المحتوى الرئيسى

دولة الحق والقانون بقلم:عبد الرحيم صادقي

04/20 17:38

قد يفعل الإيمان بعدالة قضية ما في بلاد العجم ما لا تفعله منظمات وأحزاب بأرض الوطن. ولذلك يذهل مواطن مغربي حينما يعلم أن منظمة "ائتلاف أوقفوا الحرب" مثلا -التي استطاعت أن تصل إلى قلوب الإنجليز وعقولهم فتحشد حوالي مليوني متظاهر في شوارع لندن، احتجاجا على المشاركة البريطانية في الحرب على العراق- لا يُسيِّرها غيرُ خمسة أشخاص. وكيف لا يذهل وقد يصادف وهو يسلك شارع محمد الخامس بالرباط كوكبة من الدكاترة وحملة الشواهد المعطلين المحتجين قبالة البرلمان، وقد انهالت عليهم عصي رجال الأمن، ثم لا يرى من العابرين مناصرا، إلا ناصرا بحوقلة، أو متحسرا يمصُّ مراشفه، أو متضامنا بغمغمة، أو مستنكرا بقلبه وذلك أضعف الإيمان؟؟ وربما محلقا بخياله يرى جموعا غفيرة قادمة من مكان السراب، ترفع لافتة كُتب عليها: "أوقفوا الزرواطة!"(العصا). بلى حقَّ له أن يذهل! يُغلَق على مواطن يستشعر دفءَ جمراتِ أعوام مضت أن يجوز في ملّة القوم أن يستقبل عمدةُ لندن شافيز رئيسَ فنزويلا. ثم إذا وُفِّق فأدرك ما يحسبه القومُ من طبائع الأشياء وقواعد النظام العادل، تراه يعجز عن إدراك حق العمدة في التنديد بسياسة بوش الخارجية ووصفه بمثير الفتن والحروب في العالم، ورئيسُ وزراء بلده شريك له في فتنه وظلمه وظلماته! أيّ معنى للاستقلالية هذا عليه أن يدركه وهو ابن مجتمع يغرق في تراتبيَّته حتى أخمص قدميه، حيث تتنزل الكلمات من أعلى الهرم إلى أسفله من لَدُن من يحسب أن أمره بين الكاف والنون، مرصعة بخاتم الإذن وبلاغة القول، وقد تُحَفُّ بأريج الرصاص ودَلْك السياط! ثم يجول في خاطر المواطن سؤال يقول: "ألم يكن من السياسة الرشيدة أن يستقبله الجميع أو يردّوه جميعا حتى يكونوا على قلب رجل واحد؟". وبينما هو يبحث عن حل لهذا التناقض المشين، إذ تَذكَّر أن العمدة سمح يوماً ما بدخول الشيخ القرضاوي إلى لندن، فتساءل مرة أخرى: "كيف تُجيز أعرافُ القوم وقوانينهم أن يتحدى العمدة اللوبي الصهيوني، وأولياءُ أمور البلد يشاركونهم الطعام ومِلحه؟! ألا إن من الاستقلالية ما يستعصي على الفهم! نعم، يبدو الأمر شبيها بلغز لمواطن عربي أَلِفَ صوت الرصاص حتى أصبح أنشودته المفضلة، وخَبَر معنى التعدد حتى صار مرادفا للكلمة الواحدة والرأي الواحد، والصوت الفرد والسلطة المطلقة. كلماتٌ وآراء وأصوات وسلط تتناغم غاية التناغم والانسجام فإذا هي علامة الإجماع والتوافق. يَعسُرُ على صاحبنا أن يلتقط مشهدَ أمهاتِ جنود أمريكيين في العراق، معتصمات أمام البيت الأبيض وقد رفعن لافتة تقول: "الأمهات يقلن لا للحرب". إنها لمصيبة حينئذ تصيب مواطننا العزيز! وإنها لقارعة تحلُّ بداره! وحتى لا يقع الجزع، وقد قيل بحق "الجزع عند المصيبة مصيبة أخرى"، نبادر بالقول: إن القوم يفعلون ما يفعلون لعِلمهم أن دولة الحق والقانون ليست كلاما يقال، وإنما واقع يُعاش. ولمَّا كان لكل حق حقيقة فقد خلص الأعاجم إلى أن حقيقة دولتهم لا تكون إلا بالآتي: - حكومة مشمرة عن ساعد الجدِّ تدرك أن وظيفتها خدمة البلاد والعباد، وخادمُ الناس سيدهم. ولئن كان الناس أرادوها رائدا لهم، فإن الرائد لا يكذب أهله. حكومة تفهم أن الشبَع حتى التخمة وسط آلاف من طاويي البطون ليس من شيَم المروءة، ومقتضى الخدمة أن يكون ساقي القوم آخرهم. حكومة تعلم أن الأمن لا يتيسر إلا بالعدل، ولا عدل والفاقة قد فعلت فعلها في خلق الله، وكاد الفقر أن يكون كفرا. ثم هي حكومة تسعى لطلب النصح والمشورة، ومِن صدق النصح أن تقول ما يعجب وما يغضب إن كان حقا. ومن صدق الطلب أن تستمع لكليهما. أما أن ترى في كل قلم حرّ أو سياسي نزيه أو نقابي شريف...دعاةَ فتنة على أبواب جهنم، فمعنى ذلك أن الحكومة حكومة ملإٍ همُّهم تحصيلُ المكوس والجبايات، فإذا هم أجمع من نملة. - برلمان حقيقي وبرلمانيون حاضرون مؤثرون، لا برلماني لا يمثل إلا نفسه. الانتخاباتُ هي أمُّ المعارك عنده، تُجند لها الجنود، البادون والمتوارون عن الأعين، سلاحُهم المال الحرام. كل ذلك طلبا لكرسي تحت القبّة. - قضاء مستقل، قوله يعلو ولا يعلى عليه. لا قضاء نخرَه السوس، قيمة أحكامه تحدد بالمزاد السري ومن يدفع أكثر. - أحزاب شعبية ممتدة فاعلة مُسهمَة في بناء الديمقراطية وحراستها، لا يرأسها زعماء حفريون منحدرون من العصر القصديري يقتاتون على الماضي والشرعية التاريخية، وإنما يرأسها الأكفاء والنزهاء. أحزابُهم ليست مقاولات للاسترزاق والوصولية والأنشطة الانتخابية وبئس المصير. - نقابات حية متجددة تصنع شرعيتها في الشارع وفي المعامل والشركات والمؤسسات ووسط العمال وإلى جانبهم. لا نقابات غاملة، أربابها مفلسون يُروِّجون لمقولة "نهاية النضال والمناضل الأخير". فلا هم يناضلون ولا تركوا من يناضل. - منظمات حقوقية فاعلة وجمعيات مدنية نشيطة، تعكس حيوية المجتمع المدني وحركيَّته الدائبة، لا منظمات تقتفي آثارا دَرَست وتغفل عن خروق حاضر لا راقع لها. ثم تراها تُرجِعُ الحقوق لأصحابها وتردُّ المظالم لأهلها، على فهمٍ للحق والمظلمة عجيب. وتُقيم الإنصاف دون عقاب فيتساوى في شِرعتها الجلاد والضحية، ويهتف الظلوم يحيا العدل! وتصطلح مع ذاتها والآخرين بطيِّ صفحة الماضي، وكأن غاية المرام العلمُ بالشيء ولا الجهل به. علمٌ لا ينفع وجهل لا يضر. - صحافة مستقلة حرَّة ونزيهة بمهنية عالية وأخلاق رفيعة وعين ساهرة، لا تخشى مقص الرقيب ولا عين المُخبر. إن قيل سلطة رابعة فهي بحق كذلك، لا صحافةُ البروج والطوالع، تقتات على التشهير والفضائح والإثارة والدجل والعناوين الفارغة والصور الفاضحة. كلا وليست صحافة مُطبّلة ووسائل إعلام مُبارِكة، بلغة متكلسة ثقيلة على الروح والخاطر. - وقبل ذلك وبعده وأثناءه شعبٌ يدرك غاية الإدراك أن مِلاكَ الأمر كله، وأسَّ دولة الحق والقانون إنسانٌ حرُّ التفكير والرأي والتعبير، يُقدَّرُ لإنسانيته وتُصان كرامته لكونه إنسانا، فيكون أبسطُ مواطن أمام القانون كرئيس الدولة أمامه، سواء بسواء. لهما الحقوق نفسُها وعليهما الواجبات ذاتُها. ذلك أن الخير كل الخير أن نسمع ما يقوله بعضنا عن بعض جهارا نهارا عِوض أن نقوله بظهر الغيب. وأفضلُ لحكومة أضعافا مضاعفة أن تسمع وترى بأمّ العين مِن أن تصنعَ شعبا من المنافقين. وخيرٌ ليد الرقيب أن تُخْلِيَ سبيل ما يَحيكُ في الصدور مِن أن تُمسك بالأنفاس والخواطر والنوايا والسرائر، حتى إذا ما تفضلت بالسماح ببعض اللوم والعتاب كان ما خفي منه ومن النقمة أعظم. وربما من الفعل. وأفضلُ للجميع أن ينكسر المقص ولا ينكسر القلم، لأن القص هدم والكلمة بناء. ربما كان علينا أخيرا أن نستمع لفولتير وهو يقول: "قد لا أتفق معك ولكنني مستعد لأن أدفع حياتي ثمنا لكي أسمع رأيك". مهلا مهلا! ألم يقل عمر الفاروق رضي الله عنه: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟". عبد الرحيم صادقي

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل