المحتوى الرئيسى

القابلية للاختطاف... والجيوش

05/02 03:42

عبدالله بن بجاد العتيبي وقت للأسئلة، قبل تبادل التهاني بهذا الحراك العربي الواسع، الذي انطلقت في الفرح به المقالات والبحوث والتصريحات والمواقف السياسية إن من قبل العديد من المثقفين والكتّاب أو من قبل الدول الغربية، يحرّك الأولين إرثٌ من التراكم الغضبي متعدد المصادر، ويحرّك الآخرين مصالحٌ وطموحاتٌ تؤزها السياسة ويقود خطامها الاقتصاد، وتبحث عن أجدر الموارد. لست في وارد لوم المندفعين خلف ظاهرٍ من الأوضاع العربية طاغٍ على اللحظة التاريخية ضخم الدويّ في مسمع الدنيا، ولكنّني في عتبٍ على أقلامٍ وعقولٍ كانت قادرةً على ثقب هذا الظاهر لتصل لباطن ما يجري وطبيعته وآثاره، وواقعه ومآلاته. إن صحت العبارة فإن ما يجري في العالم العربي هو ثورات بلا أبٍ، أو انتفاضات بلا أمٍ، إنها إن أراد البعض تسميتها بالثورات، ثورات بلا رأسٍ وبلا قيادةٍ وبلا غايةٍ، ولا تزيد آمالها عن "إسقاط النظام" ثم الارتماء في المجهول حيث انتشاء الأحقاد وازدهار المزايدات وعلو كعب الانتقام، وإن أراد البعض تسميتها بالانتفاضات فهي بلا أمٍ رؤومٍ أي أنها لم تصدر عن تطوّرٍ طبيعيٍ للفكر والثقافة والوعي لدى المجتمعات والأفراد، إن في مجال العدالة أو الديمقراطية أو الحقوق، تلك التي شغلت العوالم المتحضرة دهوراً حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم. لا يوجد لهذه الانتفاضات أو الاحتجاجات العربية قائد، وليس لها هدف واضح، فلا مانديلا في الأفق، ولا غاندي يدور في الجوار. ويكاد المراقب أن يرى شعار "القابلية للاختطاف" مرسوماً على كل حشدٍ جماهيري في شتى البلدان العربية المنتفضة، وعلى كل فردٍ متحمسٍ صارخٍ من وجع الألم الماضي ومن قناعةٍ عاطفيةٍ راسخةٍ بالقادم المستحيل، الذي لم يجئ وأحسبه لن يجيء ضمن هذا السياق التاريخي. الشعار الآخر لهذه التحركات هو "القويّ الغافل"، فهي انتفاضات أثبتت قدرتها على التأثير الكبير على مستوى الشارع والبشر ولكنّها سادرة في غيّ الغفلة لافتقادها الوعي الكافي والمخزون الثقافي والعلمي الذي يمكن أن يوصلها لبرّ الأمان، إن مفاهيم التطوّر الحقيقية غائبة عنها، والشعارات الماضوية مسيطرة عليها، وقد أعشى عمق تأثيرها الواقعي وخاصةً على الأوضاع السياسية كثيراً من عقلاء المراقبين عن التمعّن في طبيعتها الغوغائية والشعاراتية المحضة. لا تثريب في الدين ولا عيب في التديّن، ولكن حين يكون منطلق هذه الانتفاضات صلاة الجمعة، تحدث المشكلة كما أشار "أدونيس"، ويبرز الخوف من الاستجابة لتلك القابلية للاختطاف من قبل جماعات الإسلام السياسي، كالنهضة التونسية و"إخوان مصر" و"القاعديون" في ليبيا تسلسلاً حسب مستوى الصرامة الآيديولوجية. انجرف بعض المفكرين العرب خلف هذه الانتفاضات فخرجت تعبيراتهم ورؤاهم عاطفيةً وآنيةً ومضطربةً، وخاضعةً بأقدارٍ متباينةٍ لحناجر المحتجين وأصوات المنتفضين وصراخ المتظاهرين، وكان الأثر الأكبر عليهم هو صدمة كلٍ منهم، فالمستقيل من التاريخ قرّر العودة إليه، واليائس من الشعب وقدرته قدّم اعتذاراته الحارة إليه، ومع الاحتفاظ لبعضهم بتقديمه رؤى نقدية لما يجري جديرة بالإشادة، إلا أن بعضهم خضع بشكل أو بآخر لضغط الجماهير وضجيج الشارع . أمر يثير الأسى بالفعل حين تصبح المعادلة مقلوبة بين المثقف والجمهور، فتصبح الجماهير هي رائد المثقف وقائده ويصبح هو بدوره يمنحها ما لا تعرف من الحجج والبراهين والأدلة على صوابية مسارها، وهو خاضع في الأصل لصخبها وتأثيرها أكثر من قناعته العقلية ورؤيته المجردة. مما يطرحه أنصار الثورات أنّ المشكلة في العالم العربي، هي مشكلة سياسية فحسب، فالتاريخ بعظمته والثقافة بقيمتها، والمجتمع بأعبائه، كلهم مغيّبون عن المشهد العام، والفكرة الساذجة التي تطرح هي أن الحائل الوحيد بين هذه الشعوب وبين العالم الأول هو مجرد إسقاط النظام! دون شكٍ، فثمة عقلاء عديدون في العالم العربي، قادرون على قراءة المشهد برؤية واعيةٍ، وهم أقلية اليوم ولكن صوتهم مسموع، إنّ من السهل أن تكون ثورياً، ولكن من الصعب أن تكون عاقلاً، ومن السهل أن تهتف مع الجماهير وأن تركب قطارها، ولكن أن تقف مع نفسك وتنظر حولك وتحاول قراءة ما يجري وتستحضر التاريخ والجغرافيا، وتستدعي المصالح والتوازنات فتلك مهمة تحتاج لعقلٍ نيرٍ وفكرٍ منطقيٍ، ومثل هذه المواقف في لحظات التاريخ الصاخبة مواقف صعبة. من جهةٍ أخرى، برزت الجيوش العربية في المشهد السياسي والإعلامي والشعبي بشكلٍ لافتٍ، وهي تواجه وضعاً لا تحسد عليه، فهي بحكم الطبيعة والتكوين يفترض فيها أن تكون معدةً لمواجهة الأعداء الخارجيين، لا مواجهة الشعب والشارع، ودفعها لهكذا مواجهاتٍ يلطّخ سمعتها تاريخياً ويفقدها قيمتها واقعياً. من هنا فقد افترقت مواقف هذه الجيوش بحسب كل دولةٍ عربية حدثت فيها الاحتجاجات وتصاعدت الانتفاضات، فالجيش التونسي، حسب بعض الروايات التونسية، منع رئيس الحرس الجمهوري من السيطرة على البلد، وأبقى السلطة السياسية بيد السياسيين المدنيين. وكان للجيش المصري دور مختلف، فقد نأى بنفسه عن المواجهة مع الجماهير، واستلم السلطة من الرئيس مبارك بعد تنحيه، ورضيت الجماهير به، وهو يقود البلاد والحياة السياسية برمّتها، ويرسم خطوط المستقبل لمصر عبر قراراتٍ كبرى ومواقف لافتةٍ. في ليبيا ليس ثمة جيش بالمعنى الحقيقي للجيش، فكل ما في ليبيا مختلف عن العالم، ولكن ثمة قوّات أمنية تقود الثوّار اليوم عبر عبدالفتاح إسماعيل رفيق درب القذّافي لأربعين عاماً ووزير الداخلية، وثمة كتائب مؤيدةٌ للقذّافي يقودها ابنه الأصغر خميس وبعض المقربين والموالين للقذّافي. أما الجيش اليمني فقد وجدت دماء السياسة دروباً إلى عروقه، فأعلن عن انشقاقاتٍ كبيرةٍ في صفوفه منحازةٍ للجماهير، ولم تتصرف بقية الجيش التي أبقت على ولائها للنظام بعنفٍ مفرطٍ كما جرى في ليبيا أو حتى سوريا ضد الجماهير. أخيراً فالجيش السوري، لم يعرف موقفه الحقيقي بعد، وثمة أنباء غير مؤكدةٍ عن انقساماتٍ فيه، وثمة أنباء عن محاولات النظام لتشويهه، وهو تاريخياً يعتبر منفذاً –بطبيعة الحال- للسياسات الكبرى للنظام، ولم يسمح لأي شيء أن يعبر حدود الجولان سوى مكبرات الصوت بين الأهالي المقسمين على جانبي الحدود. ومن العجائب أن النظام هناك تلتقي في الدفاع عن استقراره وثباته مصالح إيران وإسرائيل معاً. هذا الجيش يتلقى دعماً غير محدودٍ من إيران ومن "حزب الله"، وأغلب تسليحه روسي، وهذا الجيش لا يجيد منذ ما يقارب الأربعين عاماً سوى أمرٍ واحدٍ هو قمع الداخل كما جرى في حماه 82، وما يشبه الداخل كما حدث في الدخول العسكري السوري الكبير إلى لبنان. يحتاج المثقفون في هذه المرحلة إلى أن يرتقوا لمستوى الحدث تحليلاً ووعياً وألا يخضعوا لهدير الشوارع وضجيج الساحات، فلا يلام الفرد غير الواعي حين لا يرى أبعد من موطئ قدميه، ولكن يلام المثقف الذي يفترض فيه الوعي حين لا يستوعب الآفاق الحالية ولا يرى المستقبل بعين البصيرة. *نقلا عن "الاتحاد" الإماراتية

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل