المحتوى الرئيسى

العنوسة.. ظاهرة تتسع في كردستان

05/01 09:08

على الرغم من الانتعاش الاقتصادي الكبير الذي تشهده كردستان منذ سنوات وتحسن الأحوال المعيشية للكثير من الأسر الكردية، وعلى الرغم من التغييرات الاجتماعية فيما يتعلق بنظرة المجتمع إلى العلاقات العاطفية التي باتت إلى حد ما مقبولة اجتماعيا، خصوصا مع انتشار الهواتف المحمولة وتحرر البنات إلى حد كبير من القيود الاجتماعية ودخولهن معترك العمل الوظيفي، ذلك كله سهل للبنات مهمة البحث واختيار شريك حياتهن على عكس العقود السابقة التي كانت الفتاة حبيسة أربعة جدران في المنزل تفرض عليها الكثير من القيود بالخروج أو إنشاء علاقات غرامية. لكن اللافت أن إقبال الشباب من الجيل السابق على الزواج وتكوين الأسرة كان أكبر بكثير من إقبال الجيل الحالي، على الرغم من الفوارق الكبيرة من فقر الشباب في تلك العقود مقارنة بتحسن أحوال الكثيرين منهم الآن، خاصة من ناحية قدرتهم على تحمل تكاليف متطلبات تجهيز العرس، بل وحتى تجهيز بيت السكن، لكن شباب كردستان عازفون اليوم عن الزواج لكثير من الأسباب يوضحها الباحث الاجتماعي يوسف عثمان قائلا: «حسب الدراسات المعتمدة يعتبر العراق ثالث دولة بالعالم العربي من حيث ارتفاع نسبة العنوسة، وتحتل كردستان نسبة 36% من مجموع العوانس بالعراق، وهناك عدة عوامل أساسية لانتشار الظاهرة، من أهمها: عدم الاستقرار الأسري وانعدام تربية عصرية خاصة داخل الأسر الكردية، وهي بالطبع جزء من المجتمع الشرقي؛ فمسألة المكانة الاجتماعية والشهادة العلمية ما زالتا تحتلان الجانب الأكبر من مطالب تلك الأسر، هذه المعايير ما زالت سائدة داخل المجتمع الكردستاني؛ لذلك فإن الأسر لا تزوج بناتها لمن هم أدنى مستوى اجتماعي منها، وكان هذا أحد أهم العوامل الأساسية لتأخر الزواج بالنسبة للكثير من البنات في السابق وما زال هذا المعيار موجودا لدى الكثير من الأسر الكردية. العامل الثاني هو القيد الاجتماعي المرتبط بالتقاليد والعادات القديمة، وهو بدوره ما زال له وجود داخل الكثير من الأسر، مثل عدم تزويج البنات خارج العشيرة أو القبيلة، والعامل الثالث هو التطور الثقافي والاجتماعي؛ فالكثير من الشباب الكردي هاجروا إلى الخارج وتثقفوا هناك بثقافات شعوب الدول التي منحتهم اللجوء أو حتى الجنسية، ويعود الكثيرون منهم إلى كردستان وقد تعودوا على ثقافة أوروبية تختلف عن ثقافة المجتمع الكردستاني، ومن الصعب عليهم تقبل الكثير من العادات والتقاليد التي عاشوا في ظلها سابقا؛ لذلك يصطدمون بالواقع الذي عادوا إليه ولا يستطيعون التعايش وفق تلك التقاليد القديمة فتحدث الكثير من المشكلات داخل الأسر، مما يخوف الشباب من الإقدام على مغامرة بهذا المجال». ويضيف الباحث عثمان إلى هذه العوامل العامل الاقتصادي أيضا، ويؤكد أن تكاليف الزواج باتت مكلفة جدا لا يستطيع الكثير من الشباب حاليا الإيفاء بها. وبهذا الجانب حاولت حكومة الإقليم، عبر الكثير من الإجراءات، أن تخفف من حدة الأزمة من خلال إطلاق سلف الزواج التي كانت مليونين ونصف المليون، زادها رئيس الحكومة برهم صالح إلى 5 ملايين دينار، ما يعادل 4 آلاف دولار، وهو مبلغ يكفي لتأثيث منزل الزوجية إلى حد ما، كما أقدمت الحكومة على إنشاء الآلاف من الوحدات السكنية عبر الشركات الاستثمارية لصالح الشباب المقدمين على الزواج، وهناك مشاريع أخرى كثيرة، من أهمها تقديم القروض الصغيرة للشباب لتشغيلها في مشاريع خاصة. ويتحدث الباحث عن تداعيات هذه الظاهرة على البنات ويحددها بعدة جوانب نفسية واجتماعية؛ ففي الجانب النفسي يعتقد يوسف عثمان أن «فشل البنت في الزواج يؤدي إلى حالة من الإحباط النفسي عندما تقارن نفسها بقريناتها، إلى جانب خوفها الدائم من عدم تقدم الشاب المناسب لها بعد أن تكون قد تقدم بها العمر، ففي مثل هذه الحالات هي لا تنتظر شابا يتقدم إليها وبه جميع المواصفات، بل عليها أن تقبل ولو برجل كبير بالعمر أو به نوع من العيوب أو أن يكون مطلقا أو راغبا بالزواج بامرأة ثانية، وفي مجمل هذه الحالات سوف تعاني المرأة صراعا نفسيا غير مستقر، أضف إلى ذلك كله خوفها الدائم من فشلها في الإنجاب بل وحتى ضعف التخصيب لديها، وفي أحيان أخرى توقف الدورة الشهرية، أما في الجانب الاجتماعي فإن المرأة تواجه في هذه الحالات نقدا دائما من المجتمع عن أسباب عدم زواجها، وتوجيه أسئلة محرجة لها، مما سيدفعها إلى المزيد من الانعزال والانزواء». وترى الفتاة (سوزان) التي استخدمت هذا الاسم المستعار دفعا للإحراج أن «البرلمان الكردستاني يتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية بهذا الجانب». وتقول: «التعديلات التي أجريت على قانون الأحوال الشخصية، التي منعت الزواج بامرأة ثانية، أسهمت بدور كبير في ازدياد الظاهرة؛ فأنا كنت على وشك الزواج برجل تقدم لي، لكن زوجته الأولى رفضت التوقيع أمام القاضي بالموافقة على زواجه بي ففشلنا في عقد زواجنا، والقانون يفرض غرامات كبيرة بل وحتى عقوبات بالسجن لمن يعقد خارج إطار المحكمة الشرعية». لكن تارا تحسين ياسين، النائبة البرلمانية وعضو لجنة شؤون المرأة والطفل والأسرة بالبرلمان الكردستاني، التي ترفض إطلاق صفة «العنوسة» على الفتيات المحرومات من الزواج وتصفهن بـ«نساء كبيرات السن»، معتبرة إطلاق صفة العنوسة إهدارا لكرامتها وحطا من قدرها بل وتشهيرا بها، تقول: «من الناحية الدينية ليس هناك أي مانع بالزواج من امرأة ثانية، ونحن في البرلمان الكردستاني نهتدي بالطبع بالشريعة الإسلامية، لكن الدين يشترط في حالة الزواج بأكثر من امرأة أن يكون هناك عدل، وهذا أمر مستحيل تماما، وأستطيع القول إنه لا وجود لأي زوجة سعيدة تقترن برجل وعلى ذمته امرأة أخرى، كما أن هناك مشكلة أخرى متعلقة بالتفاوت الاجتماعي الذي يحتل الجانب الأكبر من المشكلة؛ فأنا أعتقد أن أهم أسباب تأخر الزواج يعود إلى هذا الجانب، أضف إلى هذه العوامل مسألة القسمة والنصيب، لكل هذه الأسباب قيَّد البرلمان الكردستاني أمور الزواج، لكنه لم يمنعها بل وضع ضوابط محددة لعقدها بما يحقق مصلحة المرأة». كانت «ب. ش»، التي بلغت اليوم 36 سنة، لها الكثير من المواصفات التي تنتظر توافرها في الشاب المتقدم إليها، كأن يكون وسيما وأحواله المعيشية جيدة وله شهادة علمية تقترب من شهاداتها الجامعية وتخصصها في اللغة الإنجليزية، ولكنها رويدا رويدا وسنة بعد أخرى أصبحت تقدم تنازلات عن تلك المواصفات، بل إنها باتت تقبل، كما تقول، حتى بشاب أمي يتقدم للزواج منها دفعا للإحراج الاجتماعي ونظرة السوء التي تطالعها بعيون الكثير من زملائها بالعمل. وتضرب «ب» مثالا بإحدى الوزيرات بحكومة الإقليم التي تزوجت سائقها الخاص وتقول: «عندما يفوتك القطار لا بد أن تقدم التنازلات وإلا ستبقى إلى الأبد موصوما بالعار داخل المجتمع؛ لذلك لا أمانع بالزواج حتى بشخص أمي إذا تقدم لي». وتلجأ فتيات شابات في مقتبل العمر إلى التلفزيونات المحلية لإرسال رسائل نصية بهدف البحث عن شريك العمر. وتمتلئ الأشرطة السفلية لشاشات التلفزيونات المحلية برسائل تبعثها الفتاة وتدون فيها رقم هاتفها بقصد البحث عن الصداقات بهدف الزواج، ولا ندري هل نجحت إحداهن بالعثور على ضالتها أم ما زالت تنتظر، لكن انتشار هذه الظاهرة ينبئ بوجود مخاوف لدى الفتيات حتى في السن المبكرة من فوات فرصة الزواج عليهن. المعالجات يحددها الباحث يوسف عثمان بالقول: «أشجع على الزواج المدني بعيدا عن تدخلات الأسرة وقيمها وعاداتها، ويفترض تغيير النمط السائد في تدخل الأسرة باختيار الفتاة لشريك حياتها، كما يفترض بالفتاة أن تغير نظرتها أيضا تجاه المتقدمين لها، فلم يعد هناك وجود لفارس الأحلام كما في القصص الغرامية، نحن نعيش في الواقع وعلى الفتاة أن تكون جزءا من هذا الواقع الذي لا وجود فيه لشخص مثالي وكامل المواصفات، خاصة بالنسبة للفتاة التي تدخل العمر ويدركها الزواج، عليها أن تقبل بأنصاف الحلول وإن لم تكن فأرباع الحلول، كما على المجتمع أن يغير بدوره من نظرته إلى العانس، فهذه لم تكفر ولم ترتكب خطيئة أو جريمة بعدم زواجها، وهي لا ذنب لها مطلقا في عدم عثورها على الزوج المناسب، والأهم من ذلك كله هو تدخل الحكومة من خلال بعض الإجراءات لتشجيع الشباب على الزواج، خاصة رفع مقدار سلفة الزواج؛ فنحن لدينا دراسات وإحصاءات تشير إلى أنه مع إطلاق سلفة الزواج مليونين ونصف مليون دينار ارتفعت حالات الزواج بنسبة 80%، وهذا طبعا قبل زيادة السلفة إلى 5 ملايين، وأعتقد أن السلفة لو زادت أكثر من ذلك فإن النسبة ستتعاظم كثيرا، كما على الحكومة أن تحل مشكلة السكن وأن توفر الوظائف للشباب، فذلك كله يدخل في إطار المعالجات الجذرية لظاهرة العنوسة وتأخر الزواج». من جهتها، تقول تارا تحسين، النائبة البرلمانية: «فيما يتعلق بالبرلمان، فإننا سنطرح هذا الموضوع على نطاق البحث؛ لأن الحالة وصلت فعلا إلى مستوى يشكل خطرا على البنيان الاجتماعي، وأنا لا أعتقد أن المعالجة ستتم بمجرد إجازة الزواج بامرأة ثانية كما تدعي بعض النسوة؛ فالمشكلة أكبر من ذلك وتتطلب جهودا مكثفة لاحتواء تداعياتها، أنا عن نفسي لن أقبل بأي قرار من البرلمان ينتهك حقوق المرأة، والزواج الثاني يحمل الكثير من الانتهاكات اليومية لحقوق المرأة؛ لذلك لا يجب أن نعالج مشكلة بمشكلة أخرى، علينا أن نبحث في أصل المشكلة وأسبابها ونعمل على حلها بالطرق القانونية والتشريعية، والبرلمان يجب أن يتدخل بهذا الجانب بما يحقق مصلحة المرأة ويضع حدا للمشكلة». يُذكر أن أسعار الذهب، وهو من أهم مستلزمات تجهيز العروس بكردستان، سجلت أرقاما خيالية، مما أسهم في ازدياد حالات التردد بالزواج، ويعيد الكثير من المتعاملين بهذا المعدن الثمين أسباب ذلك الارتفاع الجنوني إلى الأسعار العالمية، ويرى الصائغ فتح الله حميد، من السليمانية، أن «أسعار الذهب صحيح مرتفعة جدا ولا تتناسب مع دخول الجزء الأكبر من المجتمع الكردستاني، وأن هذه الأسعار تحمل بالفعل الشباب المقبلين على الزواج أعباء كبيرة لا طاقة لهم بها، لكني أعتقد أن الحكومة إذا استطاعت أن توفر السكن والوظيفة للشباب فإنها تكون قد أسهمت بحل الجزء الأكبر من المشكلة، وأعتقد أن المشكلة الأساسية لا تنحصر فقط بأسعار الذهب، على الرغم من أن تجهيز العروس جزء أساسي من العملية، لكني ألاحظ أن الكثيرين من الذين يأتون لشراء الذهب، خصوصا في هذه المرحلة، يقتنعون بجزء بسيط فقط دفعا للإحراج، وطبعا هناك من يشتري بالكيلوات، لكنهم نادرون جدا، والأكثرية ترضى بما تتحمل جيوبهم وهذا بحد ذاته حالة صحية، خصوصا مع ازدياد ظاهرة العنوسة بكردستان».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل