المحتوى الرئيسى

عن ثقافة الاحتجاج! بقلم صلاح حميدة‏

04/25 21:28

*كتب : صلاح حميدة موجة عارمة من الاحتجاجات الشّعبية تجتاح العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، هذه الاحتجاجات وبالطّريقة التي تتم فيها، جاءت مفاجئة في التّوقيت والكيفية والاستمرارية، رغم كل القمع الذي يجري بحق المشاركين فيها، وهي حالة غابت عن العالم العربي لعقود طويلة، ولم يكن معهوداً أن يخرج الجمهور في مسيرات عارمة، تطالب بمطالب اجتماعية واقتصايدة وسياسية، فلم نكن نرى الجمهور إلا خارجاً بكبسة زر من الحاكم ومن لفّ لفّه فقط، يخرجون للنّفاق للحاكم والتّسبيح بنعمته، في تبجيل وإجلال قارب أوصاف الألوهية، حتى وصل الحكام العرب وجلاوزتهم لدرجة من النّرجسية والديكتاتورية والشّعور بالفوقية، لم يعد بعدها بإمكانهم رؤية الشّعوب العربية إلا كعبيد وقطعان وماسحي أحذية ومصفّقين. " إللي ما بيبوسش الجزمة، ملوش لزمه"... بهذه الكلمات كان أحد قادة وزراة الدّاخلية المصرية يخطب برجال الشرطة خلال الثّورة الشّعبية المصرية، فالمواطن مخيّر هنا بين أن يكون لاعقاً لأحذية النّظام القمعي، من الغفير حتى رأس النّظام، وبين أن يكون ( ليس له لازمه) أي بتعبير آخر حكم بالاعدام بدون محاكمة، وبشكل يستخفّ بآدمية الجمهور. أحد الأعراب قديماً جادل رسول الله عليه الصّلاة والسّلام في العطايا، وطالبه بالمزيد قائلاً: - ( هذا ليس بمالك ولا مال أبيك) وآخر طالب بالاقتصاص منه في غزوة أحد لأنه وخز صدره بقشّة، ولم نسمع أنّه غضب منهم ولا قتلهم. أبو بكر الصدّيق قال:- ( لقد ولّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني) والتقويم هو ( الاحتجاج القولي والعملي) والأساس هنا في العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي حريّة الاحتجاج، بل طلبه من قبل الحاكم وتشجيع الجمهور عليه. وعمر بن الخطاب، حاججه الأعرابي على طول ثوبه، وحاججته امرأة على تحديد مهر النّساء، وحاججه النّصارى في الجزية، ولم يزجرهم ولم يقتلهم ولم يغضب منهم، بل أخذوا ما يريدون، وتم الأمر لهم بعكس ما كان يريد خليفة المسلمين، وقطع القبطي آلاف الأميال ليشكو له ظلم إبن واليه على مصر، فأنصفه وعاقب الوالي وولده. في عصرنا، عندما يحتجّ الجمهور، فهو في عرف الحكّام وجلاوزتهم صاحب إحدى الصّور التالية... متآمر ومتحالف مع الخارج، فبينما يتمرّغ أغلب الحكام العرب في وحل الخيانة والعمالة للغرب، ويطبّقون تعليماتهم بحذافيرها، يصبحون في يوم وليلة، مناضلين وثوريين ومحاربين للغرب الاستعماري الصّليبي، ويتّهمون الشّعوب بالعمالة للغرب، ويستخدمون ضدّها ما يقوله الغربيون من شعارات، أو قيامهم بأفعال لمناصرة الحراك الشّعبي. مع أنّ مناصرة الغرب للحراك الشّعبي العربي شكليّة، و تأتي في إطار منح الفرصة الكاملة للحكام للإجهاز على الاحتجاجات، ولكن في حال تصاعد الوضع، يضعون قدماً هنا وقدماً هنا، وفي حال وصلت الأمور لحالة اللاعودة - مثل ليبيا- يبدأون بالانضمام تدريجياً لحركة الاحتجاج، في ظاهرة انتهازية مادية، همها الوحيد الاستثمار في الحالة الشّعبية العربية، وتحويرها - قدر الإمكان- لتكون غير معادية لهم، وخادمة لمصالحهم. وفي نفس الوقت، يساعد هذا التّدخل في تقوية حجج الحاكم المجرم في تقتيل شعبه، وفي ترويج أقرانه من الحكام العرب لما يسمّى بنظرية المؤامرة، عندما تتحرك شعوبهم ضد قمعهم لها وسرقتهم لأموالها وانتهاكهم لحرماتها. ولذلك نلحظ قيام الاعلام الغربي بتسريب تقارير مزعومة كثيرة، عن دعم أمريكي لمعارضين سوريين وعرب في سبيل الاطاحة بحكامهم، وهذه التّسريبات مقصودة، كما أنّها تترافق مع تصريحات لوزيرة الخارجية الأمريكية تقول بموجبها أنّ الغرب لن يتصرف مع الأسد مثل القذّافي إذا قتل شعبه مثل القذّافي، وهذه إشارة واضحة له للإيغال في دماء الشّعب السّوري بدون محاسبة، إمّا رغبةً في إبقاء الواقع السّياسي في سوريا كما هو، مترافقاً مع تهشّم صورته شعبياً وعربياً وعالمياً، بعد ارتكابه للمجازر بحق شعبه. أو رغبة منها باستدراجه مثل النّظام العراقي، عندما أعطت السّفيرة الأمريكية الضّوء الأخضر لصدّام لاحتلال الكويت. ولكن الظّاهر أنّ أصحاب النّظرة الإجرامية تجاه احتجاج الشّعب السّوري، كان صوتهم أعلى. والتّساؤل هنا، هل إقحام الجيش في معركة طحن حركة الاحتجاج الشّعبية، لفرض انتصار للحاكم المستبد على شعبه، عبر المجازر والدّبابات، حتى لو نجح، فأي أكاليل ستوضع على رؤوس من اقترفوا هذه الجرائم؟ فالحقيقة السّاطعة هي أنّ من يقتل شعبه مهزوم على كل الأوجه، وسيكلل رأسه بأكاليل العار، وليس بأكاليل الغار، ولن يغسل عاره ألف موقف مشرّف خارجي، مهما كان. في حديث لأحد مناصري الحكام العرب المجرمين بحقّ شعوبهم، استنكر استهجان تقتيل الحكام لشعوبهم، وقال:- ( هل كانوا يصلّون عندما قتلهم الحاكم؟) وهذا تعبير عن النّظرة الحمائمية لمجازر الحكام وجلاوزتهم، في حين يتّهم الشّعب المطالب بحقّه في حركة احتجاجية سلمية، بأنّه أجرم عندما احتجّ على الظّلم، فكيف يخرج ليحتجّ؟ ويقول:- ما داموا يأكلون وينامون، فما حاجتهم للاحتجاج؟ وكأنّ الشّعوب قطيع من الأغنام، يجب أن تهتم بالأكل والشّرب فقط. أمّا تساؤله عن كونهم كانوا يصلّون عندما قتلهم جلاوزة الحاكم؟ فقد قتل مصلّون في المساجد أيضاً ولم يكونوا يحتجّون، وكذلك هدمت مساجد وقصفت واقتحمت في أكثر من دولة عربية، خلال موجة الاحتجاجات الحالية. أحدهم كان غاضباً جداً من مطالب الشّعب، وقال:- ( كلهم حرامية وزعران، وكل ما نوافقلهم على مطلب بيطلعولنا بمطالب جديدة، وطالب بتقتيلهم، واصفاً المحتجّين بالخيانة والعمالة للخارج) موقف هذا اللا مسؤول العربي على قناة فضائية، يعكس نظرة وأسلوب تعامل هؤلاء مع شعوبهم، وكأنّهم يتصدّقون عليهم عندما يستجيبون لمطالبتهم بحقوقهم، وكأنّ هذا ومن معه يعطونهم عطايا وهبات من مالهم، لا أنّهم يعطونهم جزءاً من حقوقهم المهدورة والمسروقة. مش عاجبهم شي!... صورة أخرى من المنطق الأعوج لتلك النّظم وأجهزتها القمعية، فعندما يحتجّ النّاس على القمع والاهانة والفساد ويطالبون بالكرامة، ويرفضون الحذلقة والاستخفاف بعقولهم، عبر التّلاعب بالقوانين والفبركات الاعلامية والمماطلة، فهم متكبّرون ولا يعجبهم شيء، وبالتالي هذا يبرر قمعهم وملاحقتهم وتقتيلهم، وكأنّ النّظم المتعفّنة الفاسدة، كاملة الأوصاف ولا يجوز نقدها، فإذا كان الرّسول عليه الصلاة والسّلام وخلفاؤه تقبّلوا النّقد والزّجر وطالبوا الناس بتقويمهم على الملأ- من باب أنّه حق أصيل لهم وليس منّة منهم- فمال هؤلاء الأقزام يتعالون عن النّقد والاحتجاج، حتى في حدوده الدّنيا؟. فالمفكّرون والحقوقيون والأدباء والكتّاب والصّحفيون كلّهم مستهدفون في تلك الدّول، فمن لا ينافق، فهو مارق، ومن لم يعجبه شيء -حسب رؤية هؤلاء - فهو محل استهداف، وكما قال كاتب ومحرر صحيفة عربية :- ( كتبت مقالاً، نشرت مقالاً، فصرت موضوعاً لمقال). أضعف أنواع الاحتجاج مرفوض...بعض السّياسيين والمفكّرين ورجال العلم والدّين، يحتجّون بطرق مختلفة، فمنهم من يستقيل، ومنهم من ينصح الحاكم- دون جدوى- ويستمرون في تلك الطّريق، متحاشين قطع الخيوط مع الحاكم وجلاوزته، ولكن حتى هؤلاء أصبحوا محلاً للهجوم والاستهداف في الدّول العربية هذه الأيام، فهؤلاء ينطبق عليهم توصيف الحاكم ومن معه، أصحاب موقف ( الوضع جيّد، الوضع غير جيّد) فالمطلوب منهم -حسب المنطق القمعي- هو القول أنّ الوضع جيّد وأنّه لا شيء يوجب الاحتجاج، وعندما يرون القتلى بالمئات عليهم أن يغمضوا أعينهم، وعندما تزكم أنوفهم رائحة الفساد فعليهم إغلاق أنوفهم والعمل كمحامين عن مؤسّسة القتل والعمالة والفساد. أنا غير.... عندما سقط بن علي في تونس، قال مبارك أنا غير بن علي، ولا وجه شبه بيننا، فلحقه على وجه السّرعة، ثمّ قال القذّافي وولده ( إحنا مش تونس ومصر) وهم على الطّريق، سيلحقون بهما، وكذلك يفعل علي صالح والأسد، فكل شيء مباح ما عدا إعطاء الشّعب حرّيته وحقوقه، وما عدا محاربة الفساد والفاسدين، وما عدا الخضوع للإرادة الشّعبية، حتى لو احترقت البلاد وغرق العباد في دمائهم، هؤلاء وغيرهم يعلنون أنّهم سيقمعون أي ثورة احتجاجية مهما كان الثّمن، ويسوّغون ذلك بمسوّغات كثيرة، ولكن هؤلاء سيذهبون وستبقى الشّعوب. استدعاء الطّائفية والمناطقية والعرقيّة العنصرية... وهذه أفضل وصفة عند هؤلاء لاستباحة الحراك الاحتجاجي الشّعبي، فلإجهاض الحراك الكردي شمال العراق، تفتعل مشكلة في كركوك، ولاجهاض الحراك الشّعبي في بغداد والبصرة وغيرهما تفتعل المشاكل الطّائفية بين السّنة والشّيعة، ولكبت الحراك الشّعبي في دول خليجية وفي إيران يقوم ساسة وإعلاميون بافتعال سجال طائفي، يحرف اهتمامات قطاعات واسعة من النّاس عن الحراك الحقيقي الّذي يزيل الجدران الاسمنتية التي تفصل ما بينهم، ويجعلها متّحدة متكافلة في سبيل خلع القمع والفساد والدّكتاتورية، ومن يتبنّون هذا المنطق في التّفاعل مع الثّورة العربية الحالية، ليسوا إلا منافقين واستبداديين وانتهازيين، فالمعيار هنا هو، إمّا أن تكون مع الحرّية والكرامة الشّعبية أو لا. أهم ما يميّز الثّورة العربية الحالية أنّها نشرت ثقافة الاحتجاج بين النّاس، وبات تحجيم هذه الثّقافة ومنعها من الانتشار مستحيلاً، ولذلك فقطار التّغيير سيستمر بالحركة، ومهما حاول المستبدّون وأعوانهم إعاقة حركته فلن يستطيعوا، فقد نهضت الشّعوب العربية من كبوتها، ودبّت في عروقها دماء الكرامة والحرّية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل