المحتوى الرئيسى

د. هشام عبد الصبور شاهين يكتب: أطباء مصر وجزاء سنمّار

05/08 16:30

كيف يراد لنا أن نربي أبناءنا ؟ هل نخطئ فى حقهم إذ نربيهم على الالتزام وحب العلم وتقديس العمل المنتج النافع ؟ كيف يكون ردي على ابني حين يفاجئنى بأمنيته أن يصبح حين يكبر لاعب كرة أو مغن ؟ هل سقطت قيمة العمل النافع لدينا إلى هذا الحد ؟ كانت أمنية الفتى من جيلنا أن يصبح ضابطا أو طبيبا أو مهندسا أو عالما، وكان يبذل قصارى جهده لتحقيق أمنية كهذه، فالمطالب أيامنا كانت لا تنال بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غلابا !أما الآن فالصورة مختلفة أعرضها عليكم بكل ما فيها من تناقض صارخ، وتباين ظالم..-  مرتب الطبيب المقيم ارتفع إلى ٣٠٠ جنيه.- المجلس القومي للأجور قرر الحد الأدنى لأجر العامل غير المؤهل بـ ٤٠٠ جنيه.- تم رفع بدل نوبتجية للطبيب المقيم إلى ٤٥ جنيه، بحد أقصى ٨ نوبتجيات شهريا (عشان مايفتريش)، وإن قام باثني عشرة نوبتجية؛ لا يصرف له إلا مقابل ثمانية، وشريطة أن تكون مدة النوبتجية ٢٤ ساعة.- الطبيب الإخصائي فى وزارة الصحة، يعنى ست سنوات دراسة وسنة تدريب، وثلاث تجنيد، وثلاث ماجستير، واثنتان دبلوم، وخمس سنوات دورات تدريبية، وعمره الآن ٤٨ سنة، مرتبه ٧٥٠ جنيه شاملة الحوافز والنوبتجيات.- مرتب إستشاري جراحة العظام الحاصل على الدكتوراه منذ ١٠ سنوات لا يتعدى ٥٠٠ جنيه بالحوافز دون نوبتجيات.والأمثلة كثيرة جدا، تدل جميعها على الظلم الفادح الذى يتعرض له الطبيب - كمثال للمتعلمين المطحونين- فى مصر، منذ تخرجه حتى تقاعده إن كتبت له الحياة، وبرغم الآمال العريضة التى راودته فى شبابه حين التحق بالكلية بعد تفوقه في الثانوية العامة؛ ثم تحطمت، وبرغم السنين الطويلة التى قضاها فى الدراسة، والجهد الهائل الذى بذله فى تحصيل العلم - على تواضع مستواه - والتدريب الشاق الذى مر به، وبرغم النوبتجيات؛ وما أدراك ما النوبتجيات فى المستشفيات المصرية فى الاستقبال وأقسام الطوارئ، وبرغم عظم ما أنفق عليه أهله ليصبح طبيبا؛ وبرغم الليالي والأيام التى قضاها مع مرضاه؛ برغم هذا كله وكثير غيره؛ فما يناله من العائد المادي الحكومي لا يكاد يوفي احتياجاته اليومية ليسد به رمق أهل بيته، وعليه أن يلجأ إلى العمل المسائي فى عيادة أو مستوصف أو مستشفى يحصل منه على بضعة جنيهات تقيم أوده، وتساهم فى سد حاجاته.وعلى الجانب الآخر.. أذكر لكم - ولا حسد - بعض الأخبار التى تداولتها الصحف:- اللاعب الذي لفظته أندية أوروبا تعاقد مع نادى الزمالك مقابل ٣ ملايين جنيه سنويا خالصة الضرائب، وخمسة ملايين جنيه من رئيس النادى، وبضعة ملايين أخرى من الإعلانات.-  مدرب فريق النادى الأهلى يحصل على مرتب شهرى ٨٠ ألف يورو.- مرتب (المعلم) مدير الفريق الوطنى ربع مليون جنيه شهريا (بأمر الرئيس السابق)، وحصل على مكافأة الفوز فى بطولة أفريقيا العام الماضي 3 مليون جنيه خالصة الضرائب.- مدربو الفريق الوطنى يحصل الواحد منهم على ١٥٠ ألف جنيه شهريا، وحصل كل منهم على مكافأة مليون جنيه خالصة الضرائب.هذه الأرقام المستفزة تذكرها الصحف، وترددها الأخبار، وقد يقول قائل: إن كرة القدم هى المتنفس الوحيد للشعب الغلبان، وإن الأندية هى التى تتحمل هذه المبالغ الطائلة، وإن الناس بتنبسط لما تتفرج على كورة !.. أما القول بأن الكرة هى المتنفس الوحيد للشعب فهو مردود عليه؛ بأن هذا الوضع يسود فى عهود الضعف والقهر والتخلف، حين تستغل الدولة كرة القدم لإلهاء الناس عن واقعهم فيلتهون، ويصبح جُل همهم الفرجة على المباريات والمكسب والخسارة، بينما لا تضيف هذه الفرجة إليهم شيئا، ولا تغير من واقعهم الذي يعيشون، فهى مجرد مضيعة للوقت والجهد والمال، والأندية التابعة لوزارة الشباب والرياضة تحصل على هذه الأموال الطائلة من الناس، وتوجه اهتمامها ومعظم إنفاقها إلى كرة القدم، وتهمل اللعبات الأخرى، فتدهور مستوى الأداء المصرى فى كل الرياضات، ولا عجب .. فالشعب المصرى يمارس رياضة التفرج على كرة القدم فى التلفزيون، ولا عزاء لأبطال كأس العالم ٢٠١١ والأعوام التى سبقته فى الاسكواش..إن المجتمع السويّ يجب أن تسمى الأشياء فيه بمسمياتها الحقيقية، لتأخذ في واقعه حجمها الطبيعى، فالفوز فى مباراة ليس نصرا لمصر، لأنها ببساطة مباراة وليست معركة، ولاعبو كرة القدم هم لاعبون، ويجب أن تكون رواتبهم على قدر ما ينتجون أو ما يقدمون لمجتمعهم، ولا يجب أن يسموا أبطالا فيتقاضوا هذه الملايين، وكذلك الممثلون والمغنون والرقاصون، بالمناسبة.. نشرت الصحف قبل ثورة ٢٥ يناير المبروكة أن المطرب الشاب اتفق على تمثيل مسلسل رمضان القادم مقابل٦٠ مليون جنيه، (يا نهار اسود !!! ) بينما أطباء البلد وعلماؤها وصفوة رجالها الذين أفنوا أعمارهم دراسة وتعليما وتدريبا يعيشون على خط الفقر، وأفتى بعض رجال الدين أن منهم من يستحق الزكاة.أيها السادة .. إن أحوال مصر ما بعد الثورة  تتطلب منا وقفة مع أنفسنا، فمصر لا تحتاج إلى مباريات للكرة يلهى بها الناس عن واقعهم، ولكنها تحتاج إلى العمل المنتج وبذل الجهد والعرق لرفعة شأنها، لا تحتاج إلى التهريج والانبساط والفرفشة، وإنما إلى الجد والاجتهاد والتفانى، لا تحتاج إلى مطربين وممثلين ورقاصين يقدمون الرقاعة والمجون والتخلف بعيدا عن الفن الحقيقي، بل تحتاج إلى العلماء والمخترعين والموهوبين الجادين ليحلقوا بها فى سماء العلم والتقدم والحضارة والفن المبدع البنّاء، لا تحتاج إلى امتداد الظلم الواقع على أهلها منذ عقود؛ وإنما تحتاج إلى مراجعة المظالم لينال كل ذى حق حقه على قدر عطائه، لا على قدر ما يمكن أن يجتذب من إعلانات، أو ما يوسِّط من محسوبيات.. ساعتها.. وساعتها فقط سنعيد إليها ما ضاع منها ومنا.. واسلمي يا مصر.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل