المحتوى الرئيسى

السوق والأخلاق العملية

05/04 06:57

محمد محفوظ بوصفي كاتباً في جريدة وطنية كبرى ، تأتي لي باستمرار رسائل إلكترونية عديدة ، تطالبني بالحديث حول بعض القضايا العملية والحياتية التي يتعرض إليها أبناء الوطن والمقيمون .. وكذلك أستقبل مكالمات هاتفية تسرد علي بعض المشكلات التي تعرض إليها المتصل في السوق أو الحياة .. والجامع المشترك في كل هذه الشكاوى هو تراجع ما يسمى الأخلاق العملية من قبيل الصدق والأمانة، وغياب الالتزام بالمواعيد والعهود، والغش في الأسواق وبالذات في المحلات التي يحتاجها المواطن والمقيم في فترات ولحظات معينة .. إذ شكا لي قبل يومين صديق تونسي مقيم ، ما تعرض إليه في ورش تصليح السيارات من تلاعب في الأسعار وقيمة العمل ، وكذلك في غشه في العمل ذاته .. فهو دفع مبلغا مرتفعا من المال ، إزاء خدمة لم تنجز بشكل صحيح .. والذي اتضح لي من هذه الشكوى أن هناك قطاعات في السوق المحلية ، تسيطر عليها عمالة عربية أو أجنبية معينة فتتعاون مع بعضها البعض في التحكم بالأسعار بدون رقابة ، وكذلك في تدني مستوى الخدمات .. ما يعرض المواطن أو المقيم إلى تلاعب غير طبيعي .. فالعمل الذي يكلف مئئة ريال فقط كحد أقصى ، يقوم هذا القطاع بالنصب أو التلاعب على الزبون ويطالب بمئتي ريال .. والذي يثير الاستغراب أن ارتفاع قيمة العمل غير المبررة ، هو أن إصلاح العطل أو العمل الذي قام به هذا العامل أو الفني ، لم ينجز على أكمل وجه .. فالمستهلك من المواطنين أو المقيمين يتعرض في معاملة واحدة إلى غشين : غش في السعر والتكلفة ، والغش الآخر في العمل وجودته .. والقصص والأمثلة حول هذه القضايا عديدة ومتواترة .. وكلها تؤكد بطريقة أو بأخرى تراجع المهنية والصدق وكل عناصر الأخلاق العملية في السوق المحلية .. ونحن هنا لا نعمم إذ لا زالت هناك صور مشرقة أيضا على صعيد المعاملة وإنجاز الأعمال .. ولكن هذه الصور المشرقة والإيجابية ، لا تغطي ما يتعرض إليه أبناء الوطن وبالذات الطبقة الفقيرة والطبقة الوسطى ، من تلاعب وغش وغياب إتقان وجودة العمل .. مما يجعل سوقنا الوطنية تتعرض إلى اهتزاز على المستوى الأخلاقي .. إذ لا يأمن المواطن أو المقيم حين يراجع بعض قطاعات السوق على ماله أو ما ذهب للحصول عليه .. وأعتقد أننا جميعا عشنا بطريقة أو بأخرى تجربة على هذا الصعيد .. فنذهب لشراء قطعة أو سلعة ، فيتلاعب بنا العامل أو الموظف فيعرض سلعته بسعر مضاعف، أو يقوم الفني بتأدية عمله وفق شروط دنيا .. ما يجعل الإنسان وهو يذهب إلى السوق وبالذات إلى محلات بيع القطع والسلع الفنية ، إنه بحاجة إلى يقظة تامة وتحفز مستمر ، حتى لا ينصب عليه أحد ، أو يقع في فخ أحد ضعاف النفوس.. والذي يساعد ضعاف النفوس والذمم ، على إنجاز أعمالهم بالاحتيال والتلاعب هو سيطرة بعض العمالة الأجنبية أو العربية على بعض القطاعات وجوانب السوق .. ما يوفر لديهم حالة من التخادم المتبادل .. والضحية الدائمة المواطن أو المقيم الذي يحتاج إلى هذه السلعة أو تلك البضاعة .. مع غياب تام لمراقبة رسمية أو أهلية على هذه القطاعات ، ما يراكم من الأخطاء وعملية التلاعب ؛ بحيث نصل إلى مستوى أن نتحدث ونحن المجتمع المحافظ والذي نعيش كل مظاهر التدين والالتزام الديني العامة ، عن تراجع مستوى الأخلاق العامة وبالذات في الأسواق والمعاملات والإجراءات العملية بين الناس .. وكأننا نعيش عملية فصل ميكانيكي بين صلاتنا وتهجدنا في المساجد ، وبين معاملاتنا وتجارتنا في السوق .. ففي المسجد نحن من المصلين والداعين لرب العالمين والطالبين لغفرانه، والباكين على ذنوبنا وأخطائنا ، وفي السوق ننقطع عن كل هذه الصفات ونمارس عملنا في السوق بنزعة الاستئثار والجشع والغش والكذب وعدم النصح .. إن هذا التعايش المتناقض بين ما نقوم به في المساجد ، وما نمارسه في السوق هو المسؤول إلى حد بعيد عن تراجع قيم الأخلاق العملية في معاملاتنا وأسواقنا .. ونود في هذا السياق ، أن نؤكد على النقاط التالية : 1- في سياق المحافظة على أمننا الوطني والاجتماعي ، نحن بحاجة إلى معاودة النظر في حالة أن تسيطر عمالة أجنبية معينة على قطاع معين من قطاعات السوق ... لأن هذه السيطرة لا تنسجم ومقتضيات أمننا الوطني والاجتماعي .. كما أنها تساهم في تراجع مستوى المهنية والجودة والإتقان في بعض القطاعات والمجالات .. والذي يزيد هذه الإشكالية هو أن الكثير من هذه العمالة ، تأتي إلى وطننا وهي بدون أية مهارة عملية .. فتتعلم لدينا وتكسب الخبرة في أسواقنا ما يجعل مستوى العمل والمهنية في أسواقنا متراجعا ومتدنيا .. لهذا فنحن بحاجة إلى اشتراط مواصفات ومعايير محددة لمن يريد أن يعمل في السوق السعودية .. وفي ذات الوقت نحول وفق إجراءات واحترازات قانونية ، دون أن تتمكن جالية معينة من السيطرة العملية على قطاع معين في السوق السعودية .. وكلها إجراءات واحترازات ، تستهدف الحفاظ على أمننا الوطني والاجتماعي ، والحؤول دون تدني مستوى الأخلاق العملية في أسواقنا ومراكز العمل العام .. 2- إعادة إحياء ووفق شروط جديدة مشروع السعودة ، لأن التجربة الماضية والحالية لمشروع السعودة ، أبانت عن ثغرات عديدة ، حولت هذا المشروع الوطني المهم ، إلى مشروع أسمي ، بدون حقائق فعلية .. لهذا فإننا نشعر بأهمية العمل على إعادة مشروع السعودة ، وبما يناسب حاجات ومتطلبات السوق ، ووفق معايير حازمة ودقيقة ومفيدة لجميع الأطراف ( أي الدولة والشاب السعودي الباحث عن العمل ورب العمل السعودي ) .. ومشروع السعودة إضافة إلى دوره في تعزيز الأمن الاجتماعي والوطني ، هو يساهم في الحد من تراجع المهنية والأخلاق العملية في السوق .. وذلك لأن الشاب السعودي هو جزء من هذا المجتمع ، وتعلم في مدارسه ، وتربطه علاقة دائمة مع أبناء وطنه ومجتمعه.. عكس العامل الأجنبي الذي جاء من بيئة اجتماعية وثقافية مختلفة ، ولا تربطه علاقة دائمة بهذا المجتمع والوطن .. فهو يعمل على جمع ثروة أو إمكانات مادية في أسرع وقت ممكن للعودة إلى دياره ووطنه .. وأعتقد أن نجاحنا في مشروع السعودة ، سينعكس إيجابيا على كل مجالات حياتنا الوطنية .. لهذا فإن هذا المشروع ، بحاجة إلى إيلائه أولوية وأهمية خاصة ، وسد كل الثغرات المكتشفة من خلال التجربة الماضية، وزيادة وتيرة الشروط التي تسمح باستقدام عمالة غير ماهرة إلى الوطن .. 3- تفعيل الهيئات والقرارات الرقابية على السوق والمنشآت المختلفة .. إذ إن ما ينقصنا على الصعيد الوطني ليس وجود قرارات أو هيئات تمارس مسؤولية الرقابة والمحاسبة ، إن ما ينقصنا على الصعيد الواقعي هو تفعيل تلك الهيئات والقرارات التي أعلن عنها في مناسبات وطنية وإدارية عديدة .. ففي أدراج كل الوزارات والهيئات الإدارية مئات القرارات التي توضح مجال مراقبتها وسبل هذه الرقابة ، وأهمية هذه الرقابة لتقويم الأداء الوظيفي والعمل المهني في المملكة ، ولكن غياب الإرادة والعزم والتصميم والخلل الإداري الواضح ، كل هذه العناصر تجعل كل هذه القرارات مجردة وبعيدة عن فضاء التنفيذ .. لهذا فإن ما ينقصنا هو إعادة الحياة إلى تلك الجهات الرقابية والقرارات التي تحاسب كل مقصر .. وإعادة الحياة إليها ، بحاجة إلى روح إدارية ووطنية جديدة ، حتى نتمكن جميعا من تطوير واقعنا المهني والوظيفي ، وحتى نحول دون أن يستمر ضعاف النفوس في تخريب اقتصادنا الوطني .. وعلى كل حال فإن تنقية أسواقنا من ظواهر الغش والتلاعب بالأسعار وغياب أو تدني مستوى العمالة التي تباشر أعمالها في أسواقنا وغيرها من الظواهر السلبية ، بحاجة إلى رؤية وطنية متكاملة ، نحسب أن النقاط الثلاث المذكورة أعلاه ، هي مضمونها الحقيقي .. ولكي تتحول هذه الرؤية إلى واقع عملي ، نحتاج إلى روح جديدة ورقابة صارمة ومحاسبة كل المسيئين مهما علا شأنهم أو كانت حيثياتهم الاجتماعية.. * نقلا عن "الرياض" السعودية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل