المحتوى الرئيسى

«ولاء»

04/29 07:13

تحترمه؟ نعم. تشعر بالأمان معه؟ بالتأكيد. لكن الحب شىء آخر. والأستاذ ممدوح - معلم اللغة العربية وزميلها فى المدرسة - وإن كان يصلح زوجا، فإنه لا يصلح حبيباً بشاربه الكثيف وملامحه الجادة ونظارته السميكة التى تعطيه أكثر من عمره. تتمنى لو يحلق شاربه، تتمنى لو يهتم بملابسه، تتمنى لو كان مثل «صلاح». أستاذ صلاح مُعلّم العلوم فى المدرسة نفسها، خفيف الظل، حليق الشارب، منتعش الوجه، يضحك من أى شىء ومن كل شىء. إنسانة خجولة مثلها كانت تحتاج رجلاً لبقاً مثل صلاح، يجيد المناورات الغرامية. يعرف أسماء الأغانى، يُلقى النكات الجريئة، يفتح حقيبتها دون استئذان. يأكل ساندويتشاتها، ورغم ذلك لا تغضب، بل تضحك من قلبها، وتتمنى أن يتمادى. المشكلة الوحيدة أن صلاح لم يتقدم لخطبتها، بل ممدوح الذى فعل. من يصدق أنها منذ أربعة شهور فقط لم تكن تعرف ممدوح ولا صلاح. لم تزل تذكر يومها الأول حينما ذهبت لمقابلة الناظر وهى تحمل خطاب تعيينها فى المدرسة بعد أن لم تنم الليلة السابقة من فرط الخوف والانفعال. يا للهول! ولاء صارت معلمة! ولاء التى تغرق فى شبر ميه، وتضل فى العودة لبيتها، ونجحت فى الكلية بمعجزة! جلست فى حجرة المدرسين منكسة الرأس، تعتصر منديلها. بعد أسبوع بدأت تميز بعض الوجوه، أستاذ صلاح معلم العلوم الذى لم يعرها اهتماماً فى البداية، وأستاذ ممدوح معلم اللغة العربية التى أحست بأنه يمكنها الاعتماد عليه. وبالفعل لم يخب ظنها، حين ألقت حصتها الأولى فى قواعد النحو، وسألها طالب ذو نظرة ساخرة عن الفارق بين الفعل المتعدى والفعل اللازم، تلعثمت وضحك الفصل، فلم ينقذها سوى دخول الأستاذ ممدوح ليفرض وجوده وهيبته. فى غرفة المعلمين بكت. فى صمت، أمسك الأستاذ ممدوح كراسة وبدأ يكتب بخط واضح قواعد النحو مع وضع أمثلة لها، وهى تجفف دموعها وتنظر إليه فى امتنان. لم يرفع الكلفة بينهما قط، وإن شعرت بشىء من الرقة فى نظراته، رغم شاربه الكثيف ووجهه المتجهم. وفجأة، دق الباب فوجدته أمامها. انتابها الذهول. كان مرتبكا هو الآخر وهو يدخل إلى غرفة الصالون. قابله أبوها فى تساؤل سرعان ما تحول إلى ترحيب. مكثت فى غرفتها تنتظر انصرافه وهى تعلم داخلها بالنبأ المرتقب. لكن حينما أعلنها برغبته فى خطبتها بكت. لكن أباها كان قد تحمس له. لأول مرة، يعجب أبوها برجل من الجيل الجديد. وعده بالرد عليه بعد السؤال عنه، لكن كان واضحا أنه موافق. حاولت أن تجد سببا للرفض ففشلت. حاولت أن تقنع نفسها بأنها سعيدة. والحقيقة أنها لم تستطع أن تصارح أباها بأنها - رغم احترامها له - تهابه كثيرا، وتشعر بعدم ارتياح لملامحه الجادة المتجهمة. ورغم النظرة الرقيقة التى كانت تربكها أحيانا، فقد كانت تريد رجلا لبق الحديث ينفذ إلى قلبها فى بساطة، رجلا ظريفا مثل صلاح، الذى بدأت تلوح فى عينيه نظرة مختلفة منذ عرف بتقدم الأستاذ ممدوح لخطبتها، وكأنه اكتشفها من جديد. طفق يتقرب منها، يُضْحكها، يُحدّثها عن الأغانى التى تحبها، المسلسلات التركية التى تشاهدها، يقدم لها المقعد حين تهم بالجلوس. يجلس على المقعد المجاور، أنواع من الاهتمام الرجولى لم تعهدها ولاء من قبل، وافتقدتها عند ممدوح. لم تحاول أن تسأل نفسها عن آخر ذلك كله. السؤال كان يضعها فى مواجهة مع النفس، لم تكن مستعدة لها. المؤكد أنها صارت تعتبر المدرسة- التى لم تكن تطيقها من قبل- جنتها الموعودة. المؤكد أنها أصبحت تستيقظ قبل أن يدق المنبه مفعمة بالنشاط، وتطير فى الطريق فى انتظار مفاجآت صلاح. ولم تعد تتذكر أستاذ ممدوح إلا حينما تشاهده. الكل- باستثناء ولاء - لاحظ وجومه، نحافته المتزايدة، وتلك النظرة المقهورة فى عينيه، والصمت الذى صار يلازمه. الكل - حتى ولاء - لاحظ أنه يتجنب الجلوس فى غرفة المعلمين، والكل لاحظ أيضا أن صلاح تغير، وكأنه سئم اللعبة القديمة، فلم يعد يولى ولاء الاهتمام القديم. لم يعد يقدم المقعد لها، لم يعد يفتح حقيبتها، لم يعد يحرص على أن يكون جوارها فى كل حين. ولاء تحاول فهم لماذا لم يعد يُقْبل صلاح عليها رغم أنها تنظر نحوه باستمرار! ولماذا لم يهتم بالتبرير حينما سألته! وانهمرت دموعها حين شاهدته يكرر اللعبة القديمة مع مدرسة الرياضيات الجديدة: المقعد، النكات الجريئة، فتح الحقيبة، أكل الساندويتشات، وأدركت أنها أخطأت فى حق ممدوح خطأً لا يُغتفر، خطأ يستحيل إصلاحه! .............. لا تدرى حتى اليوم كيف فعلتها! كيف قالتها! كيف ذهبت إليه، واستجمعت شجاعتها وانتظرت خروج التلاميذ من فصل الأستاذ ممدوح. كان الفصل خاليا إلا منه ومنها، والمقاعد الشاغرة تنظر إليهما فى فضول. شاهدت النظرة المقهورة فى عينيه فبكت. نظرته أدمت قلبها وجعلتها تكره نفسها، وتعرف أنها فعلا لم تكن جديرة برجل ممتاز مثل ممدوح. أرادت أن تقول له أشياء كثيرة.. أرادت أن تعتذر له، وتصارحه بأنها عرفت قيمته، وأنها لا تستحقه، وأنها صارت تحبه، أرادت أن تقول كل هذا كله ولكن الخجل منعها فبكت. ثم أمسكت بالطباشير وكتبت على السبورة: «أنا آسفة. أخطئت، فهل تسامحنى؟!». نظرت إليه فى أمل. ثم انهمرت دموعها حينما تجهمت ملامحه (وكأنه يعانى ألما مُروّعا). ثم تناول الطباشير منها وشطب كلمة (أخطئت) وصوّبها إلى (أخطأت) وهو يبتسم فى رقة! وسط غلالة الدموع، لمحت ولاء نظرته القديمة الرقيقة تتشكل فى عينيه، وهو يكتب: «سامحتك لأنى أحبك». ضحكت ولاء وهى تشرق بالدموع، ولأول مرة يخرجان من الفصل معا/ وهما متشابكا الأيدى، إلى أزمنة سعيدة تنتظرهما بلا حدود. [email protected]  

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل