المحتوى الرئيسى

سوّاح

04/20 08:11

مستنداً على جذع شجرة، فى موضعى المفضل من الحديقة، أنعم بمشاهدة المدى الأخضر، وهبوب النسيم المنعش الذى يتخللنى. ابتسمت للحياة وصممت أن أستمتع بها، وضعت السماعة الصغيرة داخل أذنى وبدأت أستمع إلى عبدالحليم حافظ وهو يغنى «سوّاح». «سواح وماشى فى البلاد سواح/ والخطوة بينى وبين حبيبى براح/ مشوار بعيد وأنا فيه غريب/ والليل يقرب والنهار روّاح». طفقت أصغى وقد حلّقت روحى، حامداً ربى على نعمه الظاهرة والباطنة، وفجأة انقطعت الأغنية عن السماعة وسمعت صوتاً غريباً يترنم فى أذنى: «وإن لقاكم حبيبى سلمولى عليه». ذُهلت. أُخذت. ارتجفت. انتابتنى قشعريرة. والصوت الغريب يردد نفس الجملة اللحنية. همستُ وأنا أتلفت حولى: «من معى؟ من يغنى؟». رن صوته فى أذنى: «أنا.. (وصمتَ قليلا ثم قال) سوّاح. مخلوق من مخلوقات الله، هائم فى الكون أبحث عن الأرواح الصديقة». قلت وأنا أرتجف: «من أين جئت؟ أقصد أين يقع كوكبك؟». همس فى أذنى: «فى أعمق أعماق الكون، أبعد من قدرتك على التخيل». سألته وقد استهوانى حديثه: «لماذا تركت كوكبك وجئت إلى هنا؟». قال: «أبحث عن الجمال، وأعبد الله تعالى بحب مخلوقاته». قلت مبتسما: «إذاً سيعجبك كوكبنا». سألنى فى لهفة: «هل كوكبكم جميل؟». قلتُ: «جدا. تعال لتشاهده معى؟». وفجأة تجسّد. رُحت أتأمله فى فضول، لكنه كان فى شغل شاغل عنى. راح يدير بصره فى الحديقة وقد صعقه الذهول. كانت الشمس تقترب من المغيب، والسماء تبدل أثوابها ببطء، والمدى الأخضر يومض تحت ضوء الشمس، والنسيم يهب فيتمايل الورد الأحمر فى دلال. لبث صامتاً عاجزاً عن النطق، ثم قال بصوت مُحشْرج: «كوكبكم مُلوّن، مُذهل الجمال». قلت مندهشاً: «أليس عندكم فى كوكبكم شجر وعشب وزهور؟». قال وعيناه متسعتان: «عندنا ولكن بلون رمادى واحد. (ثم عاد يردد فى انبهار) كوكبكم مُلوّن، صاعق الجمال». قلت وأنا أشعر بالدهشة: «أحقاً ما تقول! كوكبكم أبيض وأسود! بلا ألوان!». راح يمشى كالسكران من نشوة اللون فقلت له: «هذا اللون أخضر. لون الشجر أخضر. لكن لا تتماثل فى اللون الأخضر شجرتان. لو أردت أن تحصى درجات اللون الأخضر فعليك أن تحصى عدد الأشجار! أزرق، لون السماء أزرق، لكن السماء تُبدل طيلة اليوم عدداً لا يُحصى من أثواب اللون الأزرق. أحمر، لون الزهور أحمر، كاحمرار خدود العذارى حين تتضرج بالحياء». قال مقاطعاً: «لماذا تتكلم؟! لماذا تخدش هذه الروعة بالكلام! هل تتصور نعمة أن تعيش فى كوكب مُلوّن!  تخيل لو كان عالمكم مثل عالمنا بلا ألوان! كم أنتم محظوظون بسكنى هذا الكوكب المُلوّن!». قلت مبتسماً: «لم أفكر من قبل أننى يمكن أن أسكن فى كوكب أبيض وأسود. لكن طبعا الحمد الله». وفجأة تلاشى من جوارى، سألته فى دهشة: «إلى أين تتركنى وتذهب؟». قال وهو يرحل: «أذهب إلى عوالم أخرى. أكتشف جمالاً آخر فى أماكن أخرى. سوّاح فى ملكوت الله».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل