المحتوى الرئيسى

فلسفة الديمقراطية بين نظريتي الخلق والإلحاد بقلم:د. خالد صقر

04/16 22:50

فلسفة الديمقراطية بين نظريتي الخلق والإلحاد د. خالد صقر عندما نقول أن الديمقراطية ترتبط إرتباطاً فلسفياً وثيقاً بالإقرار بصحة الإلحاد العلمي الحداثي ، فإن هذا الكلام قد ‏يكون بعيدا تماماً عن إدراك الكثيرين ، لذلك أصبح من الواجب وضع بعض الملاحظات لبيان مدي إرتباط ‏الديمقراطية كنظام سياسي بالإلحاد العلمي الحداثي وما يتعلق به من نظريات علمية ، وجدير بالذكر في هذا ‏السياق التأكيد علي ارتباط فلسفة العلم بشقيه الحيوي والطبيعي بالنظريات الإجتماعية والسياسية الحديثة ‏1- هناك نظريتان فلسفيتان تفسران الوجود ، هما : (الخلق ‏Creationism‏) و (الإلحاد ‏Atheisim‏)‏ نظرية الخلق تعتمد أساساً علي (الإيمان) بوجود خالق هو الذي أحدث الوجود بكامله ، وهي النظرية التي يستند ‏إليها الإسلام والنصرانية واليهودية ، وبعض الديانات الوضعية كذلك ، يقول البروفيسور إيوجين سكوت [1] في ‏كتابه ” التطور في مواجهة الخلق – مقدمة” : (نظرية الخلق تنص علي أن الوجود الإنساني والحيوي علي سطح ‏الأرض والوجود الكوني كله قد أحدثه – أو صنعه – كيان فائق القوة يطلق عليه في نطاق هذه النظرية (الإله)”.‏ بينما نظرية الإلحاد تعتمد اساساً علي (الإيمان) بانعدام وجود (إله) في هذا الكون ، ومن ثم تفسير وجود كل ‏صور الحياة و الكون بأنها نتاج لبلايين من الصدف والأحداث العشوائية التي أدت لوجود هذا الكون بالشكل الذي ‏نعرفه الآن ، يقول إدواردز بول[2] في “موسوعة الفلسفة”: (الإلحاد هو أن يرفض الشخص مبدأ الوجود الإلهي ‏بصرف النظر عن صحة أدلته لهذا الرفض)‏ وبطبيعة الحال فإن الصراع الفلسفي والعلمي بين المساندين لكلتا النظريتين لايزال مستمراً منذ الإنتشار الحقيقي ‏للعلم التجريبي الحديث في نهاية القرن السابع عشر حتي يومنا هذا ، وحصر جوانب هذا الصراع وجبهاته يحتاج ‏لبضعة مجلدات ، ولكن الجدير بالذكر أن نظرية الإلحاد قد شهدت عدة قفزات فكرية وأصولية منذ إرتباطها ‏بشكل حصري بنظرية داروين للنشوء والإرتقاء ، مروراً بظهور النظرية النسبية علي يد ألبرت أينشتين ‏واكتشاف (التدقيق المتناهي ‏Fine Tuning‏ ) الذي اعتبره العديد من مؤيدي نظرية الخلق ضربة قاتلة للإلحاد ، ‏حتي الوصول إلي نظريتي الأكوان المتعددة والأوتار الفائقة اللتان كانتا من أهم نتائج التزاوج بين علم الفيزياء ‏الكونية وعلم ميكانيكا الكم ، واللتان اعتبرهما العديد من الملحدين تفسيراً كافياً للوجود في مواجهة نظرية الخلق ، ‏ومن المفيد في هذا السياق أن يرجع القارئ إلي كتاب رودني هولدر[3] “الإله ، الأكوان المتعددة ، وكل شئ” ‏للإلمام بطبيعة الصراع بين النظريتين.‏ ‏2- نظرية الخلق تقتضي – منطقيا وفلسفياً – كمال الخالق وإحكام سلطته علي الوجود وهذا الحتم المنطقي ينشأ أساساً من الإلمام بالطبيعة المحكمة والنظام المتناهي الدقة للكون ، فحيثما تحقق هذا ‏الإلمام كان الإعتقاد بكمال قدرة (الخالق) حتمياً. يقول البروفيسور آرثر كومبتون الحائز علي جائزة نوبل في ‏الفيزياء: (ليس من الصعب عليّ أن أحمل هذا الإيمان ، فإنه من غير الممكن الإختلاف علي أنه حيثما وجد ‏التخطيط ، وجد الذكاء – كون منظم محكم يشهد بحقيقة أعظم كلمة علي الإطلاق “وفي البداية كان الله”) ، ويقول ‏السير إسحق نيوتن في كتابه الخالد “الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية”[4]: (بالرغم أن هذه الأجسام الكونية ‏تستطيع البقاء في حركتها المدارية باتباعها لقوانين الجاذبية ، ولكن من المستحيل أن تكون هذه الأجسام قد ‏اكتسبت موضعها في هذه المدارات لأول مرة باتباعها لتلك القوانين …النظام البالغ الجمال الذي يتكون من ‏الشمس والكواكب والأقمار كان يمكنه الحدوث فقط من خلال القدرة والسلطة لكيان فائق القدرة والذكاء…الإله).‏ ‏3- نظرية الإلحاد – بشقيها الحيوي ‏biological‏ والطبيعي ‏physical‏ – تقتضي عشوائية وفوضوية الوجود ‏، ومن ثم عدم وجود أي سيطرة أو سلطة علي الوجود الشق الحيوي للإلحاد يتجسد بوضوح في نظرية تشارلز داروين التي فسر بها نشوء الحياة علي سطح الأرض ‏وتطورها إلي ظهور الإنسان والمعروفة بنظرية (التطور) ، وتقتضي هذه النظرية عدم وجود أي تدخل إلهي – ‏ومن ثم عدم وجود أي إله – في إحداث الحياة أو التحكم فيها أو السيطرة عليها في هذا الكون ، ينقل ريتشارد ‏هوفشادتر في كتابه “الداروينية الإجتماعية في الفكر الأمريكي”[5] علي لسان الفيلسوف الأمريكي تشارلز ‏هودج قوله بأن “الداروينية والإلحاد كلمتين مترادفتين” ، كما أكد علي هذا الترادف عالم الأحياء البريطاني ‏الأشهر ريتشارد داوكينز أيضاً في كتابه “سراب الإله” [6] ، وتتجسد العشوائية في نظرية داروين بقوة عند ‏الربط بين التطور الطبيعي والطفرات الجينية التي يفترض بها الخضوع لعشوائية رياضية هائلة لا يمكن التنبؤ ‏بها مسبقاً ، مما يهدم تماماً وجود أي تدخل (إلهي) لحدوث هذا التطور ، وجدير بالذكر أن ربط التطور الدارويني ‏بالطفرات الجينية العشوائية يمثل الآن الإتجاه السائد بين علماء الأحياء الداروينيين في العالم.‏ بينما يقف الجانب الطبيعي للإلحاد موقفاً أكثر وضوحاً من حيث ارتباطه بالعشوائية والفوضوية ، فنجد أن الكثير ‏من علماء الفيزياء الكونية وميكانيكا الكم قد اتجهوا منذ النصف الثاني من القرن العشرين إلي يومنا هذا لنظرة ‏الفوضي ‏Chaos Theory‏ لمحاولة إثبات العديد من نظرياتهم ، بالإضافة إلي إعتماد نظرية الأكوان المتعددة ‏Multiverse‏ ونظرية الأوتار الفائقة ‏String Theory‏ علي أسس رياضية تعتمد علي نظرية الفوضي في ‏تفسير التدقيق المتناهي للكون.‏ ‏4- الشرائع السماوية تعتبر تطبيق عملي لنظرية (الخلق) في النواحي الإجتماعية والسياسية من الحياة ‏البشرية حيث أن نظرية (الخلق) تقتضي الإيمان بوجود خالق للكون ، مستمر في حكم هذا الكون بسلطاته المطلقة ، ‏فيكون الإيمان بأن هذا الخالق له (هدف) أو (حكمة) من إيجاد هذا الكون ، وبالنسبة للأديان السماوية التي تعتبر ‏التجسد الوحيد لنظرية الخلق ، فإن هذه الحكمة مدارها بشكل رئيسي علي الإنسان.‏ ومن ثم يصبح الإيمان بوجود (أنبياء) مهمتهم تعليم البشر هذه (الحكمة) الإلهية من خلق الكون منطقياً أيضاً ، ‏وفي هذه الأديان الثلاثة تتمحور تلك الحكمة بين (العقيدة أو الإيمان) وبين (التشريعات) ، فبينما يقف الإسلام ‏موقفاً متزناً بالنسبة للعلاقة بين (العقيدة) و(قوانين الشريعة) ، نجد النصرانية تقف موقفاً يختزل (الحكمة الإلهية) ‏من خلق الكون في مسألة (الإيمان بالمسيح) فقط ، ونجد أن اليهودية تختزل تلك (الحكمة) في مسألة (تطبيق ‏شريعة إسرائيل) فقط ، وعلي هذا فيمكن القول أن الإيمان بنظرية (الخلق) تقتضي الإيمان بمقتضيات هذه ‏النظرية من حيث (العقيدة) و(التشريع) علي حدٍ سواء ‏5- تعتبر الديمقراطية تطبيقاً عملياً لنظرية (الإلحاد) في النواحي الإجتماعية والسياسية من الحياة البشرية فنظرية الإلحاد ، كما سبق ، تنص علي أن الوجود الكوني كله محض العديد من الأحداث العشوائية ‏Random ‎Events‏ التي صنعت الكون بكل عناصره التي يشاهدها الإنسان ، و بالتالي فإن المجتمع الإنساني ووجوده ‏وبقاؤه أيضاً خاضع لمجموعة مماثلة من الأحداث العشوائية باعتبار المجتمع الإنساني جزء من الوجود الكوني ‏ككل ، وعلي ذلك فإن المنظومات التي تحكم هذا المجتمع الإنساني (النظم السياسية) يجب أن تكون متماشية ‏ومتناسبة مع تلك الأحداث العشوائية التي تتحكم في المجتمع الإنساني ، وعلي هذا تصبح الديمقراطية كنظام حكم ‏يستند إلي (إرادة الشعب) التي تمثل أحد مظاهر التطور الإنساني أنسب تطبيق عملي لنظرية الإلحاد ما يخص ‏الحياة العامة للمجتمع الإنساني.‏ يقول تشارلز تايلور في كتاب “عصرٌ عالمانيٌ” [7] : (هناك نوع من الترابط أو الإنتظام بين حقوق الإنسان ، ‏والديمقراطية ، والإلحاد)‏ ويقول أكسل هادينيس في كتاب “نصر الديمقراطية وأزمتها” [8]: (إن الديمقراطية في معناها السياسي تعني ‏تحرر المجتمعات ‏liberalization of societies‏ ، وهذا التحرر هو نتيجة طبيعية لتطور الواقع السياسي ‏الإنساني ، وعلي هذا فإن الدين يكون متوافقاً مع الديمقراطية – فقط – عندما لا تعتبر الديمقراطية مصدراً ‏للسلطات. الديمقراطية لا دينية ‏Democracy is areligious‏).‏ ‏____________________________‏ المراجع ‏[1] ‏Eugenie C. Scott (2004). Evolution vs. Creationism: An Introduction. Berkley & ‎Los Angeles, California: University of California Press‏.‏ ‏[2] ‏Edwards, Paul (2005) [1967]. “Atheism”. In Donald M. Borchert. The ‎Encyclopedia of Philosophy. Vol. 1 (2nd ed.). MacMillan Reference USA (Gale‏)‏ ‏[3] ‏Rodney D. Holder (2004) God, the multiverse, and everything: modern cosmology ‎and the argument from design, Ashgate Publishing, Ltd‏.‏ ‏[4] ‏Isaac Newton, Mathematical principles of natural philosophy, Edited and ‎republished by: Florián Cajori, University of California Press, 1962‎ ‏[5] ‏Richard Hofstadter (1965) Social Darwinism in American thought, G. Braziller ‏[6] ‏Richard Dawkins (2006) The God Delusion, Bantam Books ‏[7] ‏Charles Taylor (2007) A secular age, Harvard University Press ‏[8] ‏Axel Hadenius (1997) Democracy’s victory and crisis, Cambridge University ‎Press

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل