المحتوى الرئيسى

خبايا المدن

05/06 08:04

كانت ثمة مدينة لها أسرار وهَيْبة. مدينة قصورها من نور، وطرقاتها سندس وزهور. ولكن كان دون ذلك فرسان أشداء وقلاع حصينة وأسوار عالية. وطوال سنين عديدة ظل يجول حول الأسوار منقباً عن ثغرة ما ينفذ منها إلى مدينة الأحلام. التقى بها بعد فرقة أعوام طويلة تربو على عشرين عاما. ولكنه كان يعرف كل شىء عنها، فطالما تسقّط أخبارها متظاهرا بعدم الاكتراث. يعرف كل شىء عن زواجها وطلاقها بعد ذلك بأعوام. ولكنه لم يتشفّ فيها لأنها أبت حبه عندما صارحها به منذ عشرين عاما. صارحها وهو يذوب، صارحها وهو يرتجف. يعجب كلما عاودته الذكرى أنه بلغ من الحمق ذلك الحد الذى يدفعه لعرض الحب على ساحرة القلوب. إنه ليسخر من نفسه الآن! هل يعقل أن تستجيب له وقد كان مجرد فتى غرير لا يملك إلا أبخس متاع: حبه!. وكان هذا الحب زهيدا فالجميع يحبونها ولا جديد فى ذلك. وكان الرفض هو الجواب. الرفض المميت! الرفض البارد غير المكترث الذى أوحى له بأنه لم يشغل من ذهنها غير تلك الثوانى الخمس التى نطقت أثناءها بحكم للإعدام لا يمكن استئنافه. ابتلع بحرا بأكمله من المرارة والملح الكثيف. وعاد يجر أذياله طريدا ممرور النفس، وفى أعمق جب من أعماق ذاته دفن الذكرى المريرة وأهال عليها أطنانا من الأحزان. وتزوجت بعد ذلك شابا أنيقا يليق بها، ثم كان الطلاق بعد ذلك لأسباب يجهلها، وإن كان على ثقة بأن زوجها هو المُلام. وعلى غير انتظار تجدد لقاؤه بها فى إحدى حفلات الزفاف. وكان قد ذهب إليها غير مُكْترث بعد أن أوشك مرارا أن يعتذر، ولا يدرى لماذا ذهب حتى الآن!. هناك رآها... ومن أعماق الجب السحيق نفضت الذكرى نفسها ليصارح نفسه فى غير دهشة أنه لم يزل يهواها. كان الآن رجلا فى منتصف العمر حقق نجاحاً لا بأس به، لكنه لم يتمالك إلا أن يشعر بالهيبة والارتباك وهو يتقدم منها مُحيّيا. وجرى الحديث بينهما فى صعوبة إلا أنه عرف موضع عملها على الأقل، وعاد إلى مقعده وهو يرتجف. كان عزف الموسيقى صاخبا وأشد منه تلك الطبول الوحشية التى تتردد فى صدره. فى الصباح التالى مضى إلى موضع عملها واستقبلته بابتسامة متسائلة ولم يكن بحاجة إلى وقت طويل ليذوب بين يديها. هذه المرة كانت على استعداد لأن تسمع منه، وكان ما سمعته يُرضى خيلاءها، فالمرأة فى سن الثامنة والثلاثين لا تتجاهل عاشقيها كما تفعل ابنة العشرين. هل قال لها إنه لم يزل متيما بها؟ هل زعم أنه لم يتزوج بعد إلا لأن شمسها كانت تكسف بلا رحمة مئات النجوم الشاحبة؟ هل قدم لها جواز سفره فى هيبة ووجل سائلا إياها أن تمنحه تأشيرة المدينة الحلم!. هل فعل كل هذا وأكثر؟ يقولون إنها مطلقة وهو لم يسبق له الزواج، فيقول إن المحار لا يمنح اللؤلؤ إلا بعد آلام مروعة! ويقولون إنها لم تعد تناسبه فقد ناهزت الثامنة والثلاثين فيرد باسما أن الزمن لا ينال من الساحرات!. اتفقنا؟. وكانت ليلة عرسه. راحت تتأبط ذراعه ولاحظ فى قلق أنها لا تكاد تشعر به وتشرد كلما توجه إليها بالحديث، لكنه راح يلتمس لها الأعذار. واهتز من الأعماق بينما كانت الموسيقى المعتادة تصدح بأغانى الزفاف. هى شمسه الخاصة وإن كانت لا تمنحه دفئا كيدها التى بدت له باردة متحفظة. هو فى الحقيقة لا يثير اهتمامها كثيراً ولكنه يطمح أن يفلح فى ذلك يوما ما. مضيا معا إلى داخل الحفل وتبارى الجميع فى إظهار المرح وعبثاً ما حاول أن يجذب عينيها الشاردتين. أضواء ملونة. أعلام للزينة. زهور تتناثر فوق الرؤوس. ألسنة اللهب التى يحمل مشاعلها الرجال تتراقص من حولهم والوهج الأحمر يلثم الوجه الجميل. كانت الفتيات يتبارين فى الرقص على الأنغام السعيدة، والأيدى لا تكف عن التصفيق. واعتصر قلبه ألم صارخ وهو يفكر أن العمر قد انقضى أغلبه دون مبرر، وقد كان يسيرا أن تنعم بحنانه لو استجابت له عندما صارحها بحبه منذ عشرين عاما. وقال لها ذلك. ألا ليتك تجاوبت معى منذ عشرين عاما؟ أليس محزنا أن يضيع العمر سدى!. كان الضجيج قد بلغ حدا مروعا فهزت رأسها فى شرود دلالة أنها لم تسمع. علا صوته ليُسمعها وسرعان ما أدرك أنها سمعت حينما انسحبت تلك النظرة الشاردة من عينيها لتفسح نظرة متمردة متوحشة. قالت بصوت مرتفع سمعه بجلاء رغم الصخب المروع: هل تعايرنى بطلاقى؟ تذكر أنك توسلت ذليلا حتى تفضلت عليك بالقبول. راح يرمقها فى انزعاج. لم يكن ردها العدائى المُفْحم هو سر انزعاجه الوحيد. وقف يتأمل ملامحها التى تبدلت إلى شراسة شوهت ملامح الوجه الجميل. وأحس للمرة الأولى أنه يراها دون قناع. كانت عيناها تقدحان شررا. لم يحاول أن يشرح لها أنها لم تفهمه حقا. وأن هذه الكلمات التى أغضبتها كانت – دون أن تدرى – أجمل كلمات سمعتها فى حياتها. لم يقل لها ذلك، وإنما راح يقرؤها! يقرأ على سمتها كل تلك المعانى التى فهمها الجميع سواه. وكأنها لغة مجهولة منقوشة على معبد قديم ثم استطاع فجأة فك رموزها. رآها باردة كالثلوج، موحشة كالصحراء، متبتلة فى محراب الذات. طيلة أعوام عديدة كان يخال النقوش الغامضة قصائد وأسفارا. فما أضيعه حينما تكشفت له معانى تلك النقوش!. تساءل وهو يشيح ببصره عن المعبد القديم: متى ينتهى هذا الحفل الصاخب الذميم؟ كانت المدينة مفتوحة بلا أبواب، بلا أسرار، بلا حجب. الصمت يشى بمصرع الحرّاس. مضى يجوب المدينة فى وجل. لم يشاهد سوى الخرائب الممتدة والبُوم السود ورماد الحرائق فى كل مكان. [email protected]  

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل