المحتوى الرئيسى

«دعسة ناقصة» نموذج لبناني لرقص «البرايك دانس»

04/13 13:53

تجاربهم جاءت لتقول ما يريدون البوح به. الرقص بمثابة تعبير صارخ عن أحوالهم. هم لم يقصدوه بل هو جاء إليهم، هكذا يرددون دوما. ففي أزقة لبنانية عتيقة موشومة جدرانها برموز حربية وشعارات طائفية مقيتة طواها اللبنانيون منذ 25 عاما، جاءوا ليحتضنوا الشارع لا ليحتضنهم هو. رسموا فيه كل أحلامهم بواقعية «زيادة حبتين». فعبروا من خلال حركات راقصة عن مشاعرهم وانفعالاتهم. رقصوا ليخرجوا أثلام أوجاعهم كلها، من ضيق المعيشة والفقر إلى تعبهم من بلد غارق بديونه وانقساماته السياسية، ولا يقدم لهم فرصا ليطوروا أحوالهم ومواهبهم في ظل معيشة خانقة. وحدها الأزقة والشوارع استطاعت أن تؤمن لهم مساحة كاملة لتفريغ طاقاتهم وتحويلها إلى حلم. لا شيء سوى تلك الأمكنة المخفية في شوارع وحارات أسماؤها محفورة في أذهان اللبنانيين على أنها أمكنة للحرب وساحات اقتتال، استطاعت أن تحضنهم. أماكن تحولت اليوم إلى مسارح مفتوحة للتعبير، وممارسة هوايات حية ومساحات للتدريب على رقص الشارع. في بيروت العاصمة تكونت مجموعات منهم، لا اسم لها بشكل عفوي، من شبان مراهقين من مختلف الأعمار. استخدموا أرصفة «بيروتية» ضيقة لتكون مسرحهم بدلا من المسارح «الثقافية» المغلقة والمدفوعة عروضها سلفا. مسارح لا ترى في فنونهم شيئا يستحق العرض والتقدير. فشرعوا إلى استخدام الشوارع المفتوحة لتكون مكانا ملائما ليرقصوا بحرية بعيدا من جو الاقتتال الذي شهدته بيروت في السنوات الأخيرة «نحن كنا نرقص تحت القصف وأزيز الرصاص وهم كانوا يتسابقون إلى الثأر والقتل والتدمير»؛ يقول ربيع شما. ربيع مع مجموعة رفاقه أسسوا فرقة «رقص شارع» سموها «كراكيب». الاسم استوحوه من حياتهم التي «تشبه الكراكيب» كما يقول ربيع. والكراكيب في المفهوم الشعبي هي الأغراض المستعملة التي يضطر البعض إلى رميها. «كراكيب» هي فرقة محلية حصرت رقصها في شارع صغير ولم تطور نفسها بسبب «ضيق الإمكانات». أعضاء الفرقة يرقصون أنواعا مختلفة من «البرايك دانس»، كل واحد منهم حسب نوع الموسيقى التي يحب. فهناك «الراب» و«التاكنو» و«الهيب هوب» كلها نماذج موسيقية يرقص على أنغامها الشباب. يؤكدون أنهم لا يشبهون «السائد» من الفنون الراقصة. ما زال كثيرون يرون في رقصهم عبثا وجنونا وخروجا على المألوف. هم لا يكترثون لرأي أحد. يغامرون برقصهم ويكملون السير في الأزقة. وحده الرقص يستطيع أن يعبر عن حواسهم ويتآلف معها. يقول جان عقيقي (19 سنة) إنه بدأ الرقص منذ سن الثالثة عشر في «راس النبع» حيث يسكن مع عائلته في شقة صغيرة. جان هو الفتى الأصغر في العائلة التي هاجر منها 3 إلى ألمانيا وبقي وحيدا، لم يجد سوى الشارع ملعبا له. تعرف جان إلى روفايل ديب الذي دربه على رقص «البرايك دانس» فأعجب به وصار يتدرب كل يوم في زاروب الحي ويرقص. بعد فترة وجيزة كوّن جان مع رفاق له مجموعة راقصة لم يعطها اسما «بلا اسم أفضل» كما يقول، موضحا: «إذا صار لنا اسم لن يعود لنا أي تميز عن الآخرين». أما في طرابلس المدينة الواقعة في شمال لبنان، فهناك تكونت أول فرقة رقص شارع حقيقية وفاعلة ولها اسمها على صعيد لبنان. حيث صارت عروضها معروفة ومتعددة وتملك حضورها الواسع بين فئات الشباب، نظرا إلى مرونة أعضائها وتنوعهم بين ذكور وإناث وتدعى «دعسة ناقصة». التسمية الغريبة جعلت كثيرين يسألون عن الفرقة ويستقصون أخبار أفرادها. رغم أنهم مجموعة شباب عاديين جمعتهم مدينة واحدة ومدرب واحد وشغف واحد أيضا. يتدربون في كل مكان يتاح لهم الرقص فيه. في مداخل الأبنية وفي الأزقة وفي الحدائق العامة. يعتبرون كل الأماكن ملكا لهم. الفرقة تأسست منذ سنة ولكل واحد من أعضائها قصة. بدأوا كهواة وصاروا محترفين حتى صار الإقبال عليهم للاستفادة من مواهبهم في عروض الإعلانات والفيديو كليبات عاليا. خلقوا حالة خاصة بهم. رفضوا واقعهم السيئ وانتفضوا بثورة «الرقص». يقول مدرب الفرقة خضر شعبان (29 سنة) الملقب بـ«كودا» إن الفرقة بدأت بالتشكل منذ أعوام إذ كان هؤلاء الشبان يتدربون عنده في حي «باب التبانة» حيث المعارك بين العلويين والسنة. جاءوا صغارا في الثانية عشرة من عمرهم إليه وأصروا على تعلم الرقص وحركات الجمباز. منعهم من الانحراف ومن سلوك طريق المخدرات والتعاطي بحبوب الهلوسة ومنعهم أكثر أيضا من التدخين. يراهم ولا يصدق أنهم كبروا سريعا وصار كل واحد منهم في عمر التاسعة عشر. يجلس كأخ كبير معهم يطيعونه ويسمعون نصائحه ويستشيرونه في كل شيء. رغم أوضاعهم الصعبة جددوا إرادتهم في تعلم شيء ما ينتشلهم من حياتهم القلقة. فلا أفق أمامهم سوى الرقص. يعيشون في أزقة صغيرة. لا ينتبه أحد إلى تفاصيلهم أو إلى تلك الأشياء الصغيرة المختلفة التي تسكنهم. ينامون في بيوت لا تربطهم بها سوى غرف النوم، رغم أنها بيوت عائلاتهم. عائلات لم تكتشف ذوات هؤلاء أو تشجعها. يعيشون بين أسر فقيرة وبعضها متوسط الحال، لا قدرة لها على تنمية حواسهم ومواهبهم. لم يقبلوا بدفنها. حاولوا إخراجها واستطاعوا لأنهم آمنوا أن في كل واحد منهم شخصا يستحق حياة أفضل. وهم يضعون آمالهم الكبيرة في حلم يحاولون تحقيقه، داخل بيئتهم وجوّها مهما اختلفت ألوانه وتعقيداته، يبقى حلمهم هدفا لا محالة من الوصول إليه. محمد المصري (18 سنة) وهو راقص حائز على المرتبة الأولى في لبنان في رقص الشارع، يقول إنه استطاع من خلال البرايك دانس أن ينسى مشكلات عائلته وتذمر والده الدائم و«نقه». أما أمير المير (18 سنة) الذي يكمل دراسته ويعمل في الوقت نفسه، فيعتبر الرقص «مساحتي الخاصة» و«يفش» خلقه من خلاله. أما بلال فهو يرقص «تاكنو». يجذب إليه الكل في نمط رقصه الغريب. تحبه الفتيات المراهقات ويعجبن بشعره الطويل الذي يزيد من رقصه تألقا. وباولا الفتاة التي وجدت الرقص مع الفريق «ممتعا» فهي تقدم عرضها بخجل ورقة أنثوية هادئة تقول: «لا أشعر بالغرابة معهم. يخافون علي ويهتمون بي وصرت المدللة لديهم». لكل واحد منهم قصته المختلفة وسيرته، إلا أنهم جميعا يملكون شغفا واحدا. شغف يجمعهم رغم كل الشتات الذي يعيشون تفاصيله في وطن غارق بخلافاته السياسية ولا يزال ينتظر ولادة حكومة جديدة. إلا أنهم ما زالوا يتشبثون به وطنا لا بديل عنه. يدركون معنى الهجرة والعمل في الخارج من خلال نماذج قريبة من محيطهم أو بعضها من منازلهم وعائلاتهم. لا يعرفون سوى الرقص سبيلا إلى تغيير نمط حياتهم وإخراجها من حياة التسيب والضياع. وبعضهم يعترف عاليا أن لا شيء في حياته يستحق الاندفاع من أجله سوى الرقص.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل