المحتوى الرئيسى

هل يفقد الدولار موقعه كـ «عملة احتياط» عالمية؟

04/06 03:20

 لندن: موسى مهدي حينما يمر العالم بمرحلة اضطراب عادة ما يهرع المستثمرون تلقائيا إلى تحويل أموالهم إلى الدولار، على أساس أنه «خزين آمن» لحماية ثرواتهم. ولكن يلاحظ أن هذا التوجه تراجع في العام الحالي الذي شهد مجموعة من الاضطرابات السياسية في منطقة الشرق الأوسط وكما شهد كارثة الزلزال وما تلاه من تسونامي في اليابان، إضافة إلى أزمة المديونية في أوروبا التي تتعمق بعد سقوط الحكومة البرتغالية وارتفاع الفائدة على سندات الدين إلى 12.4 في المائة. ورغم ضخامة هذه الكوارث والأزمات، يلاحظ أن الدولار تراجع وبمعدلات كبيرة في أسواق الصرف، كما أن الثروات بدلا من أن تتوجه إلى الدولار وترفع قيمته، خرجت منه إلى عملات أخرى على رأسها الفرنك السويسري. ووفقا لتوقعات مصرف «غولدمان ساكس» فإن الدولار مرشح للانزلاق بمعدل كبير خلال الـ12 شهرا المقبلة، مع توجه بنك الاحتياط إلى تنفيذ حزمة «تيسير كمي» ثالثة. وحسب توقع المصرف الأميركي في تقريره الصادر يوم الأربعاء الماضي واطلعت عليه «الشرق الأوسط»، فإن الدولار قد ينزلق أمام الإسترليني واليورو والفرنك السويسري. ولا يستبعد المصرف أن يرتفع الإسترليني إلى 1.85 دولار، خلال العام الحالي. ويلاحظ أن الفرنك السويسري الذي حقق خلال الـ12 شهرا الماضية ارتفاعا بمعدل 8.0 في المائة مقابل العملات الـ10 الرئيسية، أصبح عملة «الملاذ الآمن» الرئيسية بعد تدهور قيمة الدولار. ولكن هل يعني هذا الانزلاق الذي بدأ منذ منتصف العام الماضي ومن المتوقع أن يتواصل طوال الشهور المقبلة أن الدولار بدأ يفقد تدريجيا مكانته كحافظ للثروة من التآكل في لحظات الأزمات، أم أن هنالك عوامل عارضة أثرت في قيمة سعر صرف العملة الخضراء. هنالك أكثر من علامة استفهام حول أداء الدولار وأكثر من تفسير يطرحه الخبراء خلال الفترة الماضية ولكن هل هي مقنعة وكافية لتبرير انخفاضه الكبير منذ بداية العام الحالي. بقراءة مؤشرات أسعار الصرف يلاحظ أن سعر صرف العملة الأميركية واصل الانخفاض مقابل العملات الرئيسية منذ بداية العام، حيث فقد قرابة 7.0 في المائة من قيمته مقابل العملات الست الرئيسية، منذ السابع من يناير (كانون الثاني) وقرابة 14 من قيمته منذ يونيو (حزيران) الماضي. والعملات الست الرئيسية التي تشكل النصيب الأكبر من سوق الصرف العالمية والاحتياطات النقدية إلى جانب الدولار، هي اليورو والين والإسترليني والفرنك السويسري والدولار الكندي والدولار الأسترالي. بعض خبراء الصرف والمال يقولون إن انخفاض الدولار بهذا المعدل الكبير حدث بسبب التوقعات الخاصة بمعدل سعر الفائدة الأميركية، مقارنة بأسعار الفائدة المتوقعة في الاقتصاديات الرئيسية. وهي توقعات ترجح أن يحتفظ بنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) بمعدل الفائدة المنخفض لفترة أطول مقارنة مع البنوك المركزية الأخرى التي تدير الاقتصادات الرئيسية في أوروبا وآسيا. كما يبررون كذلك الانخفاض الكبير في سعر صرف الدولار، رغم حدة الأزمات والاضطرابات بقولهم إن الأزمة المالية التي ضربت النظام المالي العالمي في عام 2008، أثارت مخاوف عميقة وسط المستثمرين ودفعت السيولة العالمية والثروات إلى التحول من العملات الأخرى إلى الدولار وبالتالي فإن قيمة الدولار السوقية منذ ذلك الحين ارتفعت إلى مستوى أعلى من القيمة الحقيقية. ومن هذا المنطلق فإن ما يحدث الآن من تراجع في قيمة الدولار هو عملية تصحيح في قيمة العملة الأميركية التي ارتفعت في سنوات الأزمة المالية فوق قيمتها الحقيقية. وبالتالي ما يحدث الآن من انخفاض هو تصحيح في قيمة العملة الخضراء أكثر منه انخفاضا. وهنالك خبراء نقد يعتقدون أن أميركا تستهدف إضعاف الدولار في إطار «حرب العملات» بين مجموعة العشرين لزيادة الصادرات الأميركية. وهذه التبريرات صحيحة إلى درجة ما. ولكن على أية حال ومهما كانت صحتها فإن من المؤكد أن الدولار فقد بعضا من ألقه كعملة «ملاذ آمن» خلال الآونة الأخيرة وربما يكون لذلك انعكاسات على الاقتصاد الأميركي والعالمي في السنوات المقبلة. وربما يدعم مكانة الدولار كعملة عالمية وحيدة دون منافس هو ضعف العملات الأخرى. فاليورو لا يزال يئن تحت سياط الدائنين واليوان لم يتحرر بعد من سيطرة الاقتصاد المركزي الصيني، حتى يصبح عملة حرة يمكن المتاجرة بها في أسواق الصرف ونظام التسويات التجارية الدولية. وبالتالي يمكن أن يكون الدولار حتى الآن «أقوى الضعفاء»، وليس قويا. وبالتالي تظل مخاطر انزلاق الدولار، قائمة ولكنها هذه المخاطر قد تأخذ وقتا وسط الديون المتفاقمة للولايات المتحدة والعجز المتزايد والإنفاق الأميركي المتواصل وضعف الإنتاج المحلي والصادر. ولا يبدو أن عوامل السياسات النقدية ومؤشرات الاقتصاد الكلي الراهنة والمتوقعة على المدى القصير تدعم صعود الدولار كما يرى مصرف «غولدمان ساكس». على صعيد السياسة النقدية، تشير التوقعات إلى أن بنك الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) سيبقي على سعر الفائدة المنخفض والمقارب للصفر طوال العام. وما يدعم هذا التوقع تصريحات رئيس مصرف الاحتياط بين بيرنانكي التي أوضح فيها مرارا أنه سيبقي على سعر الفائدة منخفضا على المدى القصير وأنه سيضحي باحتمالات ارتفاع التضخم في سبيل دعم النمو الذي يمنحه الأولوية. ومعروف أن سعر الفائدة كلما كان منخفضا ساهم في انخفاض قيمة العملة مقارنة بمنافساتها. وبالتالي فإن سعر صرف الدولار لن يستفيد من الفائدة المنخفضة، بل سيتضرر منها خلال العام الحالي. وهنالك أكثر من 50 عاملا تؤثر في المنحنيات السعرية للدولار في أسواق الصرف العالمية. ولكن من المهم الإشارة إلى العوامل الأربعة الرئيسية. أولا: على صعيد الاقتصاد الكلي من المتوقع أن يشهد العام الحالي تحسنا بطيئا في انخفاض معدل البطالة. وحسب تقديرات بين بيرنانكي فإن عودة معدلات البطالة إلى مستوياتها الطبيعية (5 إلى 6 في المائة) مقارنة بمعدلها الراهن 9.8 في المائة سيأخذ فترة تتراوح بين 4 و5 سنوات. وبالتالي لن يدعم هذا التحسن البطيء في مستوى البطالة سعر صرف الدولار. ثانيا: على صعيد النمو، يلاحظ أن مصرف الاحتياط راجع توقعاته للنمو الأميركي في نهاية العام الماضي بسبب انخفاض عدد الوظائف الجديدة التي توفرت وعوامل أخرى كان يراهن عليها لم تتحقق. وحسب هذه المراجعة فإن التوقعات تشير إلى أن الاقتصاد الأميركي سينمو خلال عام 2011 بمعدل أقل يتراوح بين «3 و3.5» مقارنة بالتوقعات السابقة «3.5 و4.2». وبما أن مصرف الاحتياط خفض توقعات النمو، ولا يرى أن هنالك حاجة لمكافحة التضخم، فإن هذا المعدل لن يدعم سعر صرف الدولار. ثالثا: على صعيد ميزان الحساب الجاري أو الميزان التجاري، فإن هنالك تحسنا في حجم الصادرات الأميركية ولكن هذا الارتفاع ليس بالمستوى الذي يدعم الدولار. يلاحظ أن الصادرات الأميركية إلى الصين ارتفعت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بمقدار 9.5 مليار دولار، وهو ما يعني تحسنا ولكن ليس بالدرجة الكافية إذا أخذنا في الاعتبار أن الولايات المتحدة عانت لفترة طويلة من تراكم العجز التجاري الذي بلغ في المتوسط خلال العام الماضي نحو مليارين دولار يوميا، أي أكثر من 720 مليار دولار في العام. أما العامل الرابع والأخير هو سياسة التيسير الكمي التي زادت من حجم الكتلة النقدية للمرة الثانية عبر تنفيذ مشتريات لسندات دين حكومية وغير حكومية. كان آخرها مشتريات بلغت قيمتها 800 مليار دولار. هذه السياسة النقدية عملت على خفض قيمة الدولار ولا تزال آثارها تضعف الدولار. من هذا المنطلق يتفق خبراء النقد على أن فرص تحسن سعر صرف الدولار ستكون ضئيلة في المستقبل القريب، إن لم تكن معدومة، خاصة أنه فشل في الاستفادة من أزمات اليورو والين. ولكن هل الدولار الضعيف مفيد للاقتصاد الأميركي وهل فعلا مصدر خطر على أميركا. يلاحظ أن الدولار الضعيف قد ساعد في كثير من الأحيان على زيادة الصادرات وأن الكثير من الدول التي بنت قوة نموها على الصادرات تعمل على جعل عملتها ضعيفة لتقوية الميزة التنافسية لبضائعها في السوق العالمية. ولكن ماذا على الصعيد المحلي وسوالب ضعف الدولار على تدفق الاستثمارات إلى أميركا وتمويل العجز. على الصعيد المحلي، فإن الدولار الضعيف سيرفع من معدل التضخم في الولايات المتحدة. حيث سيرفع الدولار الضعيف قيمة فاتورة الاستيراد في أميركا وقيمة السلع المستوردة على المستهلك. وبالتالي سيجد المواطن الأميركي أنه أمام فاتورة أعلى لمشتريات البنزين والإلكترونيات وأسعار التذاكر والسياحة إلى أوروبا وعدد من المستلزمات المستوردة. وهذا على الأجل القصير، ولكن إذا تواصل الضعف واستمر لفترة طويلة فإن ذلك ستكون له انعكاسات خطيرة على الاقتصاد الأميركي الذي يواجه عجزا كبيرا في الميزانية تدفعه للاستدانة باستمرار لمقابلة التزامات الإنفاق. وعادة ما تقوم وزارة الخزانة الأميركية بمزادات بيع السندات للأجانب في سبيل الحصول على تمويل. وتمثل جاذبية سندات الخزانة الأميركية أهمية خاصة في تمويل العجز الحكومي، لأن المستثمرين الأجانب من أصحاب الوفورات في آسيا ودول النفط وحتى أوروبا يرغبون في الحصول على عوائد ثابتة ودخول مستقرة عن استثماراتهم. وكان الدولار حتى وقت قريب يوفر هذا الغرض وبالتالي تنهال الأموال على أميركا من كل أنحاء العالم. بهذا الأسلوب تمكنت أميركا طوال العقود الأخيرة ومنذ الستينات من القرن الماضي من تمويل العجز بسهولة ودون أن تواجه أية صعوبة لضخامة الأموال المتدفقة عليها. ولكن إذا تواصل انخفاض قيمة الدولار لمدة طويلة مقابل العملات الرئيسية وأبقى «الاحتياط الفيدرالي» سعر الفائدة المنخفض في أميركا، بالتأكيد سيفقد المستثمرون الدوليون والمدخرون في أنحاء العالم الميزة التي كانت تجذبهم إلى الولايات المتحدة ووضع مدخراتهم في الدولار. وإذا صاحب هذا الضعف قوة في سعر صرف العملات المنافسة مثل اليورو والين فإن ذلك سيرفع من احتمال حدوث تغير في اتجاه حركة السيولة العالمية وربما تتحرك الادخارات والوفورات من الدولار إلى اليورو وعملات أخرى توفر عائدا أفضل. عامل سعر الفائدة: سعر الفائدة المرتفع يعمل عادة على زيادة سعر صرف العملة، لأن المستثمر الأجنبي يحقق نسبة أرباح أعلى على استثماراته. ويلاحظ أن بنك الاحتياط الفيدرالي أكد أكثر من مرة أنه يعمل على الاحتفاظ بنسبة فائدة تقارب الصفر على المدى القصير فيما يؤكد منافسه المصرف الأوروبي أنه يعمل على زيادة معدل الفائدة في المدى القصير. ويتجه بنك «إنجلترا»، البنك المركزي البريطاني، إلى رفع سعر الفائدة لمكافحة التضخم خلال الشهور المقبلة. ويتخذ البنك الأوروبي سياسة رفع سعر الفائدة، بهدف تقليل فاتورة النفط التي ارتفعت (النفط فوق 110 دولارات) وكذلك تعويض الزيادة في أسعار السلع الرئيسية. وعلى الصعيد البريطاني فإن بنك إنجلترا يرفع معدل الفائدة لمكافحة التضخم الذي من المتوقع أن يواصل ارتفاعه إلى أكثر من 4.0 في المائة في المتوسط خلال العام الحالي. وفي اليابان التي ضربها الزلزال، الشيء الطبيعي المتوقع أن تنخفض قيمة الين مقابل الدولار ولكن الين فاجأ الجميع والارتفاع إلى أعلى مستوياته منذ الحرب العالمية الثانية بسبب توجهات المضاربين الذين توقعوا أن تحول الشركات اليابانية مدخراتهم الخارجية إلى الين لمقابلة نفقات السيولة كما توقعوا كذلك أن تقوم شركات التأمين بدفع تعويضات ضخمة تصل إلى قرابة 40 مليار دولار، هذه الأموال ستحول من الدولار والعملات الأوروبية إلى الين. وبالتالي توقعت أسواق الصرف أن يرتفع الطلب على الين بمعدل كبير خلال الشهور المقبلة. هذا التوقع هو الذي دفع الين إلى الارتفاع إلى مستوياته التاريخية. ولكن رغم المخاوف من انزلاق الدولار من موقعه المهيمن، يلاحظ أن هنالك عدة عوامل تدعم بقاء الدولار كـ«عملة احتياط» عالمية على المدى القصير. وما يدعم ذلك ليس قوة الدولار ولكن ضعف العملات الرئيسية التي تنافس الدولار. حيث يعاني اليورو من أزمة مديونية تهدد مستقبل بقائه كعملة موحدة للاتحاد الأوروبي. كما أن العملة الصينية لم يتم تحريرها بعد وبالتالي لا تزال خارج نظام الصرف الحر. ومن المتوقع أن يعاني الين على المدى القصير من كارثة الزلزال والتسونامي وتداعياتها على صعيد مفاعلات توليد الطاقة الذرية. أما الإسترليني فيواصل التراجع من حيث حصته في احتياط النقد العالمي بسبب انكماش اقتصاد بريطانيا وتراجع تأثيرها العالمي. والعملة الوحيدة التي تملك القوة والاستقرار في سوق الصرف العالمية هي الفرنك السويسري. ولكن حصتها ضئيلة ولا ترقى لمنافسة الدولار. من هذا المنطلق يمكن القول إن الدولار سيبقى على المدى القصير وربما المتوسط كـ«عملة احتياط عالمية» ولكن على المدى الطويل هنالك شكوك تحيط بمستقبله. ومن أهم العوامل التي تهدد موقعه على المدى الطويل، قنبلة العجز الأميركي الذي بلغ أكثر من 4 تريليونات دولار والمديونية الأميركية التي فاقت الـ14 تريليون دولار وباتت خدمة فوائدها تأكل جزءا كبيرا من الدخل القومي الأميركي. إضافة إلى هذين العاملين احتمال أن تحرر الصين تحريرا كاملا عملتها (اليوان) خلال السنوات الـ10 المقبلة وتصبح متداولة بحرية في سوق الصرف العالمية. عدا ذلك فإن أميركا لا تزال دولة غنية بالموارد ومتفوقة تقنيا وقادرة على تغيير موازين التجارة الدولية.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل