المحتوى الرئيسى

بالحلمنتيشي بقلم:صلاح حميدة

04/17 00:17

بالحلمنتيشي *كتب :- صلاح حميدة أبهر الشّاب المصري عمرو قطامش الكثير من المشاهدين بأدائه في برنامج المواهب العربية، فقد جمع في أدائه ما يعرف بالشّعر الحلمنتيشي، بالأداء المسرحي والاستعراضي، مضافاً إليه الغناء والتّلحين بطريقة مميّزة. ويعرف الشّعر " الحلمنتيشي" بأنّه ذاك النّوع من الشّعر الفكاهي السّاخر الّذي انتشر في عصر انحطاط الأدب العربي في نهايات العصر المملوكي في مصر، ولا يزال متداولاً في مصر والجزيرة العربية حتى الآن. كان العرب يسخرون من حكامهم، قبل ربيع الثّورة العربية، بعدّة طرق، من أهمها النّكتة السياسية، والشّعر "الحلمنتيشي"، وهذا كان مكبوتاً في قلوب أصحابه، وإن تمّ تناقله، فبالهمس من شخص لشخص حتى ينتشر بين النّاس، وقد يكون هناك ارتباط وثيق بين انحطاط الأدب والشّعر مع حالة الانحطاط السّياسي والاقتصادي والاجتماعي، وعندما يتخلّص النّاس من عقدة الخوف، يظهرون كافّة إبداعاتهم، ولكن ب " الحلمنتيشي " أيضاً، وهذا عينه الّذي جرى مع هذا الشّاب الّذي لم يستطع تحطيم حاجز الخوف إلا يوم " موقعة الجمل!!" التي عكست بدائيّة النّظام السّياسي في تعاطيه مع الحراك الشّعبي المطالب بالحرّية. بمراجعة سريعة لطبيعة تعامل الحكام العرب مع شعوبهم، فإنّ أي متابع يلحظ عناصر الأداء " الحلمنتيشي" حاضرة في هذا الخطاب بشكل فاقع، فالفكاهة، والسّخرية، والرّكاكة اللغوية تمثّل أهم ميّزات الخطاب الرّسمي العربي تجاه المواطنين ففي ليبيا، يعتبر القذّافي من أشهر الحكام العرب عشقاً للأداء "الحلمنتيشي"، ودائماً ما كان ساخراً ومثيراً للفكاهة في كل خطوة يؤدّيها، وأداؤه السّاخر المغلّف بالفكاهة تجاه شعبه، يعكس استخفافاً كبيراً بهذا الشّعب وبآدميته، ولعل ما يقوم به من جرائم وتدمير بحقّ الشّعب، يبيّن بما لا يدع مجالاً للشّك طبيعة تفكير الرّجل المنحطّة، بل يصر هو وأبناؤه ومن معه من المرتزقة، على التّصرف بفكاهة وسخرية- مغلّفة بالدّم- تجاه من يحاورونهم ويسمعونهم، فالقذّافي زعيم ولا زعيم، وابنه حاكم وليس حاكماً، والشّعب هو سيّد نفسه وهو الحاكم، ولكن إذا قال ( لا) لعائلة القذّافي وأفاق من حالة الهلوسة التي وضعته فيها عائلة " الحلمنتيشي" فهو حتماً يستحق القتل، حسب قانونهم. في مصر واليمن وغيرهما، لم يكن الأداء "الحلمنتيشي" تجاه الشّعب مختلفاً، وتحرّك الزّعماء وآلتهم الإعلامية بنفس الطّريقة من السّخرية والفكاهة، بل أثار هذا الأداء "الحلمنتيشي" الرّسمي، ردّة فعل معاكسة من السّخرية والفكاهة تجاه هؤلاء الرّسميين والمنتفعين، فالجمهور العربي لم يعد ذاك الشّعب المنغلق الذي يعيش تحت سقف الإعلام "الحلمنتيشي" وأصبح يعرف ما يدور حوله، ولم يعد الأداء "الحلمنتيشي" يقنعه، فكان من الطّبيعي أن يثور، وهذا ما جرى. ثلاثية السّخرية والفكاهة والانحطاط، رافقت الأداء السّياسي والإعلامي والأمني السّوري تجاه ما يدور من حراك شعبي مطالب بالحرّية، فالأداء البدائي في التّعامل مع المستجدّات كان واضحاً، والخطاب الفكاهي السّاخر الذي يتحدّث عن المؤامرة الخارجية التي تستهدف النّظام السّوري كان مضحكاً ومخجلاً، فهل مئات الألوف من النّاس الذين خرجوا يطالبون بالحرّية كانوا أدوات لمؤامرة خارجية؟ فأصغر طفل لا يمكنه تصديق هذا الكلام، فالشّعب السّوري مظلوم وحريته منتهكة، وكرامته مهدرة، وأمواله مسلوبة من الفاسدين والمرتشين ومؤسسة الفساد التي تتمثّل ب " الشّبّيحة"، وأي قارىء لأفعال الشّبيحة في سوريا، لا يساوره الشك في كون هؤلاء مافيا تستعبد الشّعب السّوري. من الممكن أن نتّفق مع النّظام السّوري بأنّه مستهدف لمواقفه المشرّفة من القضايا العربية ودعمه للمقاومة ضد الاحتلال، ولكن ما يجري الآن في سوريا ليس إلا مطالب شعبيّة محقّة يجب تلبيتها، والتّعلل بالمؤامرات الخارجية، وإقحامها بالحراك الدّاخلي ما هو إلا فعل مقصود لقمع الشّعب تحت لافتة التّصدّي للمؤامرات، فمن يدعم المقاومة التي تبغي تحرير شعبها من الاحتلال، من الطبيعي أن لا يقوم بمعاملة شعبه وحصنه ومدده مثلما يعامل الاحتلال من يحتلّهم، ومن المعيب أن يتم قتل النّاس بالجملة وقطع الكهرباء والماء والاتصالات، ومنع الغذاء، وحصار المدن والقرى، والاعتقالات الجماعية، والتّنكيل والتّعذيب الوحشي للمعتقلين، تحت أي ذريعة. حاول النّظام في البداية إلصاق تهمة الأحداث بالفلسطينيين في المخيّمات، ولكن تمّ تدارك الموضوع من قبل النّظام فيما بعد، لأنّ التّمادي بهذا الاتهام " الحلمنتيشي" ضدّ الفلسطينيين في المخيمات، كان سيرتدّ عليه بضرر سياسي إستراتيجي كبير. ثم تحوّل الاتهام إلى مدسوسين يحاولون إثارة النّعرات الطّائفية، وهذه "الحلمنتيشية" كانت قصيرة النّفس أمام وحدة الحال في الشّارع السّوري، ولكن هذه "الحلمنتيشية" الطّائفية وجدت من يدعّمها إقليمياً، ومن أطراف اتهمت غيرها بهذا الأداء "الحلمنتيشي" في أماكن أخرى، فرسبت في الامتحان، وأظهرت أنّ الطّائفية عند هؤلاء تتقدّم على السّياسة - كما هي عند غيرهم. امتد الاتهام " الحلمنتيشي" إلى الجزيرة الفضائية، فبرلماني لبناني سابق ادعى على فضائيّة (nbn) أنّ الثّورة العربية في كل مكان ثورة، ولكن في سوريا هي مؤامرة من القرضاوي وتركيا وقطر والاخوان والجزيرة الفضائية وأمريكا وفرنسا وبريطانيا وإسرائيل....الخ، هذا البرلماني بالغ في الحلمنتيشية في دفاعه عن قمع الحريات في سوريا، وأجاز للنّظام فعل كل شيء في الشّعب السّوري في سبيل التّصدي لما قال إنّه مؤامرة، وقال إنّ الجزيرة الفضائية " فقدت مصداقيتها، ولن تستعيدها أبداً" مع العلم أنّه كان ضيفاً دائماً على شاشة الجزيرة، وكان يقول فيها أشعاراً وهي تغطّي الشّأن المصري واليمني والتّونسي وأخبار المقاومة العربية للاحتلال. ولكن أزعجه تغطية "الجزيرة" المجتزأة للشّأن السوري، مع أنّ الأداء غير مقنع البتّة، وتعرّضت "الجزيرة" لنقد شعبي سوري وعربي لأنّها لم تهتم بما يجري في سوريا كما يجب، وفي هذا يردّ جمهور النّاس على هذا وعلى غيره ب"الحلمنتيشي"، فهل كان ينتظر صمتاً شاملاً عن المجازر التي تجري في سوريا؟ وهل "الجزيرة" تكون جيّدة عندما تنقل وجهة نظرك فقط؟ وتكون محل اتهام إذا نشرت وجهة نظر خصمك؟ وهل تستطيع مؤسسة إعلامية ك"الجزيرة" أن تتجاهل ما يبثّ على الإنترنت من قتل وتنكيل بالجثث وتعذيب ونهب لبيوت ومتاجر النّاس؟ وإذا كانت الحقيقة "الحلمنتيشية" التي يدّعي هذا النّائب أنّها الحقّ المطلق، فلماذا لا تترك السّاحة مفتوحة لتغطية إعلامية مهنية للأحداث؟ وهل النّصر على الاستعمار يصنعه العبيد أم الأحرار؟. في شهر رمضان الفائت، عرض مسلسل سوري فكاهي ساخر " حلمنتيشي" تحت عنوان " ضيعة ضايعة" ودارت أحداث إحدى حلقاته عن شابين بسيطين سوريين - عربيين- اعتقلا من قبل الشّرطة بتهمة اقتناء سلاح، وتمّ تعذيبهما حتى يعترفا بأنّهما يمتلكان السّلاح الذي كانا يرجوان المحقق أن يقول لهما كيف شكله حتى يعترفا حسب ما يريد، كل تفاصيل الحلقة كانت تتحدث بطريقة فكاهية ساخرة عن ما يدور في المؤسسة الأمنية السّورية والعربية بحق المواطنين، فتلفيق أي تهمة لأي مواطن عربي سهلة جداً، فالمواطن المقهور لا يملك في الكثير من الحالات إلا الاعتراف على ما يريد من يعذّبونه، أو الموت بين يدي معذّبيه،حتى ولو كانت القضية لا أصل لها. هذه الحلقة تذكّرتها عندما بدأ الحديث يدور عن إلقاء القبض على " المندسّين" وفي تعليق لحقوقي سوري على هذا الخبر - اعتقل فيما بعد- لفضائية (فرنسا 24 ) قال للمذيعة تعقيباً على الخبر قبل نشر تفاصيله:- ( يا أختي أنت فتاة جميلة، ومذيعة جيّدة، إذا اعتقلت ليومين عند الأمن السّوري فستخرجين على التلفاز وتعترفين أنّك أيمن الظّواهري"؟! بعدها بيومين تحديداً نشر التلفزيون السّوري ما قال أنّها اعترافات لخليّة " إرهابية" خلية مرتبطة بنائب لبناني من كتلة الحريري، وهو من أمدّهم بالسّلاح والمال عبر وسيط، وهؤلاء مرتبطون بالإخوان المسلمين، ولم يتم توضيح كيفية تداخل الاتصال للخلية مع نائب علماني لبناني وإخوان سوريا المفترضين؟! طبعاً كانت نشرت في بداية الأحداث قصة مفبركة أخرى عن أسلحة ونقود في المسجد العمري في درعا وتمّ سحبها على عجل بعد أن ظهرت بطريقة " حلمنتيشية". يتساءل المراقب عن قدرة خليّة مفترضة من ثلاثة أشخاص على قتل مئات الجنود المدرّبين والمسلحين بكافّة الأسلحة، فالسّلطات تقول إنّ مئات الجنود قتلوا، وهذا القتل يتطلب مقاتلين على درجة عالية من التدريب والجاهزية والعتاد، فهل بقدرة من عرضوا على التلفاز القيام بكل ما نسب إليهم في وجه الأجهزة الأمنية السّوريّة؟. أمّا المصلحة في جرّ الحراك الشّعبي للعنف المضاد فهي ليست مصلحة شعبية ولا لأحزاب سياسية، فالأحزاب السّياسية تعلم أنّ جرها لمنازلة عسكرية مع النّظام عبارة مراهنة فاشلة، ولذلك تعتمد المعارضة العربية الطّرق السّلمية في الحراك، ومن يقتلون النّاس، ومن يقتلون الجنود معروفون للنّاس، ولا بدّ أنّ من يقتل المتظاهرين أمام الكاميرا، ثمّ يقوم بضرب وركل وسحل الجثث في الشّوارع في درعا وغيرها، لا يستبعد عنه أن يقوم بما هو أبشع خلف الكاميرا. هذا الأداء السّياسي والإعلامي والأمني "الحلمنتيشي" لم يعد هذا زمانه، ولا إمكانية لأن يلاقي قبولاً حتى عند من يثمّنون مواقف النّظام السّوري تجاه المقاومة العربية، فكتّاب وصحف كثيرة قالت كلمتها للرّئيس السّوري، ولكن من الواضح أنّ هناك من استسلم لفكرة المؤامرة الخارجية، واستمرأ الخطاب الحلمنتيشي، أملاً بتحقيق ما يعتبر أنّه استقرار على رقاب ودماء وحرّية الشّعب السّوري. الشّعب السّوري معروف أنّه شعب الزّعماء، وصمت لزّعماء على القهر والظّلم خلال الفترة السّابقة لم يكن نابعاً من قناعة بالخطاب الحلمنتيشي، ولكنّه كان نابعاً من تقدير شعبي لمواقف مشرّفة للنّظام تجاه حركات المقاومة، وكان الهاجس الأكبر لهذا الشّعب أن لا يزعج النّظام ويكشف ظهره- بمطالب داخلية هي حق له- في أوج الضّغط الخارجي عليه، ولكن الآن دقّت ساعة العمل، ولا حجج، ولا خطاب حلمنتيشي، ولا قمع دموي سيردع الشّعب السّوري عن نيل الحرّية، وقد نصحت الرّئيس السّوري في مقال قبل أكثر من سنة بقيادة الاصلاح السياسي بنفسه، وأقول له أنّه بحاجة لمن يصدقه القول والنّصيحة، ولا حاجة له إلى الحلمنتيشية، فقد انقضى عصرهم، وبزغ عصر الإبداع والحرّية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل