المحتوى الرئيسى

حكومة مدنية لشعب متدين

04/22 10:29

بقلم: حازم الببلاوي 22 ابريل 2011 10:23:44 ص بتوقيت القاهرة تعليقات: 0 var addthis_pub = "mohamedtanna"; حكومة مدنية لشعب متدين تعرف الساحة السياسية فى مصر وكذا، فى معظم الدول العربية جدلا صاخبا حول دور الدين فى الحياة العامة. والحقيقة التى لا مراء فيها هى أن الشعب المصرى على طول تاريخه هو شعب متدين، شديد الاعتزاز والارتباط بقيمه الدينية. والشعب المصرى ربما من دون شعوب العالم هو أكثر شعوب العالم اهتماما بالحياة الآخرة، حيث يعتقد أن الحياة القصيرة التى نعيشها ليست سوى رحلة عابرة إلى عالم الخلود. وكان قدماء المصريين من أوائل شعوب العالم ارتباطا بالدين وسعيا لإرضاء الخالق فى الحياة الآخرة. ولذلك بدأت الدعوة لوحدة الخالق على أرض النيل، عندما حارب إختانون تعدد الآلهة بحثا عن الإله الواحد. فوحدانية الخالق بدأت على أرض النيل. ولم يكن غريبا أن ارتبطت الديانات السماوية بشكل أو آخر بمصر وأهل مصر. فإبراهيم، أبوالأنبياء، جاء من مهجره فى العراق مع زوجته سارة إلى أرض مصر، وتزوج جاريته المصرية هاجر حيث أنجب منها اسماعيل أبوالعرب. وعندما تنازع أبناء يعقوب حفيد إبراهيم وأرادوا التخلص من أخيهم يوسف، فقد انتهى الأمر ليستقر يوسف فى بلاط الفرعون المصرى، ويصبح أهم وزرائه، ويتزوج هو الآخر من مصرية. وقد أنقذ يوسف مصر من القحط بنصيحته للفرعون بتكوين مخزون من الغلال فى سنوات الرخاء، لاستخدامها فى السنوات العجاف. كذلك ولد بعد ذلك النبى موسى على أرض مصر، ويقال إن جذوره مصرية واسمه مصرى لا صلة له بالأسماء العبرانية. وإذا كان موسى قد خرج من مصر بعد نزاعه مع الفرعون، فإن تأثير مصر عليه لا يمكن إنكاره. وعندما ولد السيد المسيح فى أرض فلسطين، هرب يوسف النجار مع زوجته مريم وابنهما الرضيع إلى أرض مصر لعدة سنوات خوفا على حياة الطفل قبل أن يعودوا من جديد إلى فلسطين. وبعد ظهور المسيحية، كانت كنيسة الإسكندرية أحد أهم معاقل المسيحية، وكان لها دور ملموس فى تشكيل العقيدة المسيحية كما تحددت فى مجمع نيقية عام 325 ميلاديا، بعد اعتناق الإمبراطور الرومانى قسطنطين للديانة المسيحية. وأخيرا ظهر الإسلام فى الجزيرة العربية، وأوصى النبى محمد عليه السلام بأهل مصر خيرا، «فإنهم فى رباط إلى يوم القيامة»، كما تزوج من القبطية مريم وأنجب منها إبراهيم. ولكل ذلك لا غرابة فى تعدد ذكر اسم مصر فى الكتب السماوية. فارتباط مصر بالأديان هو ارتباط قديم وعميق، والتدين هو بذلك أحد أهم صفات المصريين. ومع الفتح الإسلامى لمصر فى القرن السابع الميلادى بدأ اعتناق المصريين للإسلام حتى أصبحت لهم أغلبية السكان منذ القرن العاشر. وفى خلال العشرة قرون الأخيرة على الأقل أصبحت مصر منارة الإسلام. فقد أن زالت دولة الأمويين فى دمشق، ثم تفككت دولة العباسيين فى بغداد بعد غزو المغول لهم، ولم يجد الخليفة العباسى ملجأ يركن إليه سوى مصر. وقبلها قامت الدولة الفاطمية فى القرن العاشر الميلادى ورفعت اسم الإسلام، وحملت القاهرة الراية حتى قبل سقوط بغداد. وكان من أوائل أعمال الفاطميين فى مصر إنشاء الجامع الأزهر الذى أصبح منذ ذلك الوقت وحتى الآن أهم مراكز العلم للدراسات الإسلامية فى العالم. ومن خلال هذا التاريخ الإسلامى الطويل تشكل الوعى المصرى، حيث لعبت اللغة العربية دورا حاسما فى تعميق هذا الوعى. فالثقافة المصرية المعاصرة هى ثقافة عربية إسلامية.ولكل ذلك، فإن أى حديث عن المستقبل السياسى لمصر لابد وأن يراعى هذه الطبيعة الخاصة للشعب المصرى. فهو شعب متدين يستوى فى ذلك المسلمون أو الأقباط. وقد سن الدين الإسلامى منذ البداية مبدأ احترام حرية العقيدة، و«لا إكراه فى الدين». وكانت الدولة الإسلامية حتى بداية العصور الحديثة هى الدولة الوحيدة فى العالم التى وفرت الحماية والرعاية للأقليات من الأديان السماوية الأخرى. فعلى حين لم يكن من المتصور أن تعيش جالية مسلمة فى أوروبا حتى العصر الحديث، فقد كانت دولة الإسلام تحفل بأهل الذمة، وكثيرا ما كان وزراء وكتاب الخلفاء والسلاطين من المسيحيين واليهود. وفى الوقت الذى عرفت فيه أوروبا المذابح والاضطهاد لليهود، فإن أعظم فلاسفة اليهود، وهو موسى بن ميمون، نشأ وترعرع فى إسبانيا الإسلامية، وكتب مؤلفاته بالعربية والعبرية، ثم جاء واستقر فى القاهرة طبيبا خاصا للخليفة الفاطمى. فدولة الإسلام هى دولة السماحة وحرية العقيدة. ولم تظهر بوادر التعصب إلا فى أزمان الخيبة والتأخر خاصة بعد الحروب الصليبية والتى صدمت العالم الإسلامى بتعصبها وضيق أفقها.ولا يعرف الإسلام كهانة ولا كنيسة، وليس هناك من وسيط بين العباد وربهم. هناك حقا علماء فى الدين، كما فى كل العلوم، ولكن ليس هناك كهنوت فى الإسلام. ومن هنا تعددت المذاهب، ولكل مجتهد أجر. فالدولة الدينية مفهوم غريب على الإسلام، وهو ما أكده فضيلة شيخ الأزهر فى حوار حديث له (الأهرام 15 أبريل 2011). والنبى الكريم يقول «لا تجتمع أمتى على خطأ». فالسلطة هى للأمة، ورأى الشعب هو الفصل. وهذه هى الديمقراطية بمفهومها الحديث، وهى أيضا ما يعرف بالحكومة المدنية. فالجميع بشر يخطئ ويصيب، وليس لأحد عصمة فوق البشر، ونبى الإسلام ليس استثناء، «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى». وترى بعض الفرق الإسلامية، خاصة من الشيعة، أن لعلى بن أبى طالب، كرم الله وجهه، وضعا خاصا فى تولى الإمامة باعتباره من أهل البيت على نحو يتوارثه نسل الأئمة (فى مذهب الإثنى عشر)، مما برر لنظام الحكم فى الجمهورية الإيرانية الإسلامية المعاصرة الأخذ بفكرة «ولاية الفقيه»، باعتباره نائبا عن الإمام الغائب. وهى أفكار بعيدة تماما عن عقائد غالبية المسلمين من أهل السنة. فالحكم عندهم هو للأغلبية، وعلى ما يتفق عليه أهل «الحل والعقد»، الأمر الذى أصبح فى العصر الحديث تعبيرا عن رأى الشعب. وإذا كانت «البيعة» قد تحولت فى معظم التاريخ الإسلامى منذ الأمويين إلى إجراء شكلى للموافقة على ولى عهد تم اختياره فى حياة الخليفة، فإنها تظل مع ذلك رمزا بأن ولى الأمر إنما يستمد سلطته من رضاء المحكومين وبيعتهم له، وليس من سلطة إلهية عليا. فمنصب ولى الأمر هو شغل لوظيفة سياسية مدنية. وإذا كانت ممارسة الحكم بطبيعتها هى عمل سياسى مدنى، فإن ذلك لم يمنع من محاولة الحكام والملوك فى أحيان كثيرة إضفاء صبغة دينية على حكمهم، بمقولة أنهم يحكمون «بتفويض إلهى» كما حدث فى معظم الممالك الأوروبية حتى قيام الثورة الفرنسية، أو عندما أطلق بعض خلفاء العباسيين على أنفسهم أنهم «ظل الله فى الأرض». وحتى بعد قيام الثورة الفرنسية والقضاء على نفوذ الكنيسة، فإن نابليون ابن الثورة ـ لم يخجل من أن يقيم مراسم تتويجه بمعرفة بابا روما لإضفاء طابع دينى على حكمه. وهو نفس الشىء الذى حاوله الملك فاروق، عندما زين له رئيس ديوانه (أحمد حسنين باشا)، أن يتم تتويجه بمعرفة شيخ الجامع الأزهر، الأمر الذى رفضه بكل حزم وشدة رئيس الوزراء (مصطفى الخامس باشا). وكان أن رضخ الملك وتم تتويجه فى البرلمان وفقا للدستور. وإذا كان الملوك والحكام قد حاولوا أن يضفوا طابعا دينيا على ملكهم، فإن رجال الدين بدورهم لم يتقاعسوا، فى مختلف العصور، عن محاولة فرض الوصاية الدينية على الملوك والحكام. وكانت الكنيسة قد تمتعت بمزايا اقتصادية مهمة منذ عصر قسطنطين الإمبراطور الرومانى والذى أقطع الكنيسة أراضى شاسعة بحيث أصبحت أكبر قوة اقتصادية، ثم أتيح لها أن تفرض ضريبة (العشر) على مختلف الطوائف، بما جعلها أغنى الطبقات الاجتماعية لحين قيام الثورة الفرنسية، التى جردتها من أملاكها وحرمتها من فرض الضرائب على المواطنين. وقد نافست الكنيسة الملوك على السلطة، ودخلت معهم فى حروب طاحنة. ولعله من الطريف أن نلاحظ أوجه الشبه بين دور الكنيسة فى أوروبا فى العصور الوسطى، ودور رجال الدين من الشيعة فى إيران الحديثة. ففى كلتا الحالتين يمثل رجال الدين طائفة متميزة لها مراسم وتدرج هرمى محكم، وكل منهما يتمتع بموارد مالية هائلة، حيث يدفع المواطنون من الشيعة نوعا من الضريبة لصالح رجال الدين. وهكذا جمع رجال الدين فى هذه الأحوال بين سلطتى الدين والمال. وكما كان اختلاط السياسة بالمال مفسدا للأمرين، فإن اختلاط السياسة بالدين إفساد لهما معا كذلك.والدولة المدنية لا تعنى أنها دولة تعادى الأديان، بل إنها على العكس تحمى الأديان وتعمل على احترام حرياتها واستقلالها، ولكنها ترفض أن يتمتع الحكم والحكام بقدسية دينية أو حصانة شرعية. فالحكم عمل بشرى، يخطئ القائمون عليه ويصيبون، ويتحملون مسئولية أفعالهم أمام الشعب. وإذا كانت الثورة الفرنسية قد قامت للدعوة لحكومة مدنية خوفا من تسلط رجال الكنيسة على الحكم، فإن الثورة الأمريكية قد طالبت بفصل السياسة عن الدين خوفا على الدين من تسلط السياسة عليها. فالشعب الأمريكى الآن فى ظل حكومته المدنية هو أكثر شعوب العالم الصناعى تدينا، وقد تحقق له ذلك لأنه منع وصاية السياسة على الدين. فالدين هو حق الشعوب وليس أداة فى يد رجال السياسة يستخدمونه أحيانا، ويسيئون استخدامه أحيانا أخرى، لأهواء السياسة. فالدولة المدنية تحمى السياسة من سيطرة رجال الدين باسم العقيدة، ولكنها تحمى الأديان أيضا من استغلالها لأغراض سياسية. الدين أهم وأسمى من أن يترك للسياسيين، وهو جزء أساسى من حياة المصريين، ولا يستطيع أى نظام سياسى فى مصر أن يتجاهل هذه الحقيقة. ولا يتصور كما لا يقبل أن تأمر الدولة بما يخالف الشرائع السماوية، أو تفرض على الأفراد ما يتعارض مع معتقداتهم الدينية. الدين هو للشعب يمارسه فى حرية واستقلال وتضمن الدولة حرية الاعتقاد والممارسات الدينية. وتقتصر الدولة على ممارسة الأعمال السياسية حيث تتحمل مسئولية أعمالها أمام ممثلى الشعب دون أن تتخفى وراء ستار دينى يحميها من مسئولية أفعالها، كما لا تتدخل الدولة فى الشئون الدينية لتحقيق مكاسب سياسية.الدولة المدنية تعنى المواطنة الكاملة لجميع أفراد الشعب بلا تمييز، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات، وأن الحقوق والحريات الأساسية لا يجوز المساس بها ولو بحكم الأغلبية. إننا نريد دولة مدنية تحمى حرية العقائد السماوية، ولكنها تحكم باسم السياسة وتتحمل مسئوليتها دون قداسة أو حصانة. والله أعلم.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل