المحتوى الرئيسى

رضا حماد يكتب: الاستبداد باسم الله

04/29 18:04

كتبت في الأسبوع الماضي عن ضرورة أن يتحد المؤمنون بحتمية الدولة المدنية من الليبراليين وأطياف اليسار المختلفة تحت راية واحدة للدفاع عن خيار مدنية الدولة المصرية بعد الثورة، ورغم حرصي على التأكيد بأن المقال هو حديث في السياسة وليس في العقيدة، وأن دعوتي للتحالف دفاعاً عن الدولة المدنية لا تعني إقصاءً لأحد أو محاولة للتخويف من الإسلاميين، وأنها فقط دعوة لوضوح الرؤية في العمل السياسي، وأن يدافع كل فصيل عن انحيازه الفكري ورؤيته للمستقبل.رغم كل ذلك واجهت سيلاً من الاتهامات بمعاداة الإسلام والدعوة للفسق والرذيلة، وبدلاً من أن يناقش القراء الأعزاء مضامين المقال، ألقوا بالتهم جزافاً، فنالني منها الكثير، ونالت سهام الاتهام بالجهل والكفر والخضوع لتأثير الإعلام العلماني الفاسد كل القراء الذين أبدوا رأياً مؤيداً لما ذهبت إليه، بينما اكتفى بعض القراء الطيبين بالدعوة لنا بالهداية، والعودة إلى الحق -طبعاً- بعد التوبة والاستغفار والندم على كل ما اقترفناه من ذنوب في حق الإسلام.بغض النظر عن أن هذه الاتهامات تدلل على نوعية من الفكر المتزمت والمتشنج السائد حالياً، إلا أن خطورتها أنها تؤشر إلى طبيعة المواجهات المتوقعة في أي منافسة سياسية مع من يظنون أنفسهم حماة الإسلام ، ونوعية الأسلحة التي ستشهرها بعض التيارات الإسلامية مع المعارضين لها في حلبة السياسة والتنافس على مقاعد البرلمان، إذ أن كل محاولة للتفكير الحر والعقلاني سيواجه صاحبها باتهامات تخرجه عن الملة، وتبيح دمه في زمن يعتقد فيه البعض أن باستطاعتهم إقامة الحدود أو إعلان الإمارات الإسلامية ومبايعة أمير لها يرتضونه وفق ما يعتقدون أنه صحيح الإسلام.لن أخوض طويلاً في حديث التكفير واتهاماته، فقد بدت آراء الداعين لنا بالتوبة والرجوع إلى الصواب أهم، إذ اقترن معظمها بعبارات تزعم أننا لا نفهم الفرق بين الدولة المدنية والدولة الدينية، وأننا علمانيون أسرى مفاهيم غربية تريد فصل الدين عن الدولة،  لذا رأيت أن من المهم مناقشة الفروق بين الدولة الدينية والمدنية والعلمانية حتى يعرف هؤلاء ما نريده لمصر الجديدة بعيداً التشنج والتعصب.تاريخياً يرتبط اسم الدولة الدينية بالمسيحية وليس بالإسلام، إذا استثنيا من ذلك الدولة الدينية التي ظهرت مع ظهور الديانة اليهودية كونها تخص فئة من الناس دون غيرهم -بنو إسرائيل-، إذ لا يجوز استنساخ هذه التجربة لشعب أخر.أما في المسيحية فقد ظهر شكل الدولة الدينية عندما اعتنق أباطرة روما المسيحية وجعلوها دين الدولة الرومانية على اتساعها في أنحاء العالم، لكن هذا المفهوم مر بثلاث مراحل كل، مرحلة قادت إلى الأخرى وكانت نتيجة لها. خلال المرحلة الأولى كان القساوسة ينظرون إلى الدين باعتباره قيماً روحية تدعو إلى المحبة والإخاء والتسامح فظهرت المقولة الشهيرة "دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر" ولم يكن للكنيسة وفق هذا المبدأ سوى مساعي التبشير ونشر المسيحية دون التدخل في شئون الدولة، وهو الأمر الذي اعتقد أنه قاد إلى المرحلة الثانية، إذ أن انتشار المسيحية في العالم واتساع سلطة الكنيسة الروحية منح الباباوات سلطات شبه إلهية، وأصبح بأيديهم تنصيب الأباطرة ومنحهم البركة والحق في الحكم باسم الإله، وهنا تجسدت الدولة الدينية بمعناها الحرفي، يتدخل القساوسة في كافة شئون الدولة والحكم، يمنحون صكوك الغفران، وينزعون الشرعية باسم الرب عن كل من يخالف سلطتهم.ومضى الحال على هذا الشكل إلى جاء ما يسمى بعصر التنوير أو الإصلاح الكنسي وعاد شعار "دع ما لقيصر لقيصر.. "، وبدأت تتشكل مفاهيم جديدة للدولة تقوم على الحرية والمساواة ولا تمنح أحداً حق الحكم بمقتضى العناية الإلهية.بالنسبة للإسلام لا يمكن القول بأن الدولة الإسلامية التي تأسست في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين دولة دينية بالمفهوم الكنسي الذي ساد في أوربا، فالرسول كان يستفتي أهل الخبرة والعلم في شئون الحكم والحياة وهو نفس الأمر الذي تكرر مع دولة الخلفاء الراشدين باعتبارهم خلفاء رسول الله وليسوا خلفاء لله على الأرض، واستناداً إلى هذا الرأي فهناك إجماع على أن الإسلام لم يعرف الدولة الدينية وأن المسلمين أعلم بشؤون دنياهم، إلا أن تطور ظهور المذاهب الدينية خلق رؤى تقول بعكس ذلك أبرزها ما يرتبط بدولة إيران بعد الثورة والتي يستند الحكم فيها إلى ما يسمى بولاية الفقيه، وبالإضافة إلى بعض غلاه أهل السنة الذين يريدون أن يطبقوا شرع الله وفق مفهومهم الخاص والذين سيضعون كافة أمور الحكم بأيدي لجان شرعية تفتي بما تعتقد أنه صحيح الإسلام. هذا بالنسبة للدولة الدينية أما الدولة المدنية فهي باختصار شديد دولة القانون التي يستند فيها الحكم إلى إرادة الناس، أساسها المواطنة كاملة الحقوق لكل الناس باختلاف عقائدهم وانتماءاتهم، تؤمن بحق كل شخص في ممارسة ما يعتقد، وتكفل له بسلطة القانون حرية ممارسة هذا الحق، هذه الدولة تختلف كلياً عن الدولة العلمانية التي لا تبيح حرية الاعتقاد وتفرض قيوداً صارمة على الأديان.الدولة المدنية التي ندافع عنها تتسق تماماً مع روح ووجدان الشعب المصري عبر تطوره التاريخي، فقد عرف المصريون التعديدية الدينية منذ مطلع التاريخ، وتعايش المجتمع مع الأديان الثلاثة باختلاف مذاهبها مستنداً إلى شعور عميق بالتسامح، فالمصريون متسامحون بطبيعتهم، فرغم رياح التعصب الديني والمذهبي التي هبت على المجتمع خلال العقود الثلاثة الأخيرة، إلا أن ذاكرة التعصب تبدو خالية تماماً من أشكال مفزعة للعنف الدامي أو التطهير والإبادة للمختلفين في الدين.أتمنى أن أكون قد أزلت بهذا الاستعراض بعض اللبس حول مفاهيم الدولة الدينية والمدنية والعلمانية، فالدعوة لمدنية الدولة المصرية لا تعني إلغاء الدين أو التقليل من شأن الإسلام بل أظنها حماية للإسلام من خلافات تلوح في الخطاب الديني الممزق المهلهل بين أطياف التيارات الإسلامية المختلفة، فغالبية الأحكام الشرعية مختلف عليها بين الفقهاء والمذاهب بل إن فقهاء المذهب الواحد مختلفون في كثير من الآراء، وهناك تيارات تكفر بعضها البعض، فهل نطبق رؤية الصوفية للإسلام أم أنها على باطل والسلفية هي الدين الحق، ثم أي سلفية نُحكم، غلاة الحنابلة أم المتشبثون بإبن تيمية، نطبق رؤية الشيخ محمد حسان أم البرهامي أم الحويني.  أقدر كثيراً تمسك بعض التيارات الإسلامية وفي مقدمتها الإخوان المسلمين بمدنية الدولة وإن كنت أخشى أن يكون هذا الموقف لأسباب تتصل بالسياسة أكثر من ارتباطها بالمراجعة الفكرية لأن المنطقي أن يتم التحول بناء على اجتهاد فكري  يفضي إلى تغيير في الموقف لا نتيجة لحسابات السياسة ومخاوف خسارة أصوات الناخبين وأظن المسافة بين أطروحات الدكتور عصام العريان وآراء الدكتور محمود عزت بعيدة جداً وأن التمسك بمفهوم غامض فضفاض للمرجعية الدينية للدولة المدنية يثير الشكوك أكثر مما يبعث على الثقة والطمأنينة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل