الغالب يمثلون عليه! * نقلا عن "الشرق الأوسط" السعودية

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل