المحتوى الرئيسى

تأملات في أدب يحيى الربيعان بقلم:علي عبد الفتاح

05/06 10:38

في حياتي شموع أضاءت طريقي .. وشخصيات عاشت في وجداني .. وحياتي .. ومن هؤلاء .. الكاتب الصديق يحيى الربيعان .. ولذلك كنت دائماً .. أفكر في تقديم كتاب نقدي حول تجربة الربيعان في الحياة الثقافية والأدبية .. والإبداعية .. وكيف شق طريقاً ساهم في تألق كثيرٍ من المبدعين في الكويت والخليج . إنها تجربة عبر ثلاثين عاماً .. أو أكثر .. منذ أن تولى تأسيس مكتبة الربيعان للنشر والتوزيع. وقد بدأت رحلتي مع الربيعان منذ ذلك اليوم الذي التقيت به في مكتبه لأول مرة للتشاور معه حول إمكانية أن يطبع وينشر لي كتاباً عن أدباء من مصر وهم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم .. ويوسف إدريس .. ويوسف السباعي وغيرهم . وكنت مازلت ضيفاً جديداً على الكويت .. فقد سافرت من القاهرة في أغسطس عام 1977 للعمل بوزارة التربية .. وكنت قد أنهيت المرحلة الجامعية منذ عام 1975 .. وخلال تلك الفترة حتى الرحيل إلى الكويت عشت مهموماً بالبحث عن مصير لحياتي .. أو دربٍ مضيء أتلمس منه طموحاتي وأحلامي. وأذكر أني كنت أكتب مقالات في مجلة "روزا اليوسف" حين كان رئيس تحريرها الأديب إحسان عبد القدوس .. وعندما أخبرته بقصة تعاقدي مع وزارة التربية والعمل هناك ابتسم وقال : - الكويت أفضل مافي الخليج .. ولديهم مسرح وثقافة عالية .. ولكن متى ستعود؟ قلت له بثقة : - عام واحد فقط أدخر بعض المال لشراء شقة. ابتسم مرة أخرى وقال: - يا علي .. الكويت امرأة ساحرة لن تنجو من فتنتها . ولم ادرك سر كلمته الأخيرة .. وسافرت على أني سوف أعود بعد عام واحد لا أكثر.. ولكني ذهبت ولم أرجع حتى الآن عام 2011 . وحين وصلت الطائرة مطار الكويت الدولي كنت أعتقد أن الحياة الاجتماعية هناك تتشابه مع مصر كثيراً في الأسواق المزدحمة .. والباعة الجائلين والمناطق الشعبية. وكذلك الحياة في الشوارع والطرقات والحدائق التي لا تخلو من الناس .. ولكن لم أتوقع أن يكون الطقس قاسياً إلى هذا الحد. وحين انفتح باب الطائرة كانت الصدمة الأولى .. تلك الحرارة الشديدة.. وذُهلت كيف يعيش أهل الكويت في هذا المناخ الحار.. ؟ ولكن ابتسمت .. وأنا أطمئن نفسي أنه عام دراسي .. وأعود إلى القاهرة .. وأرجع إلى عالمي في الصحافة والكتابة. وفي اليوم التالي وجدتني أعاني غربة حادة .. وإحساساً بالتعاسة والهزيمة وأنا أنظر حولي في الشارع لا أجد أحداً من المارة .. ولا الأسواق الصاخبة بالضوضاء .. ولا الزحام المعهود في مصر.. وأدركت أني هبطت في بقعة نائية عن عالم الحركة والحياة . ولذلك .. في العاشرة صباحاً من اليوم الثاني .. حملت حقيبتي وتوجهت إلى مكتب اللجنة التي تعد أوراق المدرسين والهويات .. وكنا في بيت الضيافة بمنطقة الرميثية. وقلت لهم في سذاجة: - ممكن جواز سفري لاني راجع إلى مصر !! وضحك كل من بالغرفة .. وشعرت بدوار من الهزيمة والانكسار . وسألوني مبتسمين : - لماذا ؟ قلت في صدق : - لا أجد شيئاً في هذا .. كنت أتوقع أن الكويت مثل القاهرة .. ولذلك أنا تعبان نفسياً. وظللت أبكي أمام اللجنة كطفل يحلم أن يعود إلى أهله .. ويبدو أن موقفي أثار مشاعرهم .. فاقتربوا مني .. والتفوا حولي .. وعانقوني وقال أحدهم : - ياجماعة .. لا تتركوه حزين وتعبان .. اذهب معهم إلى السالمية سترى شيئاً من مصر .. وحين شاهدت شارع السالمية والمحلات والسيارات التي تقف احتراماً للمشاة .. والهدوء الذي يسيطر على الشوارع .. بدأت أشعر أن هناك حياة جميلة .. وعلاقات ولكن إيقاع هذه الحياة يمضي في نظام .. وتمهل .. وهدوء . وثم بدأت أبحث عن القراءة والكتاب .. كنت أشتري كتب المؤلفين المصريين ودواوين نزار قباني وأدونيس .. ولم أفكر إطلاقاً أن اقرأ في الأدب أو الثقافة بالكويت . كنت مقتنعاً أن الأدب هو الأدب المصري .. فهل هناك في بلد ما شاعر مثل أحمد شوقي ؟؟ أو كاتب مثل العقاد .. وتوفيق الحكيم وغيرهم ؟ كان يسكنني شيء من الغرور والتعالي على الثقافات الأخرى. حتى التقيته .. يحيى الربيعان في مكتبه .. كنت أفكر في طبع كتاب يحمل عنوان : رواد الأدب وأعلامه في مصر . وجلست مع يحيى الربيعان . وسألته عن إمكانية أن يقوم بطبع كتاب عن هؤلاء الرواد والأعلام . سألني في محاولة للاستفسار: - كم مضى عليك في الكويت هنا ؟ - بضعة شهور . -ومازلت تكتب عن رواد الأدب في مصر ؟ وابتسمت وقلت في ثقة : - بالطبع الرواد من مصر في كل مجالات الإبداع . فقال في هدوء : - نحن نعلم ذلك .. ولكن كلامك عن هؤلاء ليس بجديد .. فهناك آلاف الكتب عن إحسان .. ويحيى حقي .. ويوسف إدريس وغيرهم . وشعرت أنه سيرفض طبع كتابي .. فانتظرت في صبر فعاد يقول: - هل قرأت في الأدب الكويتي ؟ ضحكت في براءة وقلت : - لماذا ؟ لا ضرورة .. لأنه ليس هناك شعراء أو أدباء في مكانة أدباء مصر. وسكت الربيعان ثم عاد وقال : - كيف وأنت تدعي أنك مثقف ومدرس .. وعلى مستوى عال من العلم .. أن تتجاهل ثقافة وأدب وفكر بلد انت تعيش فيه ؟ كيف سوف تتفاهم مع الآخرين ؟ .. تقترب منهم ؟ .. تتفاعل مع قضاياهم ومواقفهم ؟ .. لابد أن تقرأ رموز الأدب في الكويت. بدأت أشعر أن ثمة إهانة انطلقت في وجهي وجرحت مشاعري وقلت في خجل: - أعرف سعاد الصباح وأحمد السقاف !! وسألني الربيعان في ضيق: - فقط؟ وفي النهاية كان اللقاء فاشلاً .. وشعرت أن الربيعان طعن ثقافتي المحصنة الثرية . وفي النهاية دعاني أن اقرأ لشعراء وأدباء الكويت ومنهم خليفة الوقيان .. وعلي السبتي .. وليلى العثمان .. ويعقوب السبيعي .. وخالد سعود الزيد .. وفاضل خلف .. وسليمان الشطي وعبد الله العتيبي .. وأحمد العدواني .. وخزنة بورسلي ومحمد الفايز .. وليلى العثمان .. وفيصل السعد .. وعبد المحسن الرفاعي .. وصقر الشبيب .. وخالد الفرج .. وعبد الله سنان .. وأحمد السقاف .. وعبدالله أحمد حسين .. وفهد العسكر . وذكر لي أسماء لمجموعة كبيرة من أعلام الفكر في الكويت منهم أيضا عبد الله ذكريا الأنصاري .. وفاطمة حسين وآخرون. وقال في نهاية حديثه : - لتفهم وطناً ما .. أو شخصاً ما .. اقرأ ماذا يكتب واعرف كيف يفكر . وكانت تلك البداية .. في أول معرض للكتاب بالكويت .. اشتريت من مكتبة الربيعان كتاب أدباء الكويت في قرنين لخالد سعود الزيد .. وكتاب عبد الله ذكريا الأنصاري عن فهد العسكر وصقر الشبيب . واذكر اني اشتريت فقط كل ما يخص أدب الكويت .. حتى أن زوجتي دُهشت وسألتني : - هل ستقرأ في الأدب الكويتي فقط ..؟ ومضيت أقرأ حقاً في الأدب الكويتي .. وتغيرت في داخلي أشياء .. وولدت أفكار جديدة .. وشعرت أن غربتي تتلاشى كلما تعمق وجداني مع معاناة شعراء الكويت وتاريخ الكويت ماقبل النفط وكفاح الأجداد الذين مهدوا الطريق للأجيال التالية. وأول مقال كتبته كان عن القضايا الاجتماعية في شعر فهد العسكر.. ونُشر المقال في مجلة البيان التي تصدر عن رابطة أدباء الكويت. ومع مرور السنوات كنت دائم الاطلاع في الأدب الكويتي حتى أصبحت متعمقاً وشغوفاً بالكتابة عن شعراء وأدباء الكويت . وعندما عملت في الصحافة أذكر أن أول مقال نشرته كان عن الشاعر الكبير سليمان الفليح الذي اعتبرته من أهم شعراء التمرد والغضب. وبعد ذلك مضيت في كتابة ونشر مقالات كثيرة عن شعراء وأدباء الكويت .. حتى في يوم ما كنت بجريدة "الرأي العام" التي توليت فيها مهمة الصفحة الثقافية أن اتصل بي أحد الناشرين بالكويت .. وعرض أن يقوم بطباعة مقالاتي عن شعراء الكويت في كتاب. ولم أكن أتوقع ذلك .. وكانت مفاجأة كبيرة .. وبدأت أبحث عن المقالات التي نشرتها في الجريدة .. فاكتشفت أنني قد كتبت عن حوالي خمسين شاعراً من الكويت قدامى ومعاصرين. وطُبع الكتاب باسم : أعلام الشعر في الكويت عام 1994م . وكان أول كتاب يضم خمسين شاعراً من الكويت. وأذكر أن الدكتور محمد حسن عبد الله يوم أن كنت التقي به في حوارات أو تحقيقات أدبية أن قال لي: - أنت تمضي على طريقي وفقك الله . وقال لي الدكتور محمد رجب النجار ذات مرة في حوار معه: - حماسك ونقاء قلمك وقلبك سر نجاحك . ودائماً حين يلتقي بي الدكتور خليفة الوقيان يقول: - أنت في قلبنا ولا يمكن أن تغيب عنا ونفخر بكتاباتك . لم أكن أحلم أن هذه الشخصيات من شعراء الكويت سوف يضمها كتاب ما في يوم من الأيام. فقد كنت أتابع واقرأ وأقتني دوواين الشعراء من المكتبات ومعارض الكتب بالإضافة إلى الكتب المهداة من الشعراء والأدباء أنفسهم . وتلك ثروة أعتز بها وأفخر دائماً . وهكذا أصبح لي تجربة جميلة ثرية مع شعراء الكويت والأدباء الذين أثروا وجداني بمواقف الحب والنضال والمقاومة .. وكذلك في تجسيد ملامح الإنسان المعاصر حين يقاوم القهر .. ويبحث عن النور والضياء. وأحاول في كل موقف أن أتذكر تلك اللحظات الجميلة .. والمشاعر الحميمة التي انزرعت في روحي تجاه هؤلاء الشعراء والأدباء في الكويت. وبكل بساطة أقر أنهم جميعاً صورة مُثلى بالحلم القومي والحرية الإنسانية والجمال الروحي والأمل في الحياة وانتفاضة القلب العاشق من أجل مجتمع أفضل. إنهم جميعاً عاشوا في حياتي خلال فترة تمتد أكثر من ثلاثين عاماً في الكويت وانا اتنفس هواء هذا الوطن .. ويمتد حبي ليحتوي كل معالم هذه الأرض الكويتية التي ولد أبنائي عليها وتعلموا في مدارسها ومازالوا في أشد الشوق والحنين إليها . وأصبح كتابي : أعلام الشعر في الكويت .. من الكتب التي اشتهرت كثيراً واتخذتها وزارة التربية مرجعاً للطلاب في البحوث الأدبية. وأذكر في يوم كنت دائم التردد على مكتبة حولي .. فوجدت كتابي أعلام الشعر في الكويت قد تمزقت صفحاته .. وتخلخلت أوراقة .. وتفككت .. وحين سألت مدير المكتبة قال: - يأتي الطلاب يصورون منه مقالات عن شعراء الكويت .. ولذلك الكتاب تمزق من كل الجوانب. وذهبت للناشر للحصول على نسخ أُهديها للمكتبة فأكد لي أنها نفدت تماماً. وفي يوم تلقيت مكالمة هاتفية من الديوان الأميري للحضور لديهم في اقرب وقت. وفي الحقيقة شعرت بالقلق الشديد .. ومزقتني الهواجس والظنون .. وتساءلت: - لماذا يريدني الديوان الأميري .. ؟ ترى ماذا فعلت ؟ وقمت بالاتصال بالأديب فاضل خلف .. فضحك وقال: - خيراً .. إن شاء الله .. لا تخف. وعندما ذهبت في اليوم التالي لم أكن أتوقع أن أتسلم مكافأة مالية .. وكتاب شكر من أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد الصباح رحمه الله. ولم استطع أن اتمالك نفسي من الفرحة. وحين التقيت الربيعان مرة أخرى ابتسم وقال: - أراك الآن متخصصاً في الأدب الكويتي ؟؟ ضحكت وعانقته وقلت : - أنت السبب .. أنت من أثار فكري ووجداني .. وبعد ذلك اتفقت مع الربيعان على إعداد سلسلة من الكتب الصغيرة للأطفال تحت عنوان : أعلام الفكر الإسلامي . ورحب بالفكرة وقرر أن تقوم المكتبة بالطبع والنشر فوراً. وأنجزت أول كتاب مشترك مع الربيعان عن سيد قطب حياته وأدبه. ونُشر الكتاب .. وأصبح في حجمه الصغير يشكل إضافة إلى المكتبة .. حيث يسرد قصة كفاح وتضحية المفكر سيد قطب في إيجاز ليستوعبه الأطفال. وشعرت أن الربيعان قد ساهم في إضاءة الطريق. إنه حقاً شمعة تضيء .. ولكن لا تحترق .. عطاء متواصل بلا حدود .. صدق في الوعد .. ووفاء بالصداقة لا مثيل له . ولذلك بعد مأساة انهيار مكتبة الربيعان وعودتها .. فكرت أن أُعد هذا الكتاب ليكون مفاجأة للكاتب يحيى الربيعان نفسه .. ونحتفل معه بالكتاب .. ونناقشه .. ويناقشنا وهو مازال معنا قادر على الحب والعطاء.. فقد دأب النقاد والأدباء الكتابة عن المبدع بعد رحيله. ولكن الأستاذ يحيى الربيعان اطال - الله عمره - سوف يحتفل معنا بالكتاب .. ويشعر أننا جميعاً نقدر رحلته الكبيرة في عالم النشر والثقافة والأدب .. وإن إنجازه سيظل محفوراً في وجدان الكويت والمثقفين. وكنت سوف أحزن كثيراً .. لو كتب هذا الكتاب مؤلف آخر.. أو كاتب آخر .. بلا شك كانت سوف تذبحني الغيرة .. لأن لدي أفكاراً كثيرة أردت طرحها وتحليلها للقراء. ولذلك أشعر أنني أحد الكتاب الأكثر قرباً من الربيعان .. وهذا يمنحني فرصة كبيرة للتعبير عنه بصدق .. دون مبالغة أو إطراء لا طائل منه. وكثيرٌ من الكتاب شعروا بالمرارة والأسى .. لأن بعض ما كُتب عنهم لا يجسد معاناتهم أو شخصيتهم الحقيقية .. و لم يكن قريباً من أفكارهم وحياتهم. وأعتقد أنني استطعت إلى حد كبير أن أجسد صورة الأديب يحيى الربيعان .. وأصور أفكاره .. وعذاباته .. وأحلامه. فأنا أكثرهم اقتراباً من عالمه .. ومن وجدانه .. وهذا يتيح لي أن أقدم كتابي في ثقة واطمئنان إلى القراء والمثقفين والأدباء وأصدقاء الربيعان. وكذلك أهديه اليه شخصياً.. ليظل سجلاً.. ومرجعاً .. لكل من يبحث في كتب الربيعان عن حياته وشخصيته وأدبه. وأتمنى أن أكون قد وفقني الله في ذلك . مع محبتي علي عبد الفتاح مايو 2011 الكويت

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل