المحتوى الرئيسى

إنّنا نموت لنعيش في عالم افتراضيّ بقلم:عبد الرزاق قيراط

04/08 19:50

زرت باريس منذ سنوات قليلة في رحلة مدرسيّة. و كانت زيارتي الأولى، أعجبت بكلّ ما شاهدته في عاصمة الأنوار من متاحف و مسارح و أبراج و بهرني جمالها و عدت إلى وطني بصورة واحدة علقت بذاكرتي و حيّرت تفكيري. كان المشهد أمامي غريبا فبينما كنت في حوار مع طلابي نستعدّ للخروج في زيارة لأحد المتاحف، لفت انتباهي ثلاثة من روّاد مركز الإقامة الذي نزلنا به، و هم في سنّ الشباب قد جلسوا معا إلى نفس الطاولة و لكن لم يدر بينهم أيّ حوار على الإطلاق. كان لكلّ واحد منهم حاسوب و سمّاعة و مصدح متّصل بها فتخاطبوا و ضحكوا و تساءلوا و لكن بأصوات خافتة و مع أشخاص غير موجودين في تلك القاعة. تحاوروا مع أصدقائهم أو عائلاتهم البعيدين عنهم. و ظلّوا على تلك الحال مدّة من الزمن كنت أنتظر خلالها أن يتبادل أولائك الشبان بعض الكلمات فيما بينهم و لكن هيهات. جمعتهم الطاولة و ارتبطوا بشبكة الأنترنت فقط بينما تفرّقت أفكارهم و أرواحهم لتسبح في بحورها الخاصّة. و خرجت من مركز إقامتنا وأسئلة جديدة تستفزّني، فأنا قادم من جنوب المتوسّط حيث مازلنا نتجالس في البيت أو في المقهى و نصخب في أحاديثنا و تعلو ضحكاتنا فهل سيحدث هذا الذي شاهته لنا في المستقبل القريب ؟ ثمّ توالت الأشهر و السنوات و بدأت الإجابة عن سؤالي تتشكّل أمامي و بدأ المشهد يتغيّر من حولي و أصبح أسمع الناس يشتكون من التفكّك الأسري بسبب الأنترنت التي دخلت كلّ بيت فلم تعد للأسرة أوقات تجتمع فيها إلا نادرا فلا طعام يجمعها و لا سهرة تلفزيونيّة تجذبها و إنّما لكلّ قناته الخاصّة في غرفته أو موقع على الشبكة يقضّي معه الساعات الطويلة زائرا مشاهدا أو مشاركا مخاطبا. إنّ العالم يتغيّر من حولنا و نحن نتغيّر معه و أفكارنا و مفاهيمنا القديمة عن الأسرة و الصداقة و الوطن و الدين و الزمان و المكان بدأت تتعرّض في أحيان كثيرة إلى المراجعة. فكلّ مظاهر الحياة الاجتماعيّة الحقيقيّة تتراجع بنسق سريع لحساب حياة افتراضيّة تفرض نفسها يوما بعد يوم على جميع الفئات مع التطوّر و الانتشار الواسع لوسائل الاتّصال بأنواعها. أين رسالتك التي تحمل طابعا بريديّا و دمغة تقرأها ثمّ تحفظها في درج مكتبك؟ أين جريدتك التي كنت تمسك بها و تقلّب صفحاتها لقراءة أخبارها و مقالات كتّابها؟ كلّ الورق أصبح ساكنا لا تحرّكه النسائم و لا تمسكه الأيادي يتراجع بيعه في الأكشاك و توزيعه على صناديق البريد، و لعلّها مسألة وقت قصير لانقراض التعاملات الورقيّة تماما لصالح كلّ ما هو رقميّ على شاشة حاسوبك. حينئذ سيغيب موزّع البريد الذي يتجوّل بدراجته الهوائيّة و محفظة رسائله فيقول لك صباح الخير و يسلّمك رسالة حبيب أو فاتورة خدمات الكهرباء و الماء و الهاتف. سيغيب ذلك الرجل نهائيّا فكلّ الفواتير و كلّ الرسائل ستكون محفوظة على هيأة أخرى في مكان ما من الشبكة العنكبوتيّة، و سيكون عليك أنت أن تذهب إليها و تطرق بابها بعد أن كانت تطرق أبوابك. ليس هذا فقط فالأخطر من كلّ ذلك أنّ علاقات الصداقة و الحبّ و حتّى الجنس صارت مجرّد مواعيد افتراضيّة و قد يكون لأصحابها عشرات الأسماء و الهويّات المستعارة. الأسرة في خطر و الإنسان يسير نحو التخلّص من هويّته الجسديّة الحيّة إلى هويّة شكليّة هي مجرّد صورة بل صور يغيّرها كلّما شاء و كيفما شاء. أخاف من كلّ ذلك و لكنّني أستيقظ في كلّ صباح فأفتح الرسالة الإلكترونيّة و الجريدة الإلكترونيّة و أتّصل بصورة رقميّة لصديق بعيد و أرسل له في الأعياد باقة ورد إلكترونيّة لا يردّ عليها بأجمل منها فكلّ الباقات الإلكترونيّة متشابهة تفتقر إلى الرائحة و الطعم. و أنتبه يوما بعد يوم إلى تلك الساعات الطويلة التي أقضيها جالسا أمام الحاسوب لأعيش حياتي الافتراضيّة فأغضب أحيانا من هذا الوضع الجديد و أقرّر أن أخرج مع زوجتي و أبنائي للقيام بنزهة في الطبيعة الخضراء لرؤية الناس و التحدّث إليهم، فتتردّد زوجتي لأنّها على موعد مع صديقتها الجديدة التي ستحاورها في أحد مواقع الدردشة. و ترفض ابنتي الكبرى التي لم تعد تحبّ الناس و لا الخروج لرؤيتهم و لا تسمعني ابنتي الصغرى و لا تجيبني لأنّها مشغولة بلعبتها الإلكترونيّة التي لا تبارحها إلا بعد التهديد بالعقاب . أتأمّل المشهد من حولي فيعتريني شعور أنّ زوجتي و أبنائي ليسوا حقيقة ملموسة. هم مجرّد أشخاص افتراضيين لا أتكلّم معهم إلاّ نادرا. و قد أكون أنا أيضا مجرّد أب افتراضيّ فمن يدري، ربّما أقف أمام المرآة يوما فلا أرى صورتي. المشكلة الأخرى و ليست الأخيرة أنّنا حين نموت حقيقة سنظلّ أحياء في ذلك الفضاء الافتراضيّ ما دامت حساباتنا و صورنا و رسائلنا الرقميّة قيد التفعيل، فمن نحن في تلك الحالة؟ لعلّنا نكون أولائك الأموات الذين ماتوا مرّتين، الأولى حين دخلنا العالم الافتراضيّ و الثانية حين قبض عزرائيل أرواحنا. عبد الرزاق قيراط. تونس.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل