المحتوى الرئيسى

جمعة التطهير!

05/02 16:45

بقلم: المستشار فؤاد راشد دفعت مصر الدم ثمنًا عظيمًا هائلاً لحريتها وكرامتها, وكان الدفع مقدمًا, فلا أمريكا تقدمت بأساطيلها وطائراتها ولا حلف الناتو زمجر وهدَّد وتوعَّد, وإنما هبَّت أرض الكنانة في يوم عزيز، فطهَّرت نفسها بالدم من صمتٍ طال، وصبر على جيش الجراد المتوحش بدا بغير نهاية, ومن حق مصر أن تنال حقها كاملاً غير منقوص تمامًا، كما دفعت الثمن كاملاً غير منقوص.   غير أن ما يبدو لليوم أن بقايا الجراد المتوحش ما زالت تقاوم بضراوة, وهو أمر مفهوم؛ لأن ما يفرِّق الإنسان عن الوحش في السلوك بين الحرام والحلال والمباح والمحظور هو الضمير؛ فإن مات الضمير فنحن أمام وحوش كاسرة أصابها سعار؛ لأنها حرمت غنيمة تفوق الخيال, ولنا أن نتخيل أن بعض "الأغوات" في مجال الأمن وفي مجال الإعلام وغيرهما  كان الواحد منهم يحصل رسميًّا على أضعاف راتب الرئيس الأمريكي حاكم أغنى دولة على وجه الأرض, وكان هذا "الرسمي" لا يكفي في بعض الأحوال، فتمتد الأيدي لنهب ما تيسر من أرض الناس ومال الناس على نحو فاق خيال أكثر المتشائمين؛ حتى صار المتهم بسرقة الملايين يعد نفسه قنوعًا؛ لأن السرقات بشكل عام مليارية!.   لقد جِيء ببعض مَن لا يصلحون بحكم التكوين إلا لأدوار الاستئجار للمشاجرات من البلطجية، وصاروا في عهد رئيس فقير الموهبة؛ ليكونوا نجومًا ملأ الأسماع والأبصار, وجلس بعضهم؛ حيث جلس من قِبل رجال كبار بمؤهل وحيد؛ هو التمتع بضمير "قاطع طريق", وكان من حسن طالعهم وسوء طالعنا أن فخامة الرئيس يطرب عادةً للنغمة النشاز!.   والمتابع للمشهد العام يجد حالة بالغة العجب وإثارة الدهشة للوهلة الأولى، وإن كانت الحالة سرعان ما تجد تفسيرها المنطقي, فبعض "أعلام" الفساد ما زالوا مصممين على أنهم رجال المرحلة, والناس يصرخون عن التاريخ الأسود لهذا أو ذاك، فلا هم يستجيبون للرحيل، ولا من بيدهم الأمر نزعوهم من حيث هم، وألقوا بهم إلى حيث يستحقون, وسبب التشبث هو- فضلاً عن ضمير مات- كرامة منعدمة من الأصل، حتى إن الملايين تزأر غاضبةً على البعض، متهمةً إياه بالخيانة، فلا يحمر وجهه خجلاً فضلاً عن أن يستقيل!.   إن بعض "المشبوهين" ما زالوا في قلب الأحداث, وقد عهد لبعضهم بملفات جسام, والناس من الأصل فاقدة الثقة فيهم لتاريخهم الشائن, ولا شك أن القارئ يعرف كما أعرف، ويعرف الكافة هؤلاء بالاسم, ونحن نعلم أن لافتات المرشحين في الانتخابات تتضمن عبارات على شاكلة (ماضيه يزكيه)، وهؤلاء ماضيهم بالفعل يزكيهم، ولكن لطريق واحد هو أن يريحوا خلق الله من وجوههم إلى الأبد, ولكن لا حياة لمن ننادي.   لقد لاحظت بين قومي خلال الثورة أمرًا عجبًا، لم يقع في أي بقعة من الأرض العربية التي ثارت, وهو التشبث حتى الموت إمساكًا بالكرسي, فرغم أن الثورة المصرية العظيمة عكست روح شعبنا العظيم، فإنها عكست روح مسئولينا الذين التقطتهم عين خبير عبقري أيام المخلوع, وكأنما مر الكثيرون منهم على أجهزة كجهاز كشف الكذب أو أجهزة الأمن في المطارات؛ ولكنها هنا أجهزة "كشف الكرامة", ولك أن تلاحظ أنه ما أن نزف الدم في تونس حتى استقال البعض، وهو ما جرى في ليبيا وفي اليمن, بل جرى في سوريا التي يحكمها نظام الأسد الشبل؛ ليثبت أن هذا الشبل من ذاك الأسد, فالأب دك حماة بالطائرات والدبابات؛ ليقتل الألوف، والشبل فعل بدرعا ما فعلت إسرائيل بغزة، ومع هذا فإن هناك من استيقظت ضمائرهم، فرموا جانبًا دافعي الرهبة والرغبة، وهي في سوريا الرغبة والرعب!.. ففي كل أرض جرت استقالات مع جريان الدم إلا في مصر؛ حيث أمسك من كان يفترض أن يستقيلوا بالكراسي بيد من حديد وضمير من جلد خنزير.   وكنت موقنًا أن مبارك يستطيع أن يقتل مائة ألف، بينما يبقى الأغوات علي الكراسي صامدين لا يهتز لهم جفن ولا ترتعش من وخز ضمير يد, ولو فشلت الثورة لتحلق الأغوات حول مبارك ضاحكين مهنئين بنجاح ثورته هو ووأده الفتن ونصره المؤزر على الحاقدين على "حكمته" في الداخل والخارج, وقضائه على المؤامرة! واليوم ما زال المنطق حاكمًا وما زال بعض الأغوات في أماكنهم يتظاهرون بغير ما تُكن نفوسهم.   إن هناك أمورًا تجري هنا وهناك راسمةً صورة تثير الرعب عن ملفات بالغة الأهمية وأيدي ملوثة بشبهة العمالة للأمن وتلاحقها الاتهامات بانعدام الشرف والضمير والكرامة تمسك ببعض تلك الملفات, ومع هذا يقف من بيدهم الأمر صامتين لا نعرف لصمتهم سببًا اللهم إلا أن البعض قد اعتاد بحكم العشرة الطويلة مع نظام المخلوع على عدم التحرك إلا بناءً على تعليمات تأتي من أعلى.   إنني أطالب بوقفة مليونية في جمعة تطهير تطرح فيها الأسماء التي يجمع الناس على انعدام الثقة بها أو يتوافر حيالها شبه إجماع لتنحي عن مواقعها قسرًا وعنوةً؛ لأنهم لن يزاحوا إلا بهذا الطريق, ونحن لسنا في مقام محاكمات جنائية لنتحدث عن ضمانات لهذا أو ذاك, ولكننا في أعقاب ثورة راح ضحيتها شهداء وألوف المصابين، وتحمَّل أكثر المصريين فقرًا فوق فقرٍ خلَّفه حكم العصابة, كما أن تولي المناصب العامة إنما يُفترض حياله- بداهةً- شرط حسن السمعة، وهو أمرٌ يستحيل توافره حينما يردد الملايين انعدام ثقتهم في هذا أو ذاك!   إن الثورات تقوم محميةً بالناس، وتنجح في تحقيق أهدافها مع استمرار يقظتهم, وتفشل في اللحظة التي ينيبون عنهم غيرهم وينفضون يدهم من الأمر, فيتصرف النائب وفق رؤيته هو, وكم من ثوراتٍ قام بها الأحرار وسطا عليها لصوص الثورات, ونحن نريد لثورتنا أن تنشئ فجرًا جديدًا عزيزًا وغدًا مبشرًا وحياةً كريمةً لكل المصريين, ولا بد إذن من جمعات متتاليات، وأتمنى أن تكون أولها جمعة التطهير!.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل