المحتوى الرئيسى

طائر اللغات لإحياء الإسلام وتحرير الأقليات بقلم:محمد الحمّار

04/29 21:29

كل طائرة تحتوي على محركين اثنين. ففي حال تعطل المحرك الأساس يقع اللجوء إلى المحرك الثاني دون أن يحصل مكروه لا للطائرة ولا لركابها. هذا تقريبا تشبيه للكيفية التي سأقترح أن تتناولها طائرة المجتمع المسلم ورُبانها، بل ورَبابينُها، لكي تستردّ أمة المسافرين تماسكها وتهنأ بملاحة آمنة، وذلك بفضل استعادة مُحرك الإسلام سالف نشاطه. لكن هنالك فارق مركزي بين طائرة الركاب وطائرة المجتمع المسلم. لئن في الحالة الأولى قد يكون سبب العطب الذي أصاب المحرك ميكانيكيا، كما قد يكون خطأ بشريا، ففي الحالة الثانية ما من شك في أنّ الخطأ بشري بالتحديد وأنّ طاقم القيادة والمسافرين هُم العاجزون عن استخدام المحرك الأساس. ولا يجوز إذن (كما يحلو للبعض) أن يتمّ الحُكم على محرك الإسلام بأنه غير سليم. أما صفة المحرك الثاني، محرك الطوارئ، فهو محرك اللغة. أعتقد أنه كفيل بمساعدة المجتمع المسلم، طاقم وربابين ومسافرين، على تجسيد أمَلهم المتمثل في الصحوة الإسلامية، في الواقع المعيش.أمّا التجسيد فيتمثل في أن يصبح باستطاعة هؤلاء أن يستخدموا المحرك الأصلي، وهو المعطل بسبب بشري: الإسلام. كلنا يعلم أنّ المسألة الدينية في البلاد العربية الإسلامية ليست بالهينة، إذ إنّ النخب في هذه البلدان، وهُم طواقم الطائرة، معلقون بين أخذ ورد، مد وزجر، دعم وتشكيك، حق وباطل. لذا ربما حان الوقت، لا لمعاودة الشروح والتحاليل للكشف عن نفس الأسباب والمسببات، تارة بداعي غياب الحلول وطورا بدعوى غياب الحرية، وإنما الاستبشار بما قد يشكل أضغاث حل للمشكلة. وبناء المحرك اللغوي، الاستعجالي، هو العمل الأهم الآن. فبفضل الشروع في الهندسة والبناء سيشرع المجتمع في تلافي ما تيسر من النقائص بغير مزيد من مضيعة الوقت، خاصة في بلد مثل تونس أين موعد الانتخابات (بعد ما يناهز ثلاثة أشهر من الآن) لا ينبغي أن يغطي عيون النخب ويحجب الرؤية أمامهم فيصيروا، لا قدر الله، عاجزين عن إيلاء أمّ المشكلات حق قدرها؛ وأمّ المشكلات فهي علاقة الدين بالسياسة. إنّ تشكيل ثم تنصيب المحرك الاستعجالي اللغوي كفيل، إن توفرت شروطه، في أسوء الحالات وإذا حصل في أقرب المواعيد، بتأمين السبيل المؤدية إلى التوازن. والتوازن وسطية. والوسطية من الإسلام. كما أنّ التنصيب كفيل، في أفضل الحالات وعلى الأمد البعيد، بتحقيق التوازن المرغوب فيه. وهل من توازن بغير تجانس بين طرفين اثنين معنيين بالصراع القائم منذ عقود: الطرف المؤمن والإسلامي والإسلاموي من جهة، والأقليات غير المؤمنة وغير المسلمة في المجتمع الواحد؟ ثم إن روح التجانس الضروري، وهو شرط التوازن، هي المعادلة بين الديني والسياسي بأسلوب يرضي الطرفين المذكورين ويرضي الجميع. إذ الذي يحصل الآن هو إما الخلط المَقيت، لأنه يتم بأسلوب مباشر، بين الديني والسياسي، وإما الفصل المتجني بينهما. والحال أنّ الدين والسياسة في الإسلام ليسا منفصلين شريطة أن يُفهم أصل المشكلة على أنه ليس لا في الفصل و لا في المزج، وإنما في متى يتم المزج ومن يكون المازج. في هذا الباب، وهو الباب الذي يستوجب انفتاح العقل المجتمعي منه أكثر من أي وقت مضى على المحرك اللغوي، يمكن القول إنّ دور السياسي يبدأ لمّا ينتهي دور المثقف المُناط بعهدته واجب المزج بين العنصرين. لكن الواقع الآن غير ذلك، وهو واقع رديء وخطير، حيث إنّ السياسي يعمل بغير تزوّد بالمادة الممزوجة. كما أنّ رداءة الواقع وخطورته مردُّها الكبح، المقصود أو غير المقصود، لجماح المثقف المازج و سائر القوى الفكرية المفترض أنها تملك الكفاءة لتحضير مكونات المادة الممزوجة دين/سياسة. وبالرغم من رداءة مثل هذا المناخ، إلا أنّ أمل التونسيين والعرب والمسلمين وطيد في إقلاع طائرة المجتمع نحو الأعالي. لكن الأمل لا يبيح الإلقاء بالأنفس إلى التهلكة ولا يبيح قرار الطيران بغير محرك مركزي سليم. في الأثناء تبقى طائرة المجتمع رابضة على مدرج الإقلاع بالمطار في حالة انتظار أن تأتيها الإشارة الخضراء من عند سلطة الصيانة، وفي حالة انتظار أن يتماثل محرك الطوارئ إلى التوظيب التام في ورشة الصيانة. والسبب: حتى هذا المحرك الثاني، المحرك التكميلي، ليس جاهزا للتنصيب ما دام مجتمع الطواقم لم يستبطن لا هندسة المحرك ولا استراتيجيات بنائه، ناهيك الاعتماد عليه لِملاحة آمنة ورحلة هادئة. أعتقد أنّ اللغة في واقع العرب والمسلمين اليوم هي المشكلة والحل في الآن ذاته. ولئن لم تكن غايتي تبيين أنها مشكلة فأكتفي بشرح أنها مؤشر على وجود أمّ المشكلات؛ تذويب ما هو قابل للذوبان من الدين والسياسة بعضهما في بعض. إجمالا من السهل أن نلاحظ أنّ فساد الحالة اللغوية في البلاد العربية بالخصوص أمر لا ريب فيه. في حين أنّ الله جل وعلا حبا الناس أجمعين، ناهيك العرب والمسلمين، بكنز اسمه اللغة: "الرحمنُ عَلّمَ القُرآنَ خلقَ الإِنسَانَ عَلّمَهُ البَيَانَ" (الرحمن 1-4). "وعَلّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا" (البقرة 31). والذي يحز في النفس أننا لم نشهد العناية اللازمة باللغة وحُسن توظيف اللغة في مَهام الاستخلاف كواحدة من استحقاقات العبادة، من طرف هؤلاء. بل بالعكس راح الإنسان العربي والمسلم يبحث عن أسباب راحته وعن سعادته في كل شيء عدا في اللغة. ولو علم أنّ الطمأنينة التي يبحث عنها في الدين، إنما هي وثيقة الارتباط باللغة، لَما أهدر فرصة الارتقاء بدرجة التديّن لديه بفضل اللغة كمدخل إلى الدين. فمن هذا المنظور بالذات يتسنى للغة أن تقوم بدور المحرك الثاني، المُحرّر لمُحرك الإسلام. والثورة، التي عبّر من خلالها، مبدئيا، التونسيون والمصريون واليمنيون والسوريون والبحرينيون وشعوبا عربية أخرى رفضهم لمواصلة العيش تحت نير الأنظمة السياسية الحاكمة المستبدة، كانت مناسبة ليثوروا تقريبا على كل شيء له علاقة قريبة أو بعيدة بالاستبداد عدا على مقاربتهم للغة. فهل إلى هذه الدرجة نفتقد إلى الوعي اللغوي؟ وهل مثل هذا الازدراء بالوعي اللغوي لا يساهم في انفلات الغرض الحرياتي والديمقراطي في هذه المجتمعات وفي المجتمع العربي الإسلامي عموما؟ وما علاقة اللغة بالحرية والديمقراطية؟ إنّ التونسيين وسائر العرب غير محقين في تركهم جانبا اللغة كاستحقاق ثوري وكذلك كاستحقاق للنهوض الحضاري المنشود. فالتخلف اللغوي من تركات الانحطاط. وهل كان العرب والمسلمون طوال عصور الانحطاط متمكنين من الحرية والديمقراطية حتى يزعم أيٍّ كان أنّ لهم اليوم لغة موروثة تحمل دلالة ومعنى متعلقَين بهاتين القيمتين؟ ما من شك في أن التخلف اللغوي وتعاسة الحالة اللغوية في الوطن العربي اليوم يقيمان الدليل على تدهور الكفاءة في التحرر وفي الانتقال الديمقراطي وفي النهوض. وهو تدهور متناسب مع الانحطاط الحضاري ولا يقع إصلاحه إذن إلا بفضل مقاربات النهوض. وفي هذا الإطار تنَزلت الحاجة إلى هندسة المحرك اللغوي الاستعجالي. ولئن لم يثبت تاريخيا أنّ اللغة قد تكون قوة ضاربة أولى في مقاومة التخلف العام وبالتالي في عملية النهوض والتحصيل الحضاري، فإنّ تجريب هذا الصنف من المقاومة اليوم وقبل أي وقت مضى يفرض نفسه فرضا كمقاربة للنهوض تكون بديلا شرعيا للمقاربة الإسلاموية، وتكون مكملا لا يقل شرعية لمقولة الإسلام هو الحل. فالإسلام هو الحل لكن بغير اللغة لا يكون الحل. وفي ما يلي المبرر الرئيس. إنّ اللغة ليست مفهوما فرعيا مستقلا مثل مفاهيم المتعلقة بالثورة وبالحرية وبالديمقراطية والتي تجري النقاشات والحوارات حولها منذ أشهر. فهي ليست "الاستبداد" ولا "القهر" ولا "الظلم" ولا "التسامح" ولا "الالتزام" ولا "الواجب" ولا "الحق" ولا "الفرض" ولا "السنة" ولا غيرها من المفاهيم التي تتداولها الألسن والأقلام كلما كان الحديث، حديث الساعة، عن الحرية وعن الديمقراطية. لكن حذار، فاللغة كل تلك المفاهيم مجتمعة ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن لا تتناظر اللغة تارة وأن تتطابق طورا مع كل واحد من تلك المفاهيم ومعها كلها. ومن جهة أخرى ما هو المحرك الأساس والمعدل الممتاز والمنشط المؤثر لكل تلك المفاهيم في الثقافة العربية الإسلامية إن لم يكن الإسلام؟ لذا فالتناظر والتطابق مع مفاهيم العصر الحديث كلها لن يكتفيا باللغة كوسيلة لتحقيقهما بل سيصل بهما الأمر إلى مطالبة المحرك الأساس، الإسلام، بالتدخل لإنجاز الغرضين الاثنين. في هاته الحالة التي يلتقي فيها الوعي الحرياتي، بمفاهيمه المختلفة والمتعددة، مع المحرك اللغوي من جانب، و مع المحرك الديني من الجانب الآخر، لا أرى كيف يتسنى لأيٍّ كان أن يحُول، طوعا أو قسرا، دون الحرية ودون التأليف بين اللغة والدين، وذلك بمقتضى الحركة المزدوجة التي أسميتها التناظر والتطابق؛ لكي تؤمّن الحريةُ لنفسها وللعباد المعنيين بها البقاء والاستدامة، والدفع نحو التعددية والديمقراطية الإسلامية. ثم إنّ الحرية تأتي في منزلة سابقة للديمقراطية. بالمناسبة، هل تحررنا حتى نقرر أننا سننتقل إلى الديمقراطية؟ في هذا المستوى التي وصلت إليه عمليات التوظيب في ورشة الصيانة (للمحرك اللغوي المدعم للمحرك الإسلامي) يمكن استنتاج أمرٍ دال على التحول الذي نرجو أن يحصل بخصوص تعريف اللغة بحسب وظائفها الأساسية. وهذا التعريف سيجيب عن سؤال جماهير الناطقين باللغة في المجتمع العربي الإسلامي، الواعين بالبُعد اللغوي للعبادة: ما الذي سيضيف لي المحرك اللغوي في الواقع المعيش؟ إن الإضافة التي قد يحققها التعامل الواعي باللغة رغم عدم قابليتها لأن يقع الحديث عنها مثلما يقع الحديث عن مواضيع الاستبداد والتحرر، والتخلف والتقدم، والركود والنهوض، هو تحولها من طور الأداة (الأداة تؤدي ولا يؤدَّى عليها)، وكذلك من طور الفكر (اللغة تعبِّر عن الأفكار لكنها بحد ذاتها ليست فكرة من بين الأفكار)، إلى طور أشمل يناسب كافة تطلعاتها: طور العقل، العقل اللغوي. هكذا ستكون اللغة متصالحة مع نفسها كمخلوق طموح ذي نفوذ جبار، لم يرضَ بوظيفة الأداة وإذا به يسمو بنفسه إلى حلبة الفكر، وها هُو يخرق السقف المعروف ليرتقي إلى مَصاف العقل. وهذا شرفٌ لن ينال اللغة إلا بفضل الإسلام دينا وعقيدة وفكرا. والدليل أنّ المسلم المُزوَّد مِن هنا فصاعدا بعقل لغوي سيكون قادرا على الإحساس والإدراك و الملاحظة والمعاينة والتحليل والتأليف والنقد والمناقشة وما إلى ذلك من العمليات الرامية إلى تحقيق المصالحة بين الذات والواقع، وبطرح المشكلات مع إيجاد الحلول اللازمة لها، بواسطة جهاز مزدوج لكنّ ازدواجيته ازدواجية تقوية لا ازدواجية تفرقة، طالما أنّ المحرك الديني والمحرك اللغوي مولودين من صُلب بعضهما البعض. فالمسلم الحُر مَن تزوّد بالعقل اللغوي. وحرية غير المسلم، المنتمي إلى المجتمع المسلم، محفوظة هي الأخرى بحُكم طبيعة العقل اللغوي؛ وهذا العقل نتاج المجتمع الذي ينتمي إليه. والانسجام الحرياتي بين المسلم وغير المسلم إنما هو نتاج حتمي لهذه الطبيعة، حيث إنّ طبيعة العقل اللغوي تقتضي أمرين اثنين متكاملين: من ناحية أن يكون هذا العقل حاويا للفكر الديني لكن في نفس الوقت سانحا له بأن يتسع بالقدر الذي يسمح له به الاتساع الطبيعي للغة، لكل لغة؛ ومن ناحية أخرى أن يكون الفكر غير الديني مُسرّحا ومُحرَّرا بحُكم توفر المساحات الشاسعة أمامه و التي تخول له أن يتقاطع ويتناظر ويتطابق أحيانا مع الفكر الديني، مِما يكيف الفكرَين الاثنين على قبول الرأي الآخر، وأن يستقل أحيانا بحسب مبررات منطقية يستبطنها العقل اللغوي بأكمله، كجسم قائم بذاته، وبالتالي لا يمكن للفكر الديني أن ينكر هذه المبررات أو يقصيها. بهذا الأسلوب أرجو أن يوفر المسلم المعاصر على نفسه التيه في مهب القراءات المتعددة، إسلامية كانت أم علمانية، لا لشيء إلا لكونه كان قادرا على مزج ما ينبغي أن يُمزَج من باب أولى؛ اللغة والدين. وهل سيبقى هناك حينئذ هاجس اسمه "مزج الدين بالسياسة" أو ما يقابله من "فصل الدين والسياسة"؟ الآن وقد تمّ تنصيب المحرك اللغوي إلى جانب المحرك الديني، الآن وقد أضحت طائرة المجتمع التونسي والعربي الإسلامي جاهزة للإقلاع، هل مِن مُسرعٍ لحجز تذكرته على التو؟ محمد الحمّار الاجتهاد الجديد

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل