محمود حامد الشريف يكتب: الثورات بين الخدع السينمائية والأساطير التاريخية
يعيش جيلنا الحالي وفي ظل اللحظة التاريخية الراهنة لحظة نشوة مستحقة، وبات الكل يتحدث عن ثورة علمت العالم؛ وثمة أخبار عن إنتاج فيلم في هوليوود عن الثورة المصرية؛ وسارعت بعض الفنانات إلى حجز أدوار البطولة عن حياة شهيدة أو أم شهيد؛ بل الأكثر من ذلك طالب البعض بجائزة نوبل للشعب المصري ولا ضير في ذلك ولكن أخشى ما أخشاه أنه في حين أن نظام مبارك قد حصل على صفر المونديال أن يحصل الشعب الثائر على صفر آخر في نوبل. والحقيقة أن كل ثورة تصاحبها آلة دعاية سينمائية تخلق معها جملة من الأساطير قد تكون أشد خطرا على الثورة والثوار من الثورة المضادة. والناظر في أحوال الثورات يدرك ذل تماما ولا أحد ينكر أن إيران الدولة شوهت وجه إيران الثورة؛ وحتى لا نذهب بعيدا عن مجالنا الوطني فإن صناعة السينما والأغاني والوطنية استرضت ثوار يوليو بشكل فج حتى خلقت حالة من البارانويا لدى الشعب المصري.ويمكن القول أن صناعة السينما تقوم على التنميط والنماذج المقولبة "stereotype" واالصورة النمطيه التي تقدمها السينما تعد أسوأ أنواع الخدع الجماهيرية التي تروج لها صناعة السينما. وهي تروج لها عن قصد دونما وجود رخصة فنية أو ضرورة إبداعية ويأتي هذا في سياق إرضاء النخبة السياسية الحاكمة لا سيما إذا كانت المؤشرات تشير إلى بقاء النخبة في سدة الحكم إلى أجل غير مسمى؛ أو للحصول على تمويل من جهة ما لها أهداف أيديولوجية.والصورة النمطيه السينمائية تغزو كل بيت وتشكل الصورة عقلية قطاع كبير من الجماهير، وتلتصق بعقليتها وتشكل رؤية جمعية تمثل ثوابت راسخة في عقول الجماهير وتخلق منهجية تفكير أشبه ما تكون بعقلية الإنسان البدائي في عصور ما قبل التاريخ تتجاوز المدى في التسطيح والتبسيط المخل. ومن ثم يجد كل من يحاول تغيير هذه العقيدة ما لاقاه الأنبياء من عنت. والمفترض في الفنون أن تقدم للعقول تنويرا وليس تبويرا.ولعل من أشهر الصور النمطية المؤدلجة التي شاعت في السينما والدراما المصرية صورة الترك، حيث أن ثورة يوليو قامت ضد أسرة محمد على ورثة الأتراك العثمانيين. وقد دأبت السينما على تقديم صورة التركي العثماني الشركسي ذلك الرجل منتفخ البطن الذي يتدلى كرشه أمامه ويدور به كما يدور الحمار بالرحى؛ كما أنه لا يفهم أبعد من أرنبة أنفه ولا يتورع عن إطلاق الرصاص أو هو مكتنز معتوه تمثله "شخصية حبظلم". ولا تختلف صورة المرأة التركية عن هذه الصورة فهي ضخمة الجسم سليطة اللسان لا تتفوه إلا بكل فاحش بذيء. وشاعت في الدراما التلفزيونية صورة الوالي التركي الظالم زير النساء شريب الخمور. وقد شاعت تلك الصورة في الفترة الملكية وزادت الثورة من حدة تلك الصورة المضللة فالأسرة العلوية كانت الوريث الشرعي لآل عثمان والطعن في الأتراك انتقاص من الأسرة العلوية تلك الأسرة التي وجدت الثورة في تشويه كل ما يخصها أساسا لمشروعية قيامها.ومع تكرار هذا النمط تظل عقلية المشاهد حبيسة كهف مظلم تشكله هذه الصورة النمطية والعالم من حولها يتغير وهي تغط في سبات عميق حتى يطرق عليها الباب من جديد الأتراك الجدد كما فعلوا من قبل مطلع القرن السادس عشر. والأتراك يطرقون الآن ليس باستخدام القوة المسلحة بل باستخدام القوة الناعمة وتقديم تركيا كقوة إقليمية. قوة لا تهدف إلى تصدير مشروع أيديولوجي كما هو الحال في الحالة الإيرانية ولكن تهدف إلى تحقيق أكبر المنافع الاقتصادية والسياسية للأمة التركية.ولعل الحجة التقليدية الداحضة التي يسوقها من يدافعون عن هذا التنميط المضلل تتلخص في أن السينما أو الدراما كعملية إبداعية ليست مسئولة عن تقديم دروس في التاريخ أو برامج تعليمية. وتلك حجج جد واهية وغير مقبولة لأن الإبداع ليست أهدافه ترفيهيه فقط بل هي بالأساس تنويرية كما أن الأصالة والجدة شرطان أساسيان من شروط الإبداع وهما نقيضا التنميط الذي يسعى للتسطيح واستسهال تبني الرؤية النمطية.وإذا كانت السينما غير مسئولة عن تقديم دروس في التاريخ فإن المؤسسة التعليمية مما لا شك فيه مسئولة عن تحقيق ذلك ولكن المؤسسة الرسمية التعليمية تعزز الخدع السينمائية بمزيد من الخدع التعليمية فمن يقرأ التاريخ العثماني في الكتب المدرسية يخيل إليه أن الدولة العثمانية كانت دولة احتلال كولونيالي امبريالي وليست دولة خلافة إسلامية. فمناهج التاريخ ما فتئت تلخص الحقبة العثمانية تحت عنوان "مساوئ الحكم العثماني" وتتجاهل تماما ما أنجزته الدولة العثمانية من تنظيم الجيوش النظامية والفرق العسكرية ونشر الإسلام في ربوع وسط وشرق أوروبا وهي التي حمت منطقة الشرق الأوسط من حملات صليبية جديدة بل حاصرت أسوار فيينا؛ ومما يزيد المرارة علقما أن مناهج التاريخ تسرد لتاريخ مصر الإسلامي بالفتح العربي والدولة الفاطمية والأيوبية المملوكية وهكذا أما عند الحديث عن الدولة العثمانية فتأتي تحت عنوان "الغزو العثماني لمصر".ويتواصل الخداع حتى في الحديث عن سياسة الخديو إسماعيل الخارجية وخاصة عن حرب الحبشة التي كانت تهدف لتأمين منابع النيل والحفاظ على الوجود المصري في الفضاء الإفريقي يتم تشويهها بالقول أنها كانت تهدف لتحرير العبيد ليس إلا حتى يبدو الخديو بمظهر المتحضر أمام الدول المتقدمة وأن الخديو أهدر في سبيلها أموال الخزانة المصرية.ولأن حرب النكبة كانت من إرث الملكية تؤكد المناهج المدرسية على أكذوبة الأسلحة الفاسدة وأنها كانت من الأسباب الرئيسة للهزيمة وتسمم رؤية الناشئة لتاريخ الأمة. هذا رغم أن كل من أرخوا لتلك الحقبة أكدوا أنه لم يكن ثمة أسلحة فاسدة منهم مثلا ثروت عكاشة وهو أحد الضباط الأحرار وكان في المخابرات العسكرية إبان النكبة. والكتب المدرسية تشيع تلك الخدعة إرضاء للثوار في قبورهم الذين اتخذوا أكذوبة الأسلحة الفاسدة من مشروعيات قيام الثورة.ومع توالي هذه الخدع يظهر جيل يعاني من شعور زائف بالعظمة مع شعور زائف باضطهاد الأقدار.... بارانويا جمعية تفخر بإنجازات جيل واراه التراب من سبعة آلاف سنة انصرمت. ويجب ألا ننسى أن ما فعله المصريون مازال جنينا يمكن أن يسقط في شهور الحمل الأولى لو أصاب الثورة أي فيروس. أيها الشعب الثائر حذا أن من أن تسكرنا الفرحة وبعد خمسة عقود من الآن نقول أن نهضة ثورة يوليو بدأت مع النهضة الكورية وأن الثورة الشعبية المصرية بدأت مع شقيقتها التونسية غير أننا ما زلنا داخل المربع صفر".نعوذ بالله من خيبة الرجاء.
Comments