المحتوى الرئيسى

وقــفـــــة مـــع الــعــقــيــدة الأشــعريــة بقلم:محمد شركي

04/28 19:45

وقــفـــــة مـــع الــعــقــيــدة الأشــعريــة مـحـمــد شــركــي ليس من قبيل الصدف أن يختار الله عز وجل الحضارة الإسلامية البانية لقيادة الإنسانية قاطبة . وليست هذه الحضارة مجرد امتداد لحضارات سابقة أو مجرد تقليد لها بل هي حضارة بناها القرآن الكريم المنزل من رب العالمين الخبير العليم بما يقيم الحضارة الإنسانية البانية على الوجه الأنسب والأكمل . ومن الظلم الشنيع القول بأن الحضارة الإسلامية هي مجرد اقتباس أو تقليد أبناء إسماعيل لأبناء يونان أو أبناء إسحاق. وتاريخ البشرية يشهد بأن أبناء يونان أبدعوا حقيقة الفلسفة والفكر والعلم ،ولكنهم حرموا الدين ، وأن أبناء إسحاق أعطوا الدين ، لكنهم حرموا العلم والفلسفة والفكر، بينما جمع أبناء إسماعيل بين الدين والعلم والفلسفة والفكر، وبنوا الحضارة الإنسانية البانية والبديلة عن الحضارات الطائفية والعرقية الهادمة لمفهوم الإنسانية . ولقد نزل القرآن على أمة العرب في جزيرتهم وهم يعيشون فجوة تاريخية أبعدتهم عن دين أبيهم إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام ، وأوقعتهم في الفكر الجاهلي الوثني الشارد الحائر، ونقلهم إلى فكر متزن بخطابه العالمي مقابل خطاب العهد القديم لفئة يهود ، وخطاب العهد الجديد لخراف بني إسرائيل الضالة. والقرآن الكريم بكماله وشموليته غطى حاجيات الإنسان الميتافيزقية والفيزيقية والإنسانية الأخلاقية حيث كشف النقاب عن سر الوجود الفيزيقي وما وراءه من ميتافيزيقا ، وكشف النقاب عن أثر الإنسان في هذا الوجود الفيزيقي. وهكذا صنع القرآن الكريم حضارة إنسانية معبرة عن نضج الإنسانية وبلوغها الهدف والغاية من الوجود البشري فوق سطح هذا الكوكب ، وصاحب هذه الصناعة الحضارية فكر وفلسفة أصيلان احتكا بكل أنواع الفكر والفلسفة البشرية دون أن تقليد أو تكرار أو إعادة الإنتاج. ولقد وقفت الفلسفة الإسلامية موقفا وسطا بين العالم الميتافيزقي والعالم الفيزيقي عن طريق ربط عنصر الإنسان بين هذين العالمين خلافا لتمحض الفلسفات السابقة لعالم دون آخر. وفهم الفلسفة الأشعرية إنما ينطلق من هذا التصور القرآني الذي كشف سر الميتافيزقا ، وكفى الإنسانية هدر الوقت في البحث عن كنهها بأداة العقل القاصرة أمام حقائق هذه الميتافزيقا الغريبة ، ودعا الإنسان إلى الاشتغال بالفيزيقا واكتشافها والتأثير فيها عمليا وإجرائيا عوض الاشتغال بها تجريديا وعقليا على طريقة تفكير أبناء يونان ، أو الإعراض عنها على طريقة أبناء إسحاق وخراف بني إسرائيل . ولقد كانت دعوة القرآن إلى الكشف عن الفيزيقا والتفاعل معها سببا في اصطباغ الفلسفة الإسلامية بالنزعة التجريبية الواقعية ، والبعد عن الجدل الميتافيزيقي بالمنهج العقلي القياسي اليوناني . وفند القرآن فكرة قدم المادة اليونانية من خلال فكرة الإله الواحد الأحد المفارق للمادة والمحدث لها ، وهذه نقطة الخلاف بين فلسفة الإسلام وفلسفة يونان . وبسبب وقوع التحريف في كلام الله عز وجل في الرسائل السماوية السابقة حيث دخلت الأفكار اليونانية في العهد القديم ونتج عنها التجسيم ، وفكرة البطولة الإلهية من خلال تصوير الذات الإلهية بالقوة الجبارة المنتقمة المحاربة إلى جانب جنس اليهود ضد أعدائهم ، وفكرة النبي المقاتل والعنيف من أجل الهيمنة على العالم ، كما دخلت الأفكار الغنوصية إلى هذا العهد القديم وإلى العهد الجديد الذي يخلط بين الناسوت واللاهوت وهو ما يعرف بالتشبيه عمد القرآن الكريم إلى تصحيح التحريف سواء المتعلق بالتجسيم أو بالتشبيه . ومن معين القرآن الكريم في هذا المجال نهلت الفلسفة الإسلامية الخالصة . وعندما نذكر الفلسفة الإسلامية الخاصة نريد الفلسفة الأشعرية وليس الفلسفة الرواقية التي يمثلها المحسوبون على الإسلام من مقتبسي فلسفة يونان من أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد ،وهم الفلاسفة فحسب عند بعض الناس دون غيرهم مع أنهم عند أهل التخصص إنما هم نسخ من فلاسفة يونان المفارقة لفلسفة الإسلام. ونظرا لاحتكاك الفكر الإسلامي مع غيره من أنواع الفكر اليوناني العقلي القياسي أو الفكرالغنوصي اليهودي المسيحي المجوسي المعتمد على الكشف فإنه صرف جزءا من جهده للبحث في ميتافيزيقا أغناه عن الخوض فيها القرآن الكريم ، ولكن لا بد مما ليس منه بد عندما تفرض الظروف ذلك لأن انصراف أهل النقل عن الميتافيزيقا أو وقوعهم في الحبائل الغنوصية هو الذي أغرى غلاة العقول في تعطيل أو نفي الميتافيزيقا القرآنية . وليست الصراعات الفكرية مع العقائد الأجنبية وحدها سبب نشأة الفلسفة والفكر الإسلاميين بل كان لواقع المسلمين دور كبير أيضا في نشأة هذا الفكر حيث كانت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم نقطة فاصلة وفارقة في حياة المسلمين السياسية ، وهو الذي جمع بسنته بين السيادة والحكم ، وسار على نهجه من خلفه . وكان أول مؤشر على الخلاف السياسي بين المسلمين عقب رحيل الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم هو أول اغتيال سياسي أودى برمز العدل الإسلامي الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو اغتيال مرده تغلغل العقائد الغنوصية في الأمة بعد الفتوحات الإسلامية ، وهي عقائد ما كانت لتسلم لدين جديد جزم بزوالها إلى الأبد . ولقد كانت مؤامرة أول اغتيال سياسي في التاريخ الإسلامي محبوكة من طرف كل العقائد التي سفهها الإسلام ، وكانت خليطا من المجوسية واليهودية والنصرانية. وتوالت الاغتيالات السياسية، ووراء كل اغتيال دوافع ، ولكل اغتيال دلالة حيث كان اغتيال ذي النورين رضي الله عنه عبارة عن اغتيال للورع الديني ، كما كان اغتيال الإمام علي رضي الله عنه عبارة عن اغتيال للحكمة الإسلامية . ولقد فرقت السياسة بين المسلمين حيث انتصر بعضهم للشورى والخلافة ، وانتصر بعضهم للولاية والإمامة . واستغلت الغنوصيات المتربصة هذا الخلاف للنيل من الإسلام ومن القرآن وكل ذلك من أجل منع البديل الحضاري الإسلامي الباني . واقتضى الصراع السياسي الدعاية السياسية التي لم يكن لها بد من الدعاية الدينية أوالشرعية . ووقع الارتداد من قضية سياسية إنسانية خلقية في عالم الفيزيقا إلى قضايا عالم الميتافيزيقا. فكل فريق سياسي حاول شرعنة موقفه باعتماد النصوص القرآنية ونصوص الحديث المقدسة . وكانت النتيجة وجود فرق كلامية بأكثر من عدد الفرق السياسية . وصار المسلمون بعدما كانوا مجرد مسلمين أهل سنة وخلافة ، وشيعة وأهل إمامة ،وخوارج عن السنة والشيعة ،ومعتزلة للسنة والشعية ومرجئة للسنة والشيعة ، وتفرق كل فصيل سياسي إلى فرق شتى تتداعى وتتماثل وتتقاطع وتختلف في مفاهيم ميتافيزيقية إسلامية وتتناحر بسبب ذلك . فبنو أمية المنتسبون للسنة قالوا بعقيدة الجبر لتبرير سيطرتهم على الحكم ، والشيعة قابلوا مقولتهم بحرية الإرادة أو القدرية ، وبرر الخوارج موقفهم من حكم هؤلاء وهؤلاء بعقيدة التكفير ، وبرر غيرهم عدم الانحياز لهؤلاء أو هؤلاء بعقيدة الاعتزال أو عقيدة الإرجاء. ووقع تراشق التهم بين هذه الفرق وتراوحت التهم بين التكفير والتفسيق والعداوة والاستئصال. ومست الميتافيزيقا الإسلامية عندما تعلق الأمر بالتكفير والثواب والعقاب ، وهو من اختصاص الله عز وجل. وهكذا ارتبط الخلاف السياسي بالخلاف الكلامي أو العقدي . وانتقل الخلاف من أمور بشرية تتعلق بالجبر وحرية الإرادة إلى أمور إلهية تتعلق بذات الله عز وجل وصفاته وكلامه وبقضايا غيبية من قبيل قضية الخلد وقضية العرشية والاستواء وقضية رؤية الذات الإلهية وغير ذلك . واختلفت الفرق باعتبار أداة البحث إلى أهل نقل وأهل عقل وأهل توفيق بين الأداتين ، ونتج عن ذلك التجريم والتخوين والتكفير والطعن فراجت التهم من قبيل الصفاتية أو المشبهة والمعطلة والجبرية والقدرية والنقلية الحشوية والعقلية الإلحادية المتزندقة إلى غير ذلك من الأوصاف التي تعكس عمق الخلاف السياسي العاكس بدوره لعمق الخلاف العقدي المصاحب له . وفي هذه الأجواء ظهرت وتميزت العقيدة الأشعرية بميزة الوسطية والتوفيقية بين غلو عقل مادي وغلو غنوص كشفي . التعريف بصاحب العقيدة : هو أبو الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة عامر بن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي موسى الأشعري . اختلف في سنة ميلاده ووفاته معا ما بين 260 و270 هجرية كتاريخ ميلاد وبين 324 و330 و333 هجرية كتاريخ وفاة . عاش في البيئة البصرية المعروفة بالجدل الفكري المختلف والمحتدم. ونشأ سنيا ثم اعتزل على يد أبي علي الجبائي نسبة لجبا في خوزستان ، وتنكر للاعتزال علانية في مسجد البصرة ،وأنكر بعض أصول عقيدة الاعتزال من قبيل نفي صفات الله عز وجل ، والقول بخلق القرآن ، ونفي رؤية الله تعالى ، ونفي الخلد. وكان تراجعه عن الاعتزال ضربة قاصمة لهذا الفكر في العالم الإسلامي على حد وصف أبي بكر الصيرفي . دافع الإمام الأشعري عن السنة الخالصة من الحشوية والغنوصية ، والاعتزال ، وهو يعتبر بذلك إمام أهل السنة والجماعة ، وهو على مذاهب أهل السنة الأربعة في الفقه ، وهو إمام الحديث المناهض للمبتدعة من كل الأطياف . خلف ما يزيد عن خمسين مؤلفا أشهرها : تفسيره للقرآن الكريم / كتاب إيضاح البرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان / كتاب الفصول في الرد على الملحدين والخارجين عن الملة / كتاب الاجتهاد في الأحكام/ كتاب الأخبار وتصحيحها / كتاب الإمامة / كتاب الصفات / كتاب الرد على المجسمة / كتاب جواز رؤية الله تعالى بالأبصار وغيرها . وقد تابع الإمام الأشعري في عقيدته معظم أهل السنة والجماعة باستثناء بعض الحنابلة الذين يتهمونه بالاعتزال بالرغم من براءته منه . وتأثر حكام بعقيدته فاعتمدوها في أمصارهم ومنهم صلاح الدين الأيوبي ، والمهدي بن تومرت الموحدي ، ومحمد الفاتح العثماني. وتابعه أعظم علماء الإسلام ونذكر منهم على سبيل الذكر لا الحصر الباهلي ، الاسفرايني وأبو نعيم الاصفهاني ، والجويني ، والبيهقي ، والدارقطني ، والقشيري ، والقاضي عياض ، والنووي ، وفخر الدين الرازي ، والعز بن عبد السلام ، وابن حجر العسقلاني ، وأبو حامد الغزالي ، والشهرستاني ، والحاكم النيسابوري ، والباقلاني ، والجنيد... وغيرهم كثير لا يحصيه عد ، وما اجتمعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلال . ولقد نقض الأمام الأشعري العقيدة المعتزلية من خلال أصولها الخمسة وهي : التوحيد والعدل، والوعد والوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقد كان أدرى بهذه الأصول ،وكان أقدر على نقض ما لا يوافق الكتاب والسنة ، أو يتعسف في تأويل الكتاب والسنة من أجل إقرار ما ليس من السنة . ووضع الأشعري أصول عقيدته الموفقة بين النقل والعقل من غير تطرف في استعمال العقل أو تطرف في تأويل النقل . واعتنق المالكية عقيدته فهو مقر بأركان الإيمان ، وقائل بوحدانية الله عز وجل وصمديته ، وبرسالة نبيه وبشريته وعبوديته له تعالى ، وبحقيقة البعث والساعة ، ومقر بصفات الله تعالى دون تجسيم ، وقائل بعرشيته واستوائه دون كيف ، وقائل بقدم كلامه وعدم خلقه ، وقائل بحرية إرادة الإنسان وبقدر الله تعالى وقضائه ، وبزيادة الإيمان ونقصانه ، وبعدم تكفير الموحد ، وبعذاب القبر وبالصراط ، وبالشفاعة وبالحوض وبرؤية الله تعالى دون تشبيه أو تعطيل ، وبالخلد. وهو بذلك يتوسط أهل النقل وأهل العقل باعتدال رأيه المعتمد على ظاهر نصوص القرآن والحديث دون باطن تأويل ، ودون قبول حشو سبئية أو كعبية أوكشف غنوصية يهودية تلمودية أو مسيحية صليبية أو مجوسية زراديشتية أو مانوية أو مزدكية ، أو تأويل قياس وثني مادي يوناني . وقد استطاع الإمام الأشعري أن يفضح كل حشو مصدره هذه العقائد الفاسدة كلها. وأخيرا لا بد من التنبيه إلى أن الإمام الأشعري تعرض في الماضي ولا زال للتجريح والنقد بسبب عقيدته الوسطية فمن أعدائه من يتهمه بالاعتزال والتعطيل ومنهم من يتهمه بالتشبيه والتجسيم ، وكل ذلك إنما هو نتيجة التعصب العقدي داخل البيت الإسلامي أو نتيجة الدس الأجنبي خاصة اليهودي والمجوسي عبر معتقدات الفرق الكلامية . ولا بد من التنبه إلى تواصل التحامل على هذا الأمام الكبير خاصة من الفرق الغالية والطوائف التكفيرية فقد نجد مواقع إلكترونية وفضائيات تنال من هذا الإمام العظيم لأن أصحابها يقلقهم المشروع الحضاري الإسلامي الباني ، وهم يجتهدون في تعطيل هذا المشروع من خلال الجدل العقيم الذي يصرف عن الفعل والإجراء في الفيزيقا مقابل الحفر في ميتافيزيقا حسم القرآن الكريم أمرها منذ أول وهلة . وليس من قبيل الصدف أن تسود العقيدة الأشعرية معظم بلاد الإسلام فلولا أنها لم توافق الفطرة التي فطر الله الناس عليها لكان مصيرها كمصير غيرها من العقائد المتطرفة في خبر كان .

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل