"العربية" التي "صدمت" مبارك

محمد المعتصم قال لي مسؤول رفيع المستوى إن التسجيل الذي بثته قناة العربية للرئيس المخلوع حسني مبارك سيكون نقطة محورية في محاكمته. وقد كان. كانت عملية تحويل مبارك إلى المحاكمة أكثر تعقيداً من إخراجه من قصر العروبة، الكل يعلم حساسية الموضوع، والخلافات التي كانت تتم حولها وحول توقيتها، والضغوط التي كان الشارع يمارسها، والمليونيات التي بدأت بجمعة المحاكمة، وانتهت بالتهديد بتنظيم حملة "الملط"، تعبيراً عن الانفجار والوقوف عرايا في ميدان التحرير لإحراج الجميع. كانت كل الأصابع تشير الى أن مبارك وراء كل المصائب، بيع القطاع العام وخصخصة الدولة ومصمصة الشعب، وقتل المتظاهرين في ميدان التحرير، وسحلهم في الشوارع، الاعتقالات العشوائية لآلاف من زهرة شباب مصر، حتى الاطفال لم يتركهم نظامه واعتقلهم، حول مبارك مصر الى شركة مساهمة، منح توكيلها لابنه يديرها من الباطن علناً، واللي مش عاجبه ما فيش أكتر من السجون، أصابع الاتهام تشير اليه مع كل حالة فساد تظهر، حتى تحول الأمر في مصر من حالات فساد، الى إدارة منظمة للفساد، لها أصول وآليات، وترتيبات وترقيات، وسلم هرمي يبدأ بموظف المحليات المرتشي، وينتهي في أعلى قمة الدولة، لا يدخل فاسد الى السجن إلا إذا غضبت منه الإدارة. أحد الكبار الذين دخلوا السجن – فجأة – دخل لأنه تحدث عن سوزان مبارك في جلسة خاصة، لم يقل سوى أنه "اتخنق" من تدخلها، في اليوم التالي كانت لقاءاته الحميمية، على CD يباع على الأرصفة، وعشرات القضايا ضده، من تهرب ضريبي، وخمور دون جمارك وحيازة أسلحة، سرطن مبارك ورجاله مصر، ودمروا الزراعات، وباعوا الأراضي، وتفرغ لمراقبة الحسابات وحركات الأسهم والشراكات بين رجال الاعمال. استلم مبارك مصر من السادات "بقايا" دولة، وانتزعها الشعب منه "شبه" دولة، لا كرامة فيها لمواطنيها.. داخلياً تكفل بها مباحث أمن الدولة بهم خارجها، هنا كانت محاكمة مبارك أمر حتمي، وبقي التوقيت المناسب، الذي جاء عندما بثت قناة العربية التسجيل الذي استفز الجميع، بداية من المدافعين عن مبارك، وحتى المطالبين بالمحاكمة في ميدان التحرير، تخيل الرئيس المخلوع أنه مازال في السلطة، وأصدر ما يشبه التعليمات للنائب العام بالتحرك، وبوزارة الخارجية بالقيام بدورها - هل تبين الآن سر الابقاء على أحمد أبوالغيط وزيراً للخارجية في بداية مرحلة ما بعد مبارك - قبل أن ينهي تسجيله بالتهديد بالملاحقة القانونية لكل من يتطاول عليه. يا نهار أسود، لم يكتف مبارك بما فعله فينا طيلة سنوات الظلم والبطش والفساد ليأتي ويحبس الشعب الذي يتحدث عن ثروته. قال لي المسؤول رفيع المستوى عقب بث الخطاب في العربية: "لقد جاءت الفرصة الآن"، لذا أستغرب تلك الدعاوى والبلاغات التي تقدم ضد قناة العربية، وبينهم أصدقاء وشخصيات نعتز بها، كانوا شركاء في الكفاح، وشركاء في إزاحة الكابوس عن مصر، خاصة أن بث التسجيل أفادنا جداً، وعجّل بالمحاكمة قبل أن يتبخر الرئيس المخلوع عبر البحر، أو عبر إشاعات المرض والسفر لألمانيا، خرج مبارك عبر تسجيل "تورا بورا" شرم الشيخ، فانفتحت عليه أبواب جهنم، وفتحت كافة الأبواب المغلقة، وتحول الى مصدر ازعاج ينبغي التخلص منه، هذا ما فعله التسجيل الذي بثته قناة العربية، والتي حاول استغلالها لتحسين صورته فإذا بها تصدمه وتعجل بسجنه، وقد مارست "العربية" عملاً مهنياً، جاءها انفراد، فبثته وعالجته بطريقة مهنية، ولو وصل التسجيل لقناة "الجزيرة" - التي تكره مبارك أكثر مما يكرهه المصريون - لبثته أيضاً، ومثلها البي بي سي أو السي إن إن وغيرها، لذا أنا لا أجد مبرراً للدعاوى والبلاغات والاتهامات لمحطة إخبارية، يعمل بها مصريون هم الأكثر وطنية والأكثر حباً لتراب البلد، ولولا الظلم والاضطهاد الذي وجدوه من نظام مبارك ما خرجوا، فضلاً عن زملاء، أعرف بعضهم على المستوى الانساني من دول عربية، كانوا الأكثر فرحاً بسقوط مبارك، ورفعوا الأعلام المصرية في سياراتهم وبيوتهم.. لا يمكن تخوين محطة أو اتهام زملاء، قد تختلف مع توجهاتهم، لكن لا يمكن لأحد أن يزايد على حبهم لمصر. * نقلاً عن "الدستور" المصرية