المحتوى الرئيسى

> «بابا حسني.. وماما سوزان»

05/02 21:06

د. إمام عبد الفتاح إماماستمعت في حلقة تليفزيونية إلي السيد أحمد شفيق رئيس الوزراء السابق قبل تنحي الرئيس بأسبوع يرفض فكرة «الرحيل» اعتماداً علي مبرر بالغ الغرابة هو أن الرئيس «أب» للجميع، هل يمكن أن يطرد الأب من داره..؟! يقول السيد شفيق للمذيعة: افرضي أنني تشاجرت مع والدي، فهل أقبل أن يقول أحد لأبي: أترك المنزل وارحل؟ ليست هذه «قيم الشعب المصري»، وكأن أصحاب الأصوات العالية التي تطالب بالرحيل لا تعرف شيئاً عن «قيم المجتمع المصري»! والواقع أن الفكرة التي ينادي بها رئيس الوزراء تعبر عن خلط واضح بين «الأخلاق.. والسياسة» فالأب والأم والأخ... إلخ مفاهيم أخلاقية تستخدم فقط في نطاق الأسرة ولا علاقة لها بالسياسة وأنت لا تجد مثل هذا الخلط إلا في المجتمعات العربية وحدها: فالأخ العقيد، والأخ علي عبدالله صالح.. وعندما وصل بوش إلي الكويت انطلقت الصيحات والهتافات مرحبة بـ «بابا بوش» في الوقت الذي لا يستخدم فيه الأمريكيون هذه الألفاظ علي الإطلاق لأن «بوش» حاكم الدولة وليس أباً في عائلة، وكثيراً ما ناقشت البعض في خطورة هذه الألقاب التي تحيل الحاكم إلي ديكتاتور ــ وهذا كله يعود في النهاية إلي نظم الحكم السيئة في جميع الدول العربية التي تستمرئ هذا الخلط الذي يساعد الحكام علي تشييد نظم استبدادية تفوق أي استبداد في التاريخ. ولقد كان الفيلسوف الإنجليزي جون لوك «1704 ــ 1632» هو أول من نبهنا إلي أنه يتحتم علي الابن احترام والده وعدم التفوه بألفاظ نابية أمامه ــ لكن ذلك في الأسرة، أما إذا دخلا الانتخابات ونجح أحدهما علي مبادئ المحافظين ونجح الآخر عن حزب العمال فإن من حق الابن أن ينقد ما قاله الوالد ويبين تفاهته، ولا يحق للوالد أن يعترض لأنه هنا ليس والداً بل عضو في برلمان سياسي، ولهذا السبب لم نسمع أحداً في المجتمع الإنجليزي يتحدث عن «ماما تاتشر» ويصفها بأنها أم الإنجليز! ثم جاء السادات ــ رحمه الله ــ ولم يمل باللعب علي أوتار الخلط بين الأخلاق والسياسة فيسمي نفسه تارة «كبير العائلة» وتارة أخري «رب الأسرة المصرية» أو يصف المواطنين بأنهم «أولاده»! فذلك أمر غير جائز، ذلك لأننا قلنا إن رئيس الجمهورية هو إلي جانب منصبه في موقع الوالد من الأسرة المصرية، وأن المواطنين هم أبناؤه، لوجدنا أن أمثال هذه العبارات أو النعوت ــ تحمل عنصرين متناقضين في آن معاً، الأول: هو أن الرئيس يمكن عزله ممن انتخبوه إذا هو لم يحقق لهم ما انتخب من أجله، والعنصر الثاني: هو أنه لا يمكن عزله بحكم أنه والد شأنه شأن أي والد في أسرته.. قارن كتابنا «الأخلاق.. والسياسة في فلسفة الحكم» ص: 48، ويقول الفيلسوف الألماني «هيجل» إن المبدأ الذي ترتكز عليه الحكومة الأبوية هو أنها تنظر إلي المواطنين علي أنهم مجموعة من القُصَّر. وعلينا أن نتجه أيضاً إلي الجانب الآخر من الصورة وهو وصف المجتمع بأنه «عائلة» واحدة الذي يتردد كثيراً ويهلل له البعض ــ مع أنه بالغ الخطأ، لأن الأسرة أو العائلة «مفهوم أخلاقي» وليس مفهوماً سياسياً، وهو مؤسسة يرتبط أفرادها بمجموعة من القيم والمفاهيم الأخلاقية كالواجبات التي تنظم العلاقة بينهم، ولا تحكمها قوانين كما هو الحال في الدولة. ومن ثم فلا يجوز أن يقال إننا جميعاً «أسرة واحدة» أو «عائلة كبيرة» يجمعنا رأي واحد وأن اختلاف الآراء وتعددها «مخطط» يستهدف تمزيق هذه الوحدة وتفكيك عري الأمة! وهكذا يصبح المخالفون متآمرين غير وطنيين وتمولهم جهة أجنبية! لقد سئمنا لعبة السياسة في بلادنا عندما ينقلون مفاهيم ــ كما هي دون تقنين ــ للتلاعب بها في ميدان السياسة، كفكرة «الأب» أو «الأخ» أو «العائلة الواحدة».. وأحياناً مفاهيم دينية أيضاً والقصد منها دغدغة مشاعر الناس، واللعب بعواطفهم التي تثيرها هذه المفاهيم، وينخدع بها السذج دون أن ينتبهوا إلي أن هذه الأفكار البدائية كانت موجودة في القبيلة، حيث كان شيخ القبيلة هو بمثابة الأب، وكبير العائلة ورب الأسرة والقبيلة في العائلة بل إنها تطورت منها بالفعل فليس مجتمعاً متقدماً ذلك الذي يصف فيه الحاكم نفسه ــ أو يصفه الناس بأنه أب أو رب الأسرة أو أن يصف فيه المجتمع نفسه بأنه «عائلة» أو أسرة يحميها رأي واحد. فالإجماع كما يقول برزان رسل بحق «دليل علي تخلف المجتمع» ولهذا لا تجدها في المجتمعات المتقدمة، فلم تسمع أحداً في المجتمع الإنجليزي أو الفرنسي أو الأمريكي.... إلخ يصف نفسه أو يصفه غيره بأنه «بابا كارتر» أو «بابا» بوش أو ديجول أو تشرشل.... إلخ، نحن وحدنا أصحاب هذه «الاختراعات» التي هي علامة لا تخطئ وعلي تخلف المجتمع وسمة أساسية من سمات المجتمعات البدائية! ولهذا فينبغي ألا نندهش عندما يروي أحمد بهاء الدين في مذكراته أنه ذهب يناقش السادات يوماً، يطلب إليه أن يعدل الدستور ففاجأه السادات بقوله: اسمع يا أحمد: أنا مش محتاج دستور علشان أحكم مصر، أنا وعبدالناصر آخر الفراعنة.. واللي بعدي يمكن يحتاجوا دستور عشان يحكموا، إنما أنا مش محتاج دستور يا أحمد. بقي أن أقول: إن كثيراً من الثورات تتحول إلي إرهاب ورعب كما حدث في عهد عبدالناصر مثلاً ويكفي أن أسوق تفسير الفيلسوف الألماني العظيم «هيجل» لتحول الثورة الفرنسية إلي إرهاب فهو يري أن سبب هذا أنها رفعت شعارات أخلاقية جميلة ونبيلة عن العدالة والمساواة والحرية والإخاء.... إلخ، لكنها ظلت مفاهيم أخلاقية ذاتية، لم تتحول إلي قوانين تحكم وتطبق، فكانت النتيجة الإرهاب لأن المفاهيم الأخلاقية ظلت في دائرة المجردات مجرد شعارات مرفوعة بلا مضمون! وفي حالة الثورات تجدهم يكثرون من المفاهيم الأخلاقية فتراهم يتحدثون عن «الثقة» و«الطهارة» و«البقاء الثوري» و«العيب».... إلخ، وتتحول هذه المفاهيم بسرعة وببساطة إلي أضدادها ما لم تتحول إلي قوانين! ولكن المبدأ الذي نسير عليه وهو ما فعله المفكر والاقتصادي الفرنسي «فرانسوا كيناي» «1694 ــ 1774» عندما سئل: < ماذا تفعل لو كنت ملكاً؟ ــ لا أفعل شيئاً!. < ومن الذي يحكم؟! ــ القوانين! فينبغي أن تكون القوانين هي الركيزة الأساسية في المجتمع وليست المفاهيم الأخلاقية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل