المحتوى الرئيسى

د.يحيى مصطفى كامل يكتب:ثلاثون عاماً من التدمير الشامل..كشف حساب حسني مبارك

05/03 13:31

في المخيلة الشعبية، حين يجلس عبده روتين إلى مكتبه في أرشيف عطن في قبوٍ تأكله الرطوبة و الدرن في مصلحةٍ متهالكة منسية ينسى أو لا يلتفت إلى تفاصيل البؤس في واقعه فتراه عاصباً رأسه بمنديله ذي المربعات الصفراء و الخضراء حاكاً رأسه بينما يعمل فكره و يفني نظره في ملفاتٍ متآكلة مصفرة الأوراق منقباً عن خمسة قروش أكلها عليه الباشكاتب؛ هو لا يدرك مدى غبن  واقعه المسلوب الكرامة و المهضوم الحق بما يتخطى هذا المبلغ الضئيل و أنه لايحتاج لملفاته إذ يكفي أن ينظر حوله و في حاله ليجد دليل إدانة النظام بل و ربما المجتمع بأسره...كذلك حال من يبحث في جرائم مبارك و أمواله بعقلية و أسلوب عبده روتين أو المفتش كرومبو في أحسن الأوضاع! جميل طبعاً، بل و ضروري، أن نبحث عن كل قرشٍ منهوب من ثرواتٍ مهولة تم تهريبها خارج الوطن و صرفها على مستحقيها، إلا أننا في موسم الثورة المفترج هذا  لا ينبغي أن نربط محاكمة مبارك  و إدانة عهده بقرائن كتلك إذ يكفي أن نلجأ إلى سياسة بسيطة و شهيرة روج لها إعلام مبارك المنحط كلما حلا له سم ابداننا على عدد السكان المتنامي ألا و هي: أنظر حولك!تأمل في واقع مصر إبان عهد مبارك و ما لحق بها من انحطاط و ترهل طوال عهده الراكد الآسن.في المجال الاقتصادي، هل يحتاج المواطن إلى وثائق ليبصر علامات و أدلة الإفقار و الإرهاق على عامة الشعب المصري و تدني مستوى معيشتهم إلى درجةٍ بات فيها خط الفقر حلماً بعيد المنال أو مستحيله ؟ أم تعوز هذا المواطن الحيلة و يكلفه البحث ما لا يطيق في محاضر و مضابط المجالس الغير نيابية الغير منتخبة و الوزارية ليكتشف وقائع التبديد الرهيب في ثروات البلدً؟! من الذي ترك أسواق بلاده نهباً مباحاً للسلع الأجنبية و فرط  في ممتلكات الشعب من مصانع  إلى أراضٍ إلى موارد طبيعية بلا تفويضٍ مشروع؟ من  حارب الصناعة المحلية الضخمة و لم يحمها بل فككها و مكن منها حلقة المنتفعين حوله ممن يمتون بصلات قربى لأسرته الذهبية في أحيانٍ كثيرة حتى احتكروا صناعاتٍ بأكملها كالحديد و الصلب على سبيل المثال لا الحصر؟باعتباره رئيساً، أليس مبارك مسئولاً عن كل ذلك الخراب و التصحر الاقتصادي؟!في مجال السياسة الداخلية، أليس مبارك و نظامه هما اللذين أفسدا الحياة السياسية في مصر؟بالتأكيد! لقد تعهد المخلوع أحهزة الأمن على اختلاف أطيافها بعنايةٍ خاصة و اعتمد عليها قاعدةً لسلطته فاقدة الشعبية و الشرعية...كان يثق فيها و يستمع لها و يكثرها منوعاً و يغدق عليها ببذخ و يربيها  لخدمته و عائلته و الطبقة الجديدة حيث أطلقهم على شعبه كالكلاب المسعورة تنهش في لحمهم و وعيهم. لقد غرست تلك الأجهزة المتكاثرة  بشكلٍ سرطاني الرعب في الشعب حتى استوطن نفوسهم و مخيلاتهم و جرَّفت بالتدريج كل المعاني الطيبة التي توارثها مجتمعنا  ثم لم تكتفِ بذلك إذ التفتت هذه الأجهزة إلى  شتى التشكيلات ومشاريع التنظيمات السياسية التي افلتت فتمكنت من شق أرض القمع و تحدي حصار الجهل و انعدام المبالاة  فانقضت عليها اختراقاً و إفساداً و ابتزازاً و رشوةً  ونفثاً للانشقاقات و التشرذم فأتت ضامرةً هزيلةً مبتسرةً  تتبع النظام كذيلٍ أو طفيلي ترضى منه بالفتات و تتلقفه عوضاً عن تمثيلها لأولئك الذين ادعت الحديث باسمهم.أما خارجياً فقد سخر مبارك  مصر شعباً و تاريخاً و قدراتٍ لخدمة المشروع الأمريكي دفاعاً عن مصالح إسرائيل كغلاة الصهاينة ...كان الخيار أمامه سهلاً  واضحاً و بسيطاً، إما مصالح شعبه و مستقبله أو مصلحته و استمراره هو، و بالطبع اختار الأخير؛ و ليت موقفه المتآمر كان مبدعاً أو رائداً ذا حضور، لا ، فقد اكتفى بدور ترسٍ حقير و تابعٍ تافه حيث دعم الموقف الإسرائيلي دائماً و حارب كل حركات المقاومة و تآمر عليها؛ لذا فلا  يغيظني أحد قدر أولئك الذين يعدون إحجامه عن خوض الحروب إحدى مناقب مبارك، إذ بغض النظر عن مشاركة قوات مصرية في حرب الخليج علينا أن نذكر الجميع بأن الغرض من أية حرب هو فرض الإرادة، و على ضوء ذلك تفهم حروبنا السابقة مع إسرائيل كصراعٍ حتى الموت لفرض الإرادة و البقاء... من هذا المنطلق فكارثة حكم مبارك تتجسد في خسارته الحرب دون   دخولها بإذعانه التام و الغير مشروط لإرادة إسرائيل! أنا لا أرى في ذلك سبباً للعجب، فرئيسٌ لا يؤمن بشعبه بل و يحتقره و يعيّره بكثرة الإنجاب و الكسل  لهو رئيسٌ مهزومٌ بالضرورة،  ولكي لا  أجانب الصواب تماماً و أقع في الكذب فقد خاض مبارك حرباً شرسة  و طويلة، حرباً أتت على الأخضر و اليابس ضد شعبه و بلده خلفته حطاماً ...أنا على يقين من ان أبسط تفحص للواقع الاجتماعي يقود مباشرةً إلى هذه النتيجة، إذ على أساسٍ من الإفقار الاقتصادي ترسخ تهميش اجتماعي بشع سحق السواد الأعم من السكان و إنا لنرى مباركاً تعامل مع شعبه كأي قوةٍ استيطانية محتلة حين تحصن وراء فيالق أمنه في بضعة مستعمراتٍ في السواحل و المنتجعات السياحية منعدمة الصلة بالواقع المصري حيث الثراء الفاحش و البذخ السفيه. لقد ترك بقية الشعب ليأكل بعضه بعضا وحاربه بشتى الوسائل بدءاً من الإفقار الاقتصادي وصولاً إلى الحرب الكيماوية ممثلةً في الأغذية المسرطنة و الفاسدة، و إذا كان هناك ما يثير الدهشة فهي تجربته الرائدة و مشروعه الضخم لهندسة المجتمع و إعادة تشكيله بتحطيم البنية الطبقية التقليدية من مثيل إفقار الطبقة الوسطى و إذابتها تدريجياً  وصولاً إلى إيجاد طبقة جديدة مرتبطةٍ به من البلطجية بمئات ألوفهم يعيشون على هامش المجتمع و يعينون النظام في حربه على الشعب.و قد حظيت  السيطرة الفكرية باهتمامٍ خاص من مبارك و نظامه، إذ  بالإضافة إلى التخريب الممنهج للتعليم  بحث و نقب عن كل ذي فكرٍ متخلف و كل المستعدين لبيع أنفسهم و ملكاتهم و علمهم من الكتبة و حمله الشهادات العالية  فنقبوا في خرائب التاريخ و كتبه الصفراء التي تراكمت عليها العثة في خزائن النسيان و بعثوا كل ما هو مثبط للهمة مشيعين بذلك ثقافة الهزيمة و الحلول الفردية و العدمية و اليأس، أي أنه باختصار أخرج أسوأ ما في الناس. ألأخطر من ذلك أنه في حين فشل المستعمر في تطبيق سياسة ’فرق تسد‘   حظي مبارك بقدرٍ من النجاح إذ عمد إلى ضرب و تفتيت صخرة الشعب المصري و لحمة نسيجه الفريدة التي لا مثيل لها في المنطقة و ربما العالم فرأينا الشعب وقد أخذ في التحلل إلى طوائف تتقاتل ثم مهووسي أندية كرة القدم تقطع بعضها البعض و الكل خائفٌ  من الكل... و كأن كل ذلك لا يكفي فقد ترك مبارك وراءه تركةً ثقيلة ، ميراثاً بشعاً من القبح و الترهل و خراب البنية التحتية ( على الرغم من كل التبجح و سم الأبدان فيما يتعلق بالأخيرة و خاصة التليفونات، موضوع مبارك الأثير)... و لما  كانت رئاسته بنت الصدفة و أم العشوائية و في بلدٍ تتطبع سياساته و مرافقه بجبلة الرئيس دمغ هذا الرجل الذي اعتمد الجمود سياسةً الفضاء و الأمكنة بانعكاس ظله البليد القبيح و نضح  على البلد  عشوائيةً و شللاً شبه تام حتى غرقت البلاد تحت طوفان الزبالة و اسودت مبانيها القديمة من الإهمال.مع إيماني بحرية الرأي فإنني أرى أنه لم يعد مقبولاً التماس الأعذار له و لم أعد أطيق دعواتٍ نشاز تخرج علينا مطالبة ً بالرأفة به: ’ حرام، الرجل كبر...‘!أولاً، إذا كانت السن قد تقدمت به فكان من الأبدى أن يرحل من تلقاء نفسه لا أن يضطرنا إلى دفعه دفعاً بينما هو يخور و يرفس. ثانياً و هو الأهم، وجب التذكير بأن الرحمة لم تعرف طريقها إلى قلب هذا الرجل عندما كان يعصف فاتكاً  بكل من سولت له نفسه بالوقوف في وجهه متحللاً من كل قانونٍ أو إنسانية كما لم يعرف عنه أنه ذرف دمعةً  واحدة أو أفلتت منه كلمة مواساة يتيمة على زهرة شباب هذا البلد الذين يقضون نتيجة إهمال حكوماته المتعاقبة أو هاربين من جحيمٍ هو صانعه...المسألة ليست مسألة شفقة و رحمة و إنما عدالة..  بعد كل ما سبق، هل نحن بحاجة إلى التحري عن جرائمه؟! ألا ترون أن كارثة مبارك تتخطى بضعة فواتير و أذونات صرف؟!لم يستولِ مبارك على أموالنا فقط بل سرق منا و طناً و أعماراً و باعنا إلى الأعداء بثمنٍ بخسٍ وضعه في جيبه و جيوب أعوانه...هزمنا و كسر نفوسنا و غرس  فينا قهراً و مرارةً لا تنضب...لقد عرف التاريخ طغاةً عديدين بالغوا في تصوراتهم عن مكانة بلدانهم و قدراتها، أما مبارك، الطاغية الكسول التنبل  فقد رأى مصر أصغر مما هي فأهانها و قزَّم دورها. لقد نجح مبارك نجاحاً مبهراً في وضع منظومة فسادٍ مترابطة بدت لوهلةٍ كما لو كانت منيعة فأنجبت مجتمعاً ممزقاً مسخاً و خلقت كابوساً عشنا فيه و ما نزال نصارع فلوله. ولكن لأن الحياة تتخطى كل الحواجز و السدود و لأن مصر أكبر من مبارك   فقد أتت هذه الثورة لائقةًً بمكانة مصر و حجمها محررةً لنا من مبارك الضئيل.لست ساذجاً  لأتصور ان القصة انتهت، فأنا أدرك أن الطريق أمامنا طويلة و المجهود الذي ينتظرنا شاق للتخلص من آثار حقبته و ما خلفته من انهيار؛ إلا أن البداية لن تأتي بدون تصفية حسابنا معه.ليس ذلك خياراً و إنما هو حق دماء و الشهداء و الثكالى و الأرامل و باسم الدموع و الآلام و القهر و الإهانات التي تصرخ طالبةً بالقصاص.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل