المحتوى الرئيسى

الثورة والثورة المضادة وموجة الأصولية الجديدة في مصر

04/19 22:54

من أبرز سمات الروح الثورية التي اجتاحت مصر خلال فترة الشهرين الأخيرين هي المشاركة غير المسبوقة في الحياة العامة لجميع فئات المجتمع المصري‏.‏ فجميع المواطنين من شتي الدوائر الاجتماعية‏,‏ ومن جميع مناطق البلاد, ومن مختلف الثقافات أظهروا معا إرادة علي التضحية من أجل مستقبلهم السياسي. وهذا في حد ذاته تطور مشجع وملهم في آن واحد. وبرغم هذا, فمن المؤسف أن يستغل بعضهم هذه الاحتجاجات المشروعة والصادقة في مجملها من أجل الإتيان بأفعال غير ديمقراطية ولا علاقة للإسلام. إن الديمقراطية الحقة تبني علي التزام بالاحترام المتبادل مابين جميع المواطنين. ومما لا شك فيه أننا شهدنا عودة الروح إلي هذه المشاعر ما بين السواد الأعظم من المصريين. ولكن فئة قليلة من المواطنين الأعلي صوتا اقتنصت الفرصة في وقت تسوده سمات عدم اليقين لمرحلة انتقالية من أجل اللعب علي وتر رغبات دنيا وأنانية وشوفينية لدي بعض المواطنين, ويستطيعون من خلالها تحقيق مآربهم السياسية الخاصة بهم. ولعل أكثر الظواهر إزعاجا علي الإطلاق خلال الأسابيع القليلة الماضية هي العنف المتصاعد من بعض الأوساط المتطرفة ضد بعض الأماكن ذات الأهمية الدينية, ومنها الكنائس والأضرحة, وتعد هذه الظاهرة تطورا خطيرا للغاية وخاصة في ظل الحالة الهشة التي تعيشها بلادنا في هذا المنعطف التاريخي الدقيق. وعلينا أن نحترس من هؤلاء بشدة وأن نعمل علي وقفهم حماية لسلامة بلادنا ووحدتها السياسية والاجتماعية والدينية, إن من يقدمون علي هذه الأفعال الأشرة ما هم إلا وصوليون ومتطرفون لا علاقة لهم علي الإطلاق بتعاليم الإسلام العظيمة, فالفهم الصحيح للإسلام الذي تعلمناه من سلفنا يقوم علي التفاعل مع العالم بفهم وأريحية والتأقلم مع الواقع بشتي صوره, إن الإسلام دين يدعو إلي منهاج حياة كريمة منهاج لا يعتبر الانسجام مع المجتمع المحيط بالمرء ضرورة للسلام المادي فحسب بل ضرورة لسمو الروح والالتزام الديني. وللأسف, فمن يقدمون علي هذه الأفعال الهمجية ضد الشعب المصري ومؤسساته الثفافية, والدينية, لا يجملون الماضي في شتي وإنما يهدفون إلي الرجوع للماضي بجميع تفاصيله وأدق خصائصه, ويشكل هذا الفكر الرجعي معضلة في حد ذاته بل والأسوأ من هذا تصوير هذا الفكر علي أنه مرجع يتعين علي جميع المسلمين التمسك به, أما من يرفضون هذا الفكر الرجعي فيعتبرونهم ضالين ويشككون في عقيدتهم, وتتسبب هذه القوي في بث مشاعر الكراهية في المجتمع وتعزل بعض شرائح المجتمع المسلم عن شرائحه الأخري. وعندما يعجز هذا المنظور المثالي للمجتمع الذي يروج له السلفيون عن التبلور تتجه الأمور إلي مزيد من الأصولية الخطرة. إن حقيقة أن الماضي الذي يسبغون عليه المثالية الكاملة هو مجرد نتاج لخيالهم, ومن ثم لا يمكن لأحد تحقيقه, يتحول إلي أتون للأصولية التي يغذيها شعورهم بالإحباط وهو حتما ما يصلون إليه. والنتيجة الأخري لهذا الوضع هو الانعزالية التي تقصي المرء عن محيطه من إخوانه المواطنين المتدينين, وبالتالي من الانسانية ككل. فهؤلاء السلفيون يصبحون جزءا من المشكلة بالنسبة للعالم وليس إخوانا علي الصراط المستقيم, وهذا الفكر الذي يتبنونه لا مكان فيه للثقافة أو الحضارة ولا حتي لكرامة الإنسان. ويهدد هذا الانعزال بإشاعة روح من الشعور بالاضطهاد ومنظور تجاه العالم تسوده نظريات المؤامرة, وتغيب عنه تماما قيم الإسلام العظيمة كالحكمة والعقلانية. وتكمن خطورة هذا الفكر الرجعي في أن مكوناته المختلفة تعوق أدني إمكان للتطور وتعتبر أي تغيير بدعة منكرة تستوجب اللعنة, ويحول هذا دون العمل علي مواجهة مشكلات العالم من خلال تطوير مؤسساتنا وأممنا بطريقة ايجابية تتسق مع قيمنا الإسلامية. ومن المحزن أن هذا الخليط الخطر من الانعزالية والمثالية بوسعه أن يغذي أيضا شعورا زائفا من الثقة بالنفس بل والغطرسة. واجمالا, يمكننا القول إن هذه المكونات تشكل معا فوضي روحية هي آفة التطرف ولا يمكن مواجهتها دون قاعدة إسلامية صحيحة. ويتعين علينا مقاومة هذا الفكر علي الدوام من أجل مستقبل بلدنا ومن أجل ديننا, ولتحقيق هذا يجب علينا العودة إلي قيمنا الصحيحة ومؤسساتنا الراسخة. وعلي مدار القرون الماضية, ازدهرت مصر بفضل منهج جامعة الأزهر الذي حمل لواء أهل السنة والجماعة. وأظهرت المؤسسات التي تحمل علي عاتقها هذه المسئولية حرصها علي المجتمع المسلم واهتمامها العميق بالقضايا الشائكة التي نواجهها في عصرنا الحالي. ويقوم هذا المنهج علي أساس من الالتزام الراسخ بالعقل وكرامة الانسان وحماية القيم العامة للإسلام( حماية الحياة, والفكر, والدين, والملكية, والأسرة). وتتاح لطلبة الأزهر من الذكور والإناث فرصة متكافئة للتعليم, ولا يقتصر تعليمهم علي اتقان اللغة العربية والدراسات الشرعية فحسب, بل يلمون خلال دراستهم باخلاقيات الإسلام وروحه وهي جزء لا يتجزأ من الريادة الدينية الفعالة وهي عنصر جوهري لبناء ثقافة التسامح والحوار. ولارتباط منهج التعليم الأزهري الوثيق باستيعاب قضايا العصر, فإن الدراسة في الأزهر مازالت تجتذب الطلبة من شتي أنحاء العالم, ويعود هؤلاء الطلبة إلي بلادهم بعد إكمال دراستهم مسلحين بالمعرفة ويصبحون نموذحا للتدين المتوازن الذي يمكنهم من مواجهة الاحتياجات السائدة في مجتمعاتهم المسلمة دون التفريط في مبادئهم. لقد دأب الأزهر علي التواصل مع اتباع الديانات الأخري سواء داخل العالم الإسلامي أو علي نطاق العالم بأسره, ويمكننا ملاحظة ذلك بوضوح في بيانات الأزهر وفتاوي شيوخه وأنشطة علمائه. وختاما, فإن تأكيد هذه القيم يشكل أكثر الوسائل فعالية في مواجهة جميع صور الأفعال الكارثية التي ترتكب باسم الدين وعلينا أن نسميها باسمائها فهي أفعال متطرفة فحسب. المزيد من مقالات د‏.‏ علي جمعة‏

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل