المحتوى الرئيسى

الأنا والمختلف في الخطاب السياسي الفلسطيني بقلم:د.سعيد عياد

04/24 20:38

الأنا و " والمختلف"" في الخطاب السياسي الفلسطيني بقلم /دكتور سعيد عياد باحث في شؤون الإعلام على مدى تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية الممتدة في عمق مائة عام ويزيد من الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، شهدت ساحة النضال الفلسطيني توترات محكومة بالظرف والمكان الزمان، بين مكونات الذات النضالية الفلسطينية، """ الأنا "" و " والمختلف""" في الذات، اقتضتها تركيبة الشعب الفلسطيني الاجتماعية، وكذا ظروف تشكل فصائل المقاومة والأحزاب وتدخلات عربية وواقع سياسي خارجي متغلغلا في العمق الفلسطيني تأثيرا وأحيانا توجيها. وقد شكلت أوسلو ( 1993 ) وأحداث أخرى تالية أخطرها الانقسام في عام 2007، صداما حقيقيا بين الوعي الفلسطيني وما تختزنه ذاكرته الفردية والجمعية من مكتسبات تاريخية وثوابت وتضحيات وأدبيات، أُسبغ على كثير منها في مراحل معينة سمة القداسة فباتت من المقدسات التي لا يجوز الاقتراب منها، وفي طليعة تلك الأدبيات حرمة دم الفلسطيني على الفلسطيني والبندقية التي تنحرف عن غايتها خائنة، وفي مقدمة المقدسات السياسية القدس وحق العودة والدولة، وبين الواقع الجديد الذي أخذ يلح بفرض الواقعية والهبوط بالمقدس التاريخي والسياسي إلى مستوى هذه الواقعية، لينسجم مع الرؤية الجديدة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لقد شكل ذلك بداية صراع حقيقي بين "" الأنا"" و " المختلف """ في الذات، خصوصا أن قواعد الاختلاف قد انتفت لتحل محلها قواعد وأنماط الخلاف على أساس ألإقصاء الذي يقوم على قواعد الإدارة العنفية للاختلاف وليس على قاعدة الإدارة السلمية لهذا الاختلاف. ليس المقصود هنا، إصدار أحكام تقييمة على الخطاب السياسي الفلسطيني وما ينتجه، فليس المسعى دراسة مضمون الخطاب كآراء وأفكار ونظريات، إنما فقط تجريد بنى هذا الخطاب ومن ثم تحليل إشكالاته وما ينتج عنها، وتحديدا الخطاب المنتج من جانب الذات الفلسطينية والموجه إلى المختلف معه ويشكل الجانب الآخر من نفس الذات.ف إذا فإن ذلك هو محاولة تتوسل الموضوعية، لتوصيف ربما يكون إضافيا لجانب من حالة العجز السياسي الفلسطيني، التي أفرزت حالة واضحة من القنوط المدمر الذي يعيشه المجتمع، ربما بلغ مبلغا ليس له مثيل على مدى العقود الأربعة الماضية التي أعقبت عدوان حزيران في العام 1967.ومع ذلك ليس ثمة إدعاء بأن المعضلة الفلسطينية بكل مكوناتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، هي معضلة خطاب سياسي موجه للذات الفردية والجمعية، فمن العسف اختزالها في ذلك، وإنما من دون شك هو أحد أسباب هذه المعضلة، لأن الخطاب كما هو انعكاس للحالة والواقع ومنتجاته، فهو أيضا منتجا للرؤى ووسيلة وأسلوبا للتعبير عن هذه الرؤى وهذه الحالة برمتها.فهذا الخطاب أسهم في إنتاج ما يمكن وصفه ب "" أقرب إلى كارثة وطنية من تحقيق إنجازات وطنية تاريخية """ ( المصري.2006.ص 49).فما يجري على الساحة السياسية الفلسطينية "" هو تعلم سياسة في الشعب، بسبب نقص احتراف العمل السياسي""" ( غانم.2006.ص 71).إن هذا المنهج الضعيف أنتج خطابا سياسيا ضعيفا، على مستوى المضمون وعلى مستوى الفعل والممارسة، خطابا متعددا متناقصا متغايرا متباينا مناقضا لذاته صراعيا بين مكونات الذات التي يفترض أن يعبر عنها في إطار جماعي وحدوي، فالمشكلة أو الإشكالية بتعبير أدق تكمن في كيف "" نوحد خطابنا السياسي، فكل خمسة فلسطينيين لهم مرجعية ووجهة نظر خاصة بهم""" (نفسه.ص71). كان هذا نتاج الجرعات المصممة سلفا والمتواصلة عبر سردية خطاب سياسي ثقافي مقولب لتحفيز "" الأنا"" ضد المختلف وإظهار الأنانية وتغليب الأحادية في الفكرة والرؤية والممارسة، كل ذلك أدى إلى "" الانهيار"" انهيار "" الأنا"" و"" المختلف "" معا بعد الرابع عشر من حزيران عام 2007 حيث انقسمت الذات الفلسطينية على نفسها وصارت ذاتين تطورتا في صراعهما إلى مرتبة "" الأعداء"" بعد تغيير متعمد لأطراف معادلة الصراع، "" فبدلا من الانقسام التقليدي بين "" نحن"" ( الفلسطينيون) ""وهم"" ( الإسرائيليون)، تم اختطاف الخطاب العام الفلسطيني من خلال سرديات جديدة للتمثيل والشرعية التي ظهرت بقوة حول التمييز بين "" نحن"" ( فتح ) ضد """ هم"" ( حماس ) والعكس صحيح"""( شرقاوي.2011 .ص 10).ولكن هذه السرديات التي تفجرت بعد انقسام الذات على نفسها، كانت تتفاعل في الوعي واللاوعي السياسي والثقافي والاجتماعي والأيديولوجي للشعب الفلسطيني منذ أربعين عاما قبل الانقسام الذي هو نتيجة لتلك التفاعلات ونتيجة للتنشئة السياسية الاجتماعية الثقافية الإقصائية، للأجيال المتعاقبة داخل هذه الحقبة وبتأثيراتها، حيث جرى علنا وفي الخفاء وفي الكواليس وفي عتمة الليل، وبين سطور الأدبيات الحزبية، تحريض ضد "" المختلف"" ، والمختلف هنا متبادل بين أطراف الاختلاف، ""الأنا"" تصير مختلفا و "" المختلف"" يصير """أنا"" حسب منطلق وزاوية الرؤية من داخل الذات.فعلى مدى أربعين عاما كثيرا ما يكن يصعب إيجاد فروق بن "" نحن"" و """هم "" في الذات الفلسطينية في تصارعهما على الشرعية والتمثيل، وتصارع "" نحن "" الفلسطينية مع ""هم "" " الإسرائيلية عند محاولة هذه الأخيرة انتزاع شرعية الوجود من "" نحن"" الفلسطينية.فالصراع من أجل الإقصاء والإلغاء والإنكار يكون ذاته بصرف النظر عن من هم أطرافه، فلا فرق إن كان داخل الذات أو كان بين الذات نفسها وعدوها الخارجي، لأن أدوات ألإقصاء واحدة والنتيجة واحدة، بل أحيانا سواء في لحظة الانقسام أو خلال سنواته الطويلة المريرة تم ""استعارة"" أدوات الاحتلال نفسه ومهاراته التي كان مارسها ضد الذات الجمعية الفلسطينية ( الأنا والمختلف ) لستين عاما ويزيد، لقمع المختلف واقتلاعه ونفيه.ألم يسقط قتلى بالمئات وتُحرّق عشرات الدور والمقار الرسمية ومن ثم تم إلغاء وجود المختلف في غزة بعد انقلاب عام 2007، لتنتقل شرارة الانتقام بعد ذلك إلى الضفة الغربية ( الوسط الشرقي من فلسطين ) فتجري عمليات إلغاء كل ما يمت بصلة إلى جهة الانقلاب.إذا في هذا السياق وبما نتج عنه، أليست الضحية التي سقطت في الصراع بين ""الأنا "" و "" المختلف "" في الذات هي فلسطينية، والضحية التي سقطت في الصراع بين "" نحن"" الفلسطينية ""وهم"" الإسرائيلية، فلسطينية أيضا ؟ تتجلى في الخطاب السياسي الفلسطيني منذ العام 1974 بوضوح عمليات إقصاء عكسية أو متعاكسة للأخر بمفهومه المختلف في الذات وبمفهومه العدو الخارجي ( الكيان الإسرائيلي ) للذات، فبفعل التطورات السياسية والتراجع التدريجي في مفاهيم ورؤية إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، من الكفاح المسلح كوسيلة وحيدة إلى المفاوضات كخيار استراتيجي ووحيد مع الإصرار على إسقاط خيار الكفاح المسلح بمبررات التغيير الإقليمي والدولي، وتضعيف أشكال المقاومة غير المسلحة واستدعائها كورقة ضغط آنية ومحدودة فقط وفي فترات متباعدة جدا إذ تكون قد بهتت في الوعي.وبفعل التنازع الداخلي بين قوى الشعب على التمثيل والشرعية، وإن كان التراجع في مفاهيم وأدوات الصراع مع العدو الخارجي أحد الأسباب الرئيسة لهذا التنازع.فيلاحظ أن المختلف في الذات ( بحسب زاوية النظر ) يتم إقصائه ونفيه خارج الذات الجمعية الفلسطينية إما بانقلاب دموي أو بإقصاء وجود من الفعل السياسي والاجتماعي في إجراء انتقامي مضاد، ومن ثم نعته بصفات وسمات سياسية ومعرفية تحوله من شقيق إلى "" عدو داخلي"" لكي يتم تبرير كل عمليات النفي والإقصاء، في المقابل وبسبب خيار التفاوض الاستراتيجي مع العدو الخارجي، كان لزاما لانقلاب ولكن انقلابا ناعما في المفاهيم وأدوات التواصل مع هذه العدو الذي يصير بحكم التغيير ومتطلبات عملية السلام، شريكا وطرفا أخر وجارا وابن عم، أو يمكن مهادنته لمدة قصيرة أو لعشر سنوات وحتى لخمسين عاما ويمكن تفهم وجوده وإن كان ليس ضروريا الاعتراف به، فيصير من أهل الذمة الذي لا يجوز مهاجمته بموجب اتفاق الهدنة.إذا هنا تغير أيضا في مفهوم الأخر وفي صفاته وفي مكونات الروابط معه، فبدل رابطة الدم والدين واللغة ووحدة الحال، يمكن أن تصير الرابطة سياسية تصالحية والعيش على أرض واحدة في كيانين مستقلين مع عدم اعتبار للمساحة والحدود.فالعدو يُقصى من الوعي كعدو ويصير شريكا، والمختلف في الذات يُقصى كشريك ويصير "" عدوا"". فقد أنتجت عملية الإقصاء التضادية في الوعي الفلسطيني تبادلية، إذ استبدل المختلف في الذات بالعدو الخارجي ليحل مكانه ويمكن التوصل معه إلى حلول وسط ( تسوية سياسية ) وأن يتم حل الخلافات بمفاوضات مباشرة أو غير مباشرة ومن خلال إبرام اتفاقات أو عبر وسيط وطرف ثالث والتعهد بعدم الاعتداء بالالتزام بهدنة طويلة الأمد والعمل على حمايتها ومنع كل اختراق لها، ويكون الالتزام صارما.أما المختلف الشقيق فيُرحل إلى خارج الذات ويُبوأ قصرا مكان العدو ليصير فعله وسلوكه عدوا حقيقيا، فتنقض اتفاقات المصالحة قبل طيها، وتثار حروف الجر في ورقة المصالحة المصرية لتصير كارثة وطنية تمس مكانة ودور الطرف الأخر في الصراع، في حين أن أل التعريف في قرار 242_ مثلا _ التي يسبب غيابها تضييع ثلث الأراضي المحتلة عام 1967، أمرا ليس جديرا بالبحث لأن النوايا الحسنة هي الأهم. لقد تم التخلي طوعا عن كل أنماط التفكير السابقة الإقصائية ضد العدو المحتل للأرض، واستبدلت بأنماط تفكير استيعابية تشاركية، وأجريت قصدا عملية تبادلية لهذه الأنماط، فالعدو الحقيقي يمكن استيعابه ومشاركته في كل شيء في الأرض وفي الماء والهواء والبحر والمعابر وفي سلة الغذاء، ويمكن محاورته وتغليب الدبلوماسية على التصارعية، واعتماد خريطة الطريق المرجع الفصل عند أي خلاف، أما المختلف في الذات فيجب إبقاءه وبإصرار مسبق، في دائرة الشك وملاحقته بالتشكيك وإنكار فعله واستلاب حقوقه، واعتماد البندقية المرجع الفصل لحسم أي خلاف. انقلاب المفاهيم وتغيير مواضع العدو في الوعي السياسي، أنتج لدى الشعب الفلسطيني مكونات معرفية ترتب عليها أبعاد سيكولوجية أنتجت تنشئة اجتماعية سياسية ثقافية تصادمية صراعية، يعكسها سلوك سياسي ومادي تدميري فعلا وقولا وإقرارا.ومع مرور الوقت وتوظيف منابر جماهيرية مؤثرة ( وسائل إعلام وتواصل اجتماعي، منابر مساجد، حملات تعبوية، مظاهرات، منشورات، أدبيات، تصريحات...) تم تذويتها في وعي أغلب الجمهور، فانقسم على ذاته وفي وقت لاحق على الانقسام تشظى الشعب فغزت وحدته الانشطارات.ولم يعد بالنسبة له ثمة فرق تميزي كبير بين من هو العدو الحقيقي أو من هو العدو المصطنع، لأن شعاره الاستراتيجي للتخلص من الاحتلال تطور ليزدوج في وضع غير مسبوق "" الشعب يريد إنها الاحتلال الشعب يريد إنهاء الانقسام""، إذا هو احتلالان احتلال مادي للأرض من طرف عدو حقيقي، واحتلال للذات وأعمق احتلال للنفس من طرف مختلف رُقي إلى مرتبة ""عدو"".في النتائج السياسية والمادية فإن نتائج الاحتلالان متقاربة أو حتى متماثلة مع فارق الفاعل، فالعدو الخارجي الحقيقي يحتل الأرض ويشرد ملايين الفلسطينيين ويقتل يوميا فلسطينيين ويدمر عشرات المنازل ويعتقل ألاف الأسرى.والانقسام وهو العدو من داخل الذات ينتج فصلا جغرافيا وسياسيا بين إقليمي السلطة الوطنية، وامتلأت السجون في طرفي الجغرافية المجزأة بعشرات المعتقلين من المختلف وبعضهم لقي حتفه داخل السجن، وأوقع الانقسام لحظة تفجيره مئات القتلى من الفلسطينيين، وشرد ألاف الأسر من غزة إلى الضفة ( الوسط الشرقي من فلسطين ) أو إلى الخارج، وابتدع رأسا إضافية للشعب الفلسطيني فصار يُحكم بحكومتين وبمنهجين مختلفين وبمرجعيتين متضادتين وبرؤيتين متنافرتين.ولكن ثمة فرق واحد بين احتلال العدو الحقيقي والانقسام العدو، هو أن العدو الحقيقي رغم فظاعته وشروره وشراسته وخروجه عن كل القيم الإنسانية، لم يتمكن أبدا من النفس الفلسطينية وفشل في قهرها فقد احتل الجسد ولم يحتل الوعي، أما الانقسام فاحتل الجسد بانتهاكه وتمزيقه واحتل الوعي واخترق النفس وزلزلها وقهرها وكان الألم فظيعا. فقد ولد في عهد الانقسام جيل ولج المدرسة، وهو يرسم بين أسطر دفاتره صورا ورسومات لأبيه أو أخيه أو جاره الذي قُتل أو عُذب بيد شرطي أو رجل أمن يُصرّ على وضع شارة على ذراعه تشير بأنه من منسوب قوة فلسطينية، وحفر في وعيه عمليات الدهم الليلية لمنزل عائلته وإيقاظه ليفاجئ أن والده أو شقيقه صار ضمن كشوف المطلوبين الخطيرين.وفي ساعات المساء تلاحقه الأحداث التي تختطف الشاشة، عن فشل مفاوضات المصالحة، وحينما يتساءل عن الذي يجري يأتيه الجواب عبر تصريح لمسئول كبير إن الانقسام هو من متطلبات المصلحة العليا للوطن.هذا الطفل وخاصة في غزة الذي لم ير الاحتلال في عهد الانقسام، تتدخل في تشكيل وعيه وسائل الإعلام والمنابر والمظاهرات في الشوارع والمشاهد المباشرة في حييه، وصالون المنزل الذي كان لا يشغله سوى سؤال مصيري إلى متى ؟ سيرث هذا الطفل ""جيل الانقسام"" التركة الأكبر لسيكولوجيا الانقسام ومفاهيمه المعرفية ونتائجه ويحملها معه إلى قادم حياته وربما وفي غياب الدعم النفسي والاجتماعي والمعرفي، سيعتبرها مفاهيم صحيحة وصالحة ليتعامل بها ومنطلقا منها مع المختلف معه في المدرسة أو الحي، وحينما تمضي به الأيام ستصير جزءا من قاموسه السياسي الاجتماعي، فيعيد إنتاج الانقسام ربما بأشكال مختلفة وربما بذات الصورة الأصلية التي لن تغادر وعيه. لقد طغت أحداث الانقسام وصراع المصالحة على نشرات الأخبار واحتلت العناوين الأولى للصحف، وتراجع كثيرا خبر الاحتلال وفظاعاته، حتى في غمرة العدوان على غزة نهاية 2008 ومطلع 2009، كان الانقسام والتشكيك يشغل حيزا من مساحة العدوان الفظيع، وبدل الانشغال الجماعي لوقف العدوان، والعمل على ترحيل الخلاف ولو مؤقتا، كانت التهم جاهزة لتُلقى على المختلف إما بأنه متآمر مع العدو الخارجي في التخطيط للعدوان وتنفيذه، وإما من وجهة نظر الجهة المقابلة في الذات أن المختلف قدم المبرر للعدو ليصب رصاصه المصهور على رأس مليون ونصف المليون فلسطيني، بسبب رفضه الانسجام مع المصلحة الوطنية العليا.وتعاظمت الاتهامات المتبادلة حتى طغت على مضمون تقرير غولدستن _ تم التراجع عنه فيما بعد بضغط أمريكي _ لمجرد أن تم تأجيل النظر فيه في أروقة مجلس حقوق الإنسان ألأممي لفترة وجيزة، اتهامات شغلت الدنيا أكثر مما شغلتها جرائم الاحتلال التي يفضحها غولدستن.وانبرى منظرو طرفي الصراع يجوبون شاشات الفضائيات باسطين خطابات صيغت بأقسى العبارات وبأكثرها وضوحا وقوة لفضح الأخر المختلف سواء من حيث الموقف من العدوان أو من حيث الموقف من تقرير القاضي الدولي، بينما كانت تلك الأصوات "" مبحوحة"" حينما كان رصاص العدو الحقيقي يحصد أطفال القطاع ويبتر أطراف العجائز. إن الانقسام هو مولود مشوه لمخاض وعي سياسي حُقن عبر سنوات طويلة ماضية بمفاهيم أدت إلى اختراع "" الأخر العدو "" بدل المختلف في الذات، وبُنيت قواعد ذلك على أساس أيديولوجي وعنصري فئوي حزبي، ثم تطورت إلى مفاهيم ثقافية فصارت معايير مقبولة لدى كل جانب من الذات الجمعية الفلسطينية "" الأنا "" و """ المختلف "" في الحكم على السلوك الناظم للعلاقة المتبادلة بينهما.وهذا بدوره أدى في النهاية إلى إقصاء عام للمختلف في الذات سواء كان ناظرا أو منظورا إليه.إذ بات شرطا في الخطاب السياسي ومكونا أساسيا فيه.إن هذا يعود في أهم أسبابه ومسبباته إلى مآزق النظام السياسي الفلسطيني بكل مكوناته الفصائيلية الوطنية وإطارها العام منظمة التحرير الفلسطينية ومن ثم وليدتها السلطة الوطنية الفلسطينية وفصائل التيار الإسلامي وإطارها العام الإخوان المسلمين.هذه المآزق التي أنتجتها أيديولوجيات متباينة ورؤى متناقضة وأساليب نضال متضادة ومرجعيات سياسية متصارعة.استنفرت أدوات كثيرة لتحقيق شرط الإقصاء العام، منها الإنكار والتجاهل والشك والتشكيك والحكم المسبق، وقد تم الاستسلام لهذه الأدوات وتبنيها فتحولت إلى طقس وتقليد يدير الصراع داخل الذات بين "" الأنا "" و "" المختلف ""، ثم جري تداولها وتوارثها وكأنها إرث لكل منهما.حيث يتم توريثها من العقل السياسي ألإقصائي المنتج لها إلى العقل الاجتماعي المستهلك لها ويمثل عامة الناس متلقي الخطاب السياسي.وقد كان لذلك فعله المؤثر فقد انعكست تلك الأدوات في التفكير الجمعي للمتلقين، ونمت ببطء ولكن بقوة مفاهيم جديدة أكثر صراحة وتخصيصا وأكثر تعرضا للوحدات الاجتماعية في المجتمع تقولب في أبعاد جغرافية ضيقة لتعبر عن "" انقسام"" اجتماعي على أساس جغرافي ققُوّلِب في عبارات مستفزة وخطيرة من مثل : ( غزة _ الضفة )، ( الداخل _ الخارج )، ( شمال الضفة _ وسط الضفة _ جنوب الضفة ) ، ( لاجئ _ غير لاجئ ) ، وما شاكل.وتستثار هذه المفاهيم بدوافع اقتصادية أولا إذ أن مصدرها المناطق الأكثر تهميشا وهشاشة تنموية، ثم بما يترتب عليها من أبعاد اجتماعية، يعبر عنها في إطار جغرافي لآن ذلك يضمن دعم شعبي جماعي لإشباع تلك الدوافع، وتُستدعى خلال ذلك أبعاد وطنية ( نحن ناضلنا وقدمنا الكثير ) ثم تؤطر في بعد سياسي لإضفاء الشرعية.ويجري ""التمترس"" ( بكل ما لهذه الكلمة المستعارة من خطاب المواجهة، من دلالات عنفية ومواقف ضدية ضد المنطقة الأخرى أو الفئة الاجتماعية الأخرى حسب الموقع الجغرافي )، ويوظف التمترس كمصد ثقافي اجتماعي يُضرب حول كل تصنيف _السالف الذكر أعلاه _ بما يخدم المصالح الاجتماعية والسياسية والوظيفية، وبما يعزز هيمنة كل منطقة على بيئة صناعة القرار، مما يهدد بكيفية ما أسس العيش المشترك بين كل وحدات المجتمع الاجتماعية أو مناطقه الجغرافية، في حين يتراجع مفهوم المواطنة الجامع إلى الحدود الدنيا، وهذا بدوره سيضعف البنية الاجتماعية كأساس قوي ومهم لإقامة الدولة.ويتساوق النظام السياسي الفلسطيني بكل تكويناته علنا ودون تردد مع هذا التقسيم الذي هو كان زرعه أصلا في الوجدان العام بفعل عقله السياسي ألإقصائي، فتشكيل الحكومة يجب أن يخضع لهذا التقسيم وكذلك الوظيفة العمومية، وتشكيلة المجلس التشريعي التي يفترض أن تتم عبر صندوق الاقتراع المباشر يجري أولا إخضاع نظام الانتخابات إلى الكوتة الجغرافية بحيث توزع المقاعد حسب حجم كل إقليم ومن ثم حسب حجم كل محافظة داخل الإقليم الواحد، بمبرر ضمان التمثيل السياسي لجميع الناخبين. ولكنه يترسخ في الوعي كتمثيل اجتماعي جغرافي، يصبح مع مرور الوقت جزءا من كينونة الناس الاجتماعية السياسية التي يصعب التنازل عنها أيا كانت الاعتبارات والمبررات التي تستوجب ذلك فيما بعد، باعتبارها حقا مكتسبا.وفيما لو جرت محاولات لإعادة تحريك هذه التقسيمات ولو في نطاق محدود جدا كمتطلب لمصلحة وطنية جامعة، ينتفض الوعي ""الإقليمي أو المحافظي ( من محافظة )"" ويطالب بعدم المساس بحقه، ويلاحظ أن الوجدان العام في هذه المسألة يتنازل _ مؤقتا _ عن فئويته الحزبية الفصائيلية، ويتوحد معا لأجل استعادة أو فرض حق الإقليم أو المحافظة وإذا ما تحقق ذلك يتخلى هذا الوجدان عن وحدته المؤقتة ليعود إلى صراعه البيني ليستأثر هو بكل هذا الحق. على مدى ثلاثين عاما كان التصارع داخل الذات الجمعية على المنهج في النضال ضد الاحتلال، ثم بعد "" أوسلو""1994 أضيف إلى المنهج اصتراع التمثيل والشرعية، أي شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني، وبالتالي اختيار المنهج المناسب لإنهاء الاحتلال.مما يعني أن "" الأنا "" ترى في نفسها مرجعا تاريخيا للمختلف والعكس صحيح.وفي حال تمرد المنظور إليه ورفضه للمرجع التاريخي يُطور من مختلف إلى ""الأخر العدو""، فيصبح مصدر خوف وقلق وخطر يتهدد الشرعية فتسل القوة من غمدها ويحارب. إن ""الأنا"" تطور المختلف و العكس صحيح، إلى درجة "" الأخر الخارجي العدو "" في ظروف زمانية ومكانية وسياسية محددة.وكأن اختراع "" الأخر العدو"" في الذات هو ضرورة إشباع الأنا أو المختلف لحاجة إثبات الوجود والقوة والحضور والتمثيل.ويلاحظ أن ذلك يظهر أكثر حينما يخبو الصراع مع العدو الخارجي.فالانقسام حدث بعد إعادة تموضع قوات الاحتلال في محيط قطاع غزة، وسابقا حدثت الانشقاقات داخل بعض فصائل منظمة التحرير أثناء فترة الهدوء في الصراع مع الاحتلال.وتتوافر في المختلف بالنسبة للأنا ما يهيأ ليصير المختلف ""الأخر العدو"" فهو الأقرب ويعيش بين ظهراني الأنا ويكون الاختلاف حول أو على شيء مشترك.فإن الغياب المؤقت أو التواري للعدو الخارجي، يزيد من احتمال أن تدخل الأنا في صراع مع نفسها، فتبحث عن كبش فداء تجده في المختلف لتحميله أزمتها التي قد تكون تنظيمية أو فساد أو عجز عن الإنجاز أو قصور في تحقيق هدف معلن، أو فشلها الدائم للاستئثار والهيمنة على مؤسسات صنع القرار.ففي ظل عدم بروز العدو الخارجي يتم تحويل المختلف إلى أخر وتحميله أسباب العجز والقصور. إن أصل العلاقة المفترضة بين جانبي الذات ""ألانا""" و ""المختلف"" هي علاقة اقتران تقوم على الاستيعابية والتشاركية الضرورية للحفاظ على توازن الذات ومنعها من الانشطار.ولكن حينما يتطور الاختلاف بينهما في وجهات النظر أو المواقف حول قضية مشتركة، بفعل تباين المرجعيات والمنطلقات، فإن كل جانب يعمل على تحويل الجانب المقابل أو "" الأخر الجواني أو الأخر النحن"" ( لبيب.1999.ص ص 19_21)، إلى ""ألأخر العدو"" الخارجي لأنه يمثل في الأصل المناقض للذات، فتتم استعارته وإحلاله محل المختلف الذي بات يتبوأ مرتبة النقيض من وجهة نظر الأنا وليس المختلف في الرأي أو الموقف.عند ذلك تتحول الاستيعابية أو التشاركية إلى تضادية إقصائية .إذ يحاول كل جانب في صراعهما التنافسي أن يصور نفسه على أنه يعبر عن الرغبات الدفينة المكبوتة أو الصريحة للجماهير، وأنه الأقدر على تحقيقها وإنجازها، ويعظم مكانته ودوره ليثبت أنه الأجدر والمؤهل للدفاع عن المصلحة الوطنية العليا.ويكون هذا التصوير للذات مصحوبا بجهد عقلي مشحون بكل الأدوات التي تبث تلك الأهلية والجدارة لنفسه، مقابل أدوات تنفي مكانة ومقدرة المختلف.فتضخم "" الأنا"" _ حسب زاوية النظر_ نفسها وتُشيّد لها برجا لتنظر من عليائها إلى المختلف على أنه دائما المشكوك فيه مع المغالاة في وصف سلوكه وأهدافه المعلنة ويُحمّل أهدافا غير معلنة أيضا فيحاسب على نواياه، ليسهل إقصائه ونفيه من الذات، مع تطوير أو استعارة أدوات انتقام تحقق الإقصاء، وتُصطنع مبررات قد تصل إلى درجة ""التشطين"" حتى يكون الفعل ألإقصائي مقبولا، بغض النظر عن ما سيترتب على هذا النفي من أثار سلبية على الذات الجمعية"" إن نفي الأخر هو بتر للذات بمعنى أنه قطع لجزء منها هو الجزء الملعون من الذات هذا رغم أنه ضروري لاكتشافها "" ( العريف.1999.ص 89). إن النتيجة الحتمية للبتر بفعل الإقصاء المشحون بالصور النمطية المتوارثة، حدوث اختلال في توازن الذات فتنهار إما بالانقسام أو التشظي، فيضعف جانبيها "" الأنا "" و "" المختلف "" ومن ثم يسهل اختراقها من "" الأخر العدو الحقيقي"" حيث يستفرد بكليهما ويملي شروطه ويحدد مسار علاقاته مع كل منهما. إن المعضلة بين "" الأنا "" و "" المختلف "" في الذات الفلسطينية، تنتجها الصور والأحكام السلبية المسبقة المتكونة لدى كل جانب عن الجانب الأخر، والصور "" ليست هي الأخر، فصورة الأخر هي بناء في المخيال وفي الخطاب، الصورة ليست الواقع، حتى وإن كان الصراع حولها من رهانات الواقع، ولأنها كذلك فهي اختراع"" ( لبيب.1999.ص 21).إن كثيرا من مواقف الأنا من المختلف تبنى على توقعات أو مغالطات نتيجة لسوء فهم للرسائل المتبادلة أو الرسائل المعبرة عن موقف ما حول قضية ما، أو لسوء تواصل بفعل عدم توافر الإرادة السياسية والنفسية لإجراء هذا التواصل، فتتكون صور مشوَهة ومشوِهة فتكون النتيجة استنتاجات خاطئة ومن ثم حكم خاطئ يبنى عليه قرار خاطئ. يعمم هذه الأحكام ومن ثم القرارات خطاب سياسي محقون بمفاهيم وأنماط تشويهية ويحاول دائما تحويل الصور إلى واقع حقيقي ليبدوا مقنعا، مع تغليب مثالب المختلف والنبش في ماضيه واجتزاء نصوص و سلوكيات من سياقاتها وتقديمها كبرهان على سوء نيته أو أفعاله المتوقعة مستقبلا، مع طمس متعمد لكل الصفات الإيجابية لدى هذا المختلف، فيبدو متوحشا قمعيا سالبا مخيفا خطرا أو خائنا انهزاميا متساوقا كافرا، فتتكون صورة نمطية عنه يجري ضخها عبر وسائل الإعلام ومن على المنابر وفي مظاهرات الشوارع في وعي جمهور حائر، وحينئذ لن تنفع أية جهود مهما كانت قوية لإزالة هذه النمطية مستقبلا.وفي المقابل يكون الخطاب مليئا باشتراطات تعجيزية لتحول دون أية محاولة للتقارب أو مقاربة المواقف. لقد أسهم الخطاب السياسي الفلسطيني المتبادل بين مكونات الذات بكيفية ما وعلى نحو قاطع في انتزاع الدور التكميلي للمختلف في الذات واستبداله بدور شيطاني، مما أدى في النهاية إلى تصفيته أو على الأقل تصفية دوره، مع أن هذا المختلف هو """ ضرورة باعتبار ما له من وظيفة في بلورة الهوية وفي تنظيم الخصوصية""" .إن هذا الخطاب في مراحل تاريخية عديدة وإن بدا ذلك أكثر وضوحا وعلنا وصراحة بعد الانقسام عام 2007، كان يرسخ العلاقة بين ""الأنا "" و "" المختلف """ على قاعدة الغالب والمغلوب أو على قاعدة الحق والباطل أو على قاعدة العقلانية والظلامية.ويرسم حدود هذه العلاقة التضادية على مفاهيم تضادية أخرى أكثر إيلاما للذات، تقوم على الاستعلائية مقابل الدونية والإيمان مقابل الجاهلية والأجندة الوطنية مقابل الأجندة الخارجية.ونتيجة لكل ذلك تم إلغاء التعددية أو امتصاصها واحتوائها، وبدل ذلك تم إحلال الأنا الجامعة الجمعية المنفردة المتفردة، لتصير دار السلام ودار الحرب معا أو كيفما تقرر ووقت ما تشاء.مع الحرص على عدم الإبقاء لأي وسيط بينها وبين المختلف، حتى المواطنة المفترض أن تجمعهما على قاعدة الاختلاف، تصبح بفعل توحش الخطاب الأحادي الإقصائي أمرا ثانويا، لأن الفلسطينية لم تشفع لمواطن قتله رصاص الانقلاب في غزة، ولم تشفع لمواطن ضاقت عليه جدران زنزانة في أحد سجون الضفة. إننا ندرك أن حل المعضلة الفلسطينية وتفكيكها، لا يكون فقط بمجرد إنتاج خطاب سياسي فلسطيني تواصلي مع كل مكونات الذات، وإنما حتما من خلال إعادة إنتاج مشروع سياسي فاعل وحدوي واضح البنى ومعلوم ومحدد الأهداف بثوابتها ومتغيراتها ومحدد المنهاج بكل مكوناته السلمية وغير السلمية قائم على متمكنات التاريخ في الزمان والمكان وتصورات المستقبل، بعد أن دُمرت كثير من بُنى المشروع التاريخي بعد اتفاق "" أوسلو"" .وحتما فإن إنتاج خطاب سياسي فاعل هو أحدى تلك البنى للمشروع السياسي المعاد إنتاجه، إذ أن التموضع حول الخطاب الراهن وبنفس أدواته وبنفس محتواه وبذات منتجاته، فإنه سيكون من دون ريب عائقا ومعوقا خطيرا أمام مشروع سياسي نهضوي تحريري. _لبيب، الطاهر.المقدمة، في صورة الآخر العربي ناظرا ومنظورا.بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية.1999. _ المصري، هاني.مداخلة مداخلة في النظام السياسي الفلسطيني مرحلة متحولة. رام الله : مركز البراق للبحوث والثقافة.2006. _ العريف، أسماء.الأخر أو الجانب الملعون، في صورة الأخر العربي ناظرا ومنظورا إليه.بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية.1999. _غانم، عبد الفتاح.في في النظام السياسي الفلسطيني مرحلة متحولة. رام الله : مركز البراق للبحوث والثقافة.2006. [email protected]

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل